الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع أن تتوفر الأهلية في الطبيب الجراح ومساعدية
يشترط لجواز فعل الجراحة الطبية أن يكون الطبيب الجراح أهلاً (1) للقيام بها، وأدائها على الوجه المطلوب، ويتحقق هذا الشرط بوجود أمرين:
الأول: أن يكون ذا علم، وبصيرة بالمهمة الجراحية المطلوبة.
الثاني: أن يكون قادرًا على تطبيقها، وأدائها على الوجه المطلوب.
فأما علمه وبصيرته بالعمل الجراحي المطلوب فإنه أمر لابد منه لأن الجاهل بالجراحة لا يحل له أن يباشر فعلها لما في ذلك من تعريض حياة المريض للهلاك فيعتبر فعله على هذا الوجه محرمًا شرعًا.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله عند بيانه لمسألة تضمين الأطباء:
"
…
وجملته أن هؤلاء إذا فعلوا ما أمروا به لم يضمنوا بشرطين:
أحدهما: أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم، ولهم بها بصارة
(1) الأهلية: لغة: مأخوذة من قولهم: فلان أهل لكذا، أي مستحق له ومستوجب، يقال ذلك للواحد والجمع. لسان العرب لابن منظور 11/ 29، والمصباح المنير 1/ 28. وفي الاصطلاح: صلاحية الإنسان لصدور الشيء عنه، أو طلبه منه وقبوله إياه. عوارض الأهلية عند الأصوليين. د. الجبوري ص 70.
ومعرفة، لأنه إذا لم يكن كذلك لم يحل له مباشرة القطع، وإذا قطع مع هذا كان فعله محرمًا فيضمن سرايته كالقطع ابتداء
…
" (1) اهـ.
فنص رحمه الله على اشتراط البصيرة والمعرفة في الطبيب الجراح، وأنه إذا لم تكن متوفرة فيه فإن فعله يعتبر محرمًا شرعًا وإنه يأخذ حكم القطع على وجه الجناية، فيجب عليه ضمان سرايته.
وقال الشيخ برهان الدين إبراهيم بن مفلح (2) رحمه الله في معرض بيانه لمسألة تضمين الطبيب: " .. واقتضى ذلك أنهم إذا لم يكن لهم حذق في الصنعة أنهم يضمنون، لأنه لا تحل لهم مباشرة القطع، فإذا قطع فقد فعل محرمًا، فيضمن سرايته"(3) اهـ.
فأكد رحمه الله ما تقدم من اعتبار شرط العلم والمعرفة، والحكم بإثم الفاعل للجراحة التي يجهلها.
كما أكد اعتبار شرط العلم للحكم بجواز فعل الجراحة الشيخ أحمد بن زرّوق رحمه الله بقوله: "وأما الفصد، والكي، فلا خلاف في جوازهما بشرط معرفة الفاعل"(4) اهـ.
ومن هذا يتبين لنا أنه لا يجوز للطبيب أن يقدم على فعل الجراحة
(1) المغني لابن قدامة 5/ 538.
(2)
هو: الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح الحنبلي، ولد رحمه الله سنة 815 هجرية، وكان فقيهًا أصوليًا نابغًا في عصره، توفي رحمه الله بدمشق سنة 884 هجرية، وله مؤلفات منها: الآداب الشرعية، والمبدع، والمقصد الأرشد. شذرات الذهب لابن العماد 7/ 338، 339، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة 1/ 100.
(3)
المبدع لابن مفلح 5/ 110.
(4)
شرح الرسالة لزرّوق 2/ 409.
إلا بعد أن يكون عالمًا بها، وعنده المعرفة التامة بمراحلها التفصيلية، فإذا لم يتوفر فيه ذلك بأن كان جاهلاً بها بالكلية مثل أن تكون خارجة عن اختصاصه أو جاهلاً ببعض فإنه يحرم عليه فعلها، ويعتبر إقدامه عليها في حال جهله بمثابة الجاني المعتدي على الجسد المحرم بالقطع والجرح ويأخذ حكمه في الآثار المترتبة على فعله من جهة الضمان كما سيأتي بيانه في موضعه -إن شاء الله تعالى-.
وأما اشتراط القدرة على التطبيق وأداء الجراحة على الوجه المطلوب فهو أمر مهم جدًا لا يحكم بتحقق الأهلية إلا بعد وجوده، وذلك لأن العلم بالشيء غير كاف في وصف الإنسان بكونه أهلاً لعمله إذا كان عاجزًا عن أدائه على الوجه المطلوب فالعلم شيء، والتطبيق شيء، ولا يخفى ما تتضمنه الجراحة الطبية من الصور المفزعة والمشاهد المروعة من الدماء والجراحات التي قد يدهش الإنسان منها إذا صدم بها لأول مرة، وقد ينسى من شدة الفزع أمورًا مهمة يكون نسيانها سببًا في هلاك المريض، أو حصول بعض المضاعفات الخطيرة التي تضره في المستقبل، فتلافيا لجميع ذلك لابد للطبيب من أن يتوفر فيه شرط القدرة على التطبيق للمعلومات الجراحية على الوجه المطلوب، ويحصل ذلك عادة بالتجربة، والتدرب على أداء العمل الجراحي تحت إشراف المختصين من الأطباء الجراحين الذين يقومون بتوجيهه وإرشاده، وفي ذلك أكبر عون -بعد توفيق الله عز وجل على إتقان العمل الجراحي، والقدرة على تطبيق معلوماته بكل يسر وسهولة.
وقد جرت الأعراف الطبية في عصرنا الحاضر بتدريب الطبيب
على فعل الجراحة وتطبيقها قبل إعطائه الإجازة بالعمل الجراحي، ويتم ذلك التدريب تحت إشراف المختصين من الأطباء القدماء الذين لهم خبرة واسعة في مجال الجراحة الطبية (1).
ولاشك أن هذا التدريب يعتبر أمرًا مهمًا لكي يستطيع الطبيب من خلاله الوصول إلى درجة الأهلية.
إضافة إلى أنه يترتب عليه حكم شرعي وهو اعتبار شهادة هؤلاء المختصين بعد تجربتهم لهذا الطبيب مستندًا شرعيًا يبني عليه القاضي حكمه بأهلية الطبيب في مسألة إسقاط الضمان، وذلك لأنها إجازة مشتملة على شهادة مبنية على أصل صحيح. لأن الحكم المذكور فيها من أهلية المجاز مبني على تدريبه بعد تعليمه نظريًا ثم الحكم عليه من خلال نتائج ذلك التدريب، وعلى هذا فإنها تكون شهادة مبنية على علم ومعرفة تامة بالمشهود به.
وقد اعتبر الفقهاء رحمهم الله التجربة دليلاً على مهارة الطبيب إذا ظهرت من خلالها إصابته، وندرة خطئه، كما أشار إلى ذلك الشيخ شهاب الدين القليوبي الشافعي (2) رحمه الله في حاشيته (3).
وبناء على ما سبق فإنه لابد من توفر شرط الأهلية في الطبيب الجراح حتى يحكم بجواز إقدامه على فعل الجراحة بالمريض وإذا لم
(1) السلوك المهني للأطباء د. التكريتي ص 142، 143، والموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 45.
(2)
هو: الشيخ أبو العباس أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي الشافعي، عالم مشارك في كثير من العلوم، توفي رحمه الله سنة 1069 هجرية، وله مؤلفات منها: حاشيته على شرح ابن قاسم الغزي، والبدور المنورة في معرفة الأحاديث المشتهرة، والتذكرة في الطب. معجم المؤلفين عمر كحالة 1/ 148.
(3)
حاشية قليوبي وعميرة 3/ 78.