الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع في (رخص الحج)
الأصل في مشروعية فعل الجراحة للمحرم ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم (1).
فقد دل هذا الحديث على جواز التداوي بالجراحة، والإنسان محرم سواء كان إحرامه بحج أو عمرة، وقد تستلزم الجراحة الطبية فعل أشياء من محظورات الإحرام، كحلق الشعر، وعصب موضعها، وتغطيته، ومنع المريض من الخروج لإتمام نسكه، فهذه الأشياء كلها يرخص بفعلها للمحرم، والأصل في ذلك الترخيص قول الحق تبارك وتعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (2).
فقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الحاج والمعتمر يرخص لكل منهما في الحلق وفعل محظور الإحرام إذا وجد عذر المرض، وقد ثبت في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه وهو ينفخ تحت قدْرٍ له فقال له:"أيؤذيك هو، أمُّ رأسكَ؟ قال: نعم، قال: فاحلَق وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة"(3).
(1) رواه البخاري في صحيحه 1/ 232، ومسلم 2/ 516.
(2)
سورة البقرة (2) آية 196.
(3)
رواه مسلم في صحيحه 2/ 514.
ولهذا كله فإنه إذا احتاج المحرم إلى حلق رأسه لعلاج موضع فيه بالجراحة فإنه يرخص له في فعل ذلك الحلق كما هو الحال في بعض صور الجراحة العصبية التي تستلزم حلق مؤخر الرأس أو أحد شقيه لكي يتمكن الطبيب من فعل الجراحة اللازمة (1).
وكذلك لو احتاج إلى حلق الشعر في مواضع الجسد الأخرى كالعانة، والإبط، والصدر والساعد والساق وغيرها فإنه يجوز له ذلك، وتلزمه الفدية (2).
أما لو احتاج الأطباء إلى قلع جلدة مشتملة على الشعر فإنه لا حرج عليهم في ذلك، وليس على المريض الفدية بناء على ما تقرر من عدم الضمان في التابع، والشعر هنا تابع للجلد، وليس مقصودًا في الأصل.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "إذا قلع جلدة عليها شعر فلا فدية عليه، لأنه أزال تابعًا لغيره والتابع لا يضمن كما لو قطع أشفار عيني إنسان، فإنه لا يضمن أهدابهما"(3) اهـ.
وبناء على هذا الأصل الموجب لإسقاط ضمان التابع فإنه يتفرع عليه، إن قطع كف المحرم وأصابعه المشتملة على الشعر والظفر لا يوجب الفدية أيضًا كما أشار إلى ذلك الإمام النووي رحمه الله
(1) الجراحة العصبية. د. بكداش 18.
(2)
وهي على التخيير كما تقدم في حديث كعب. حاشية ابن عابدين 2/ 274، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 157، المهذب للشيرازي 1/ 214، الإنصاف للمرداوي 3/ 455، 456.
(3)
المغني لابن قدامة 3/ 497، ونص على مثل هذا الحكم "أي إسقاط الفدية على هذا الوجه" الإمام الشافعي وأصحابه إلا أنهم فضلوا الفدية. المجموع للنووي 7/ 248.
بقوله: "لو قطع يده، أو بعض أصابعه، وعليها شعر وظفر فلا فدية عليه بلا خلاف (1) لأنهما تابعان، غير مقصودين، وشبه أصحابنا هذا بما لو كانت له امرأة صغيرة فأرضعتها أمه انفسخ النكاح، ولزم الأم مهرها، ولو قتلتها لم يلزمها المهر لاندراج البضع في القتل .. "(2) اهـ.
فبين رحمه الله عدم وجوب الفدية في قطع اليد والأصابع مع اشتمالها على الشعر والظفر للأصل الذي سبقت الإشارة إليه.
ويرخص الأطباء بفعل الجراحة الطبية اللازمة لإسعاف الحجاج، لو كانت مفضية إلى فوات الحج عليهم ما دام أن تأخيرها يفضي بهم إلى الهلاك، أو حصول ضرر عظيم كما هو الحال في الجراحة التي تجرى لإسعاف حوادث الطرق المشتملة على الحالات الخطيرة وما في حكمها، ويعتبر المرض في هذه الحالات موجبًا للترخيص في امتناعه عن الحج، فإذا فاته تحلل بعمرة بعد شفائه (3)، ما لم يكن مشترطًا في إحرامه لحديث ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:"لعلك أردت الحج؟ قالت: والله لا أجدني إلا وجعة، فقال لها: حجي واشترطي، قولي اللهم محلي حيث حبستني"(4).
فقد دل هذا الحديث على مشروعية الاشتراط في الحج، وأن من حج مشترطًا حل من أحرامه عند وجود العذر الحابس دون أن يلزم بشىء (5).
(1) أي عند أصحاب الشافعي كما ظهر من السياق.
(2)
المجموع للنووي 7/ 548.
(3)
الدر المختار للحصفكي 1/ 237، جواهر الإكليل للأبي 1/ 206، المجموع للنووي 8/ 310، الإنصاف للمرداوي 4/ 71.
(4)
رواه البخاري في صحيحه 3/ 241، 242، ومسلم 2/ 519، 520.
(5)
الإنصاف للمرداوي 4/ 72، المجموع للنووي 8/ 310، 311.
وإذا احتاج المحرم بعد فعل الجراحة إلى عصب موضعها جاز له ذلك لمكان العذر الموجب للرخصة ولزمته الفدية بذلك (1)، ويتقيد فيها بالحاجة فإذا زالت وجب عليها نزعها
…
والله أعلم.
* * *
(1) جواهر الإكليل للأبي 1/ 188، منح الجليل لعليش 1/ 509.