الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما القاعدة الثانية فقد دلت على حرمة الإضرار بالغير، والتشريح فيه إضرار بالميت فلا يجوز فعله.
الترجيح:
الذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو جواز تشريح جثة الكافر، دون المسلم وذلك لما يلي:
أولاً: لأن الأصل عدم جواز التصرف في جثة المسلم إلا في الحدود الشرعية المأذون بها والتشريح ليس منها، فوجب البقاء على الأصل المقتضي للمنع، وهذا الأصل يسلم به القائلون بجواز التشريح وإن كانوا يستثنون التشريح اعتبارًا منهم للحاجة الداعية إليه.
ثانيًا: أن الحاجة إلي التشريح يمكن سدها بجثث الكفار، فلا يجوز العدول عنها إلى جثث المسلمين، لعظيم حرمة المسلم عند الله تعالى حيًا كان أو ميتًا.
ثالثًا: أن أدلة المنع يمكن تخصيصها بالمسلم دون الكافر، فلا حرج في إهانته لمكان كفره، كما قال تعالى:{وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (1)، قال الخازن (2) رحمه الله في تفسيره: "أي من
(1) سورة الحج (22) آية 18.
(2)
هو: الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر بن خليل الشيحي البغدادي، ولد رحمه الله ببغداد سنة 678 من الهجرة وهو مفسر، فقيه، محدث، مؤرخ توفي رحمه الله سنة 741 من الهجرة، وله مؤلفات منها: لباب التأويل في معاني التنزيل، شرح عمدة الأفهام في شرح الاحكام، والروض=
يذله الله فلا يكرمه أحد" (1) اهـ.
ولاشك في أن الكفار ممن أذلهم الله تعالى.
وأما أحاديث النهي عن المُثلة: فقد ثبت ما يخصصها كما في قصة العرنيين (2)، وآية المحاربين (3). فإذا جاز التمثيل لمصلحة عامة وهي زجر الظلمة عن الاعتداء على الناس، فكذلك يجوز التمثيل بالكافر طلبًا لمصلحة عامة ينتظمها الطب الذي من أجله شرحت جثة الكافر، إضافة إلى أن بعض العلماء يرى أن النهي للتنزيه (4)، وحديث تحريم كسر عظم الميت خاص بالمؤمن كما هو منصوص عليه في نفس الحديث.
وأما أحاديث النهي عن الجلوس على القبر فإنها تدل على تأذي الميت بذلك وهذا يتفق مع ما سبق ذكره من تخصيص المسلم بالمنع، وأما الكافر فإن إيذاءه بعد موته مقصود شرعًا، فلا حرج في فعله.
رابعًا: أن استدلال القائلين بجواز التشريح مطلقًا بقياسه على نبش قبر الميت لأخذ الكفن المغصوب مردود بكونه قياسًا مع الفارق.
= والحدائق في تهذيب سيرة خير الخلائق. معجم المؤلفين لكحالة 7/ 177، 178.
(1)
تفسير الخازن 4/ 7.
(2)
وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم "قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا" رواه مسلم 3/ 93، 94.
(3)
قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} سورة المائدة (5) آية 33.
(4)
قال الإمام النووي رحمه الله: "وقال بعضهم: النهي عن المثله نهي تنزيه ليس بحرام" اهـ. شرح صحيح مسلم للنووي 11/ 154.
ووجه ذلك: أن الأصل المقيس عليه فيه مساس بالجسد بخلاف الفرع، وجاز فعل النبش لمكان الحق المغصوب، فكان الميت متسببًا في أذية نفسه بخلاف الفرع الذي لا علاقة للميت بمصلحته ولم يتسبب فيما يوجبها بأي وجه من الوجوه، ثم إن نبش قبره لذلك الغرض لا يستغرق إلا زمنًا يسيرًا ثم يعاد إلى القبر الذي سيواري الجثة بدلاً عن الكفن، بخلاف التشريح الذي يستغرق الساعات، بل والأيام العديدة!!!.
خامسًا: أن تشريح جثة المسلم يعطل عن فعل كثير من الفروض المتعلقة بها بعد الوفاة، من تغسيلها وتكفينها، والصلاة عليها، ودفنها.
وهو مخالف لما ثبتت به السنة من الأمر بالمبادرة بالجنائز والإسراع بها، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسرعوا بالجنازة
…
" (1)، فلا يجوز تعطيل جثة المسلم وتأخير هذه المصالح المطلوب فعلها بعد الوفاة مباشرة لمصلحة لا تتعلق بالميت، ولم يتسبب في موجبها، وإنما هي من مصالح الغير المنفكة عنه.
لهذا كله فإنه يترجح في نظري القول بجواز تشريح جثة الكافر دون المسلم، ولكن ينبغي أن يتقيد الأطباء وغيرهم ممن يقوم بمهمة التشريح بالحاجة، فمتى زالت، فإنه لا يجوز التمثيل بالكافر بتشريحه حينئذ، لأن ما جاز لعذر بطل بزواله (2). والله تعالى أعلم.
(1) رواه البخاري في صحيحه 1/ 228، ومسلم 2/ 373.
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي 85، والأشباه والنظائر لابن نجيم 86.