الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقف الشريعة الإسلامية من خروج الأطباء ومساعديهم عن الأصول العلمية:
أجازت الشريعة الإسلامية فعل الجراحة الطبية رحمة بالعباد، ودفعًا لضرر الأسقام والأمراض عنهم فأذنت للأطباء، ومساعديهم بفعل الأمور التي تستلزمها الجراحة مع أنها محرمة عليهم في الأصل.
كل ذلك طلبًا لتلك المصالح التي يرجى تحققها وحصولها بعد الجراحة، ودفعًا لضرر الأسقام والأمراض الذي يرهق كاهل المرضى ويهدد حياتهم بالخطر.
لكن هذا الإذن بفعل الجراحة إنما تعني به الشريعة فعلاً مخصوصًا شهد الأطباء المختصون بكونه الطريق الذي ينبغي التزامه وسلوكه للوصول إلى ما حقق تلك المصالح الجلية، ويدفع تلك المفاسد العظيمة، بناء على الغالب.
فإذا خرج الأطباء ومساعدوهم عن ذلك الطريق، فإن أفعالهم ترجع إلى حكم الأصل الموجب لمنعهم من المساس بالجسد على وجه يعرضه للهلاك والتلف.
وقد أشار بعض فقهاء الإسلام رحمهم الله إلى ذلك حينما حكموا بوجوب الضمان على الخاتن الذي تجاوز في قطعه الحد المعتبر، والقاطع للسلعة الذي تجاوز الموضع، أو قطع في غير زمان القطع أو بآلة كآلة يكثر ألمها، وقاسوه على الجاني المعتمد.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "فأما إن كان حاذقًا وجنت يده مثل أن يتجاوز قطع الختان إلى الحشفة أو إلى بعضها، أو قطع في غير محل القطع، أو يقطع الصلعة من إنسان فيتجاوزها، أو يقطع بآلة كآلة يكثر ألمها، أو في وقت لا يصلح القطع فيه وأشباه هذا ضمن فيه كله، لأنه إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ، فأشبه إتلاف
المال، ولأن هذا فعل محرم فيضمن سرايته كالقطع ابتداءً" (1) اهـ.
فبين رحمه الله أن مجاوزة الخاتن والقاطع للحدود المعتبرة للختان، والقطع أمر موجب للضمان، وحكم بحرمته في قوله:"ولأن هذا فعل محرم" فرده إلى الأصل، كما اعتبره بمثابة القطع على وجه الجناية وذلك بقوله:"كالقطع ابتداء".
وهذا كله يدل دلالة واضحة على وجوب اعتبار الأصول العلمية والتقيد بها أثناء القيام بمهام الجراحة الطبية، وأن مخالفتها والخروج عنها أمر محرم وموجب للمسئولية، وهو الأمر الذي أكده الإمام الشافعي رحمه الله من قبل بقوله: "وإذا أمر الرجل أن يحجمه، أو يختن غلامه، أو يبيطر دابته فتلفوا من فعله، فإن كان فعل ما يفعل مثله مما فيه الصلاح للمفعول به عند أهل العلم بتلك الصناعة فلا ضمان عليه، وإن كان فعل ما لا يفعل مثله من أراد الصلاح وكان عالمًا به فهو ضامن
…
" (2).
فاعتبر رحمه الله الأصول العلمية المتبعة عند أهل العلم بمهمة الجراحة فأسقط الضمان بالتزامها وأوجبه بالخروج عنها.
وهذا الاعتبار الذي تضمنه كلام هذين الإمامين الجليلين نجده محل اتفاق بين أهل العلم رحمهم الله، كما أشار إلى ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله فقال:"وإن كان الخاتن عارفًا بالصناعة، وختن المولود في الزمن الذي يختن فيه مثله، وأعطى الصناعة حقها، لم يضمن سراية الجرح اتفاقًا"(3) اهـ.
ومن هذا كله نخلص إلى القول باعتبار الشريعة الإسلامية لخروج الأطباء، ومساعديهم عن الأصول العلمية أمرًا موجبًا للمسئولية المهنية
…
والله أعلم.
(1) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 120، 121.
(2)
الأم للشافعي 6/ 166.
(3)
تحفة المودود لابن القيم 153.