الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني في (المسئولية الأخلاقية في الجراحة الطبية)
اعتنت الشريعة الإسلامية بجانب الآداب والأخلاق، فجاءت نصوص الكتاب والسنة داعية للتحلي بها، والتزامها، ووعدت من فعل ذلك بالأجر والثواب الجزيل، كما أنها حذرت من مخالفتها، والتخلق برذائلها المحرمة، وتوعدت من فعل ذلك بأليم العذاب، وشديد العقاب (1).
كل ذلك لما يترتب على الالتزام بهذه الأخلاق والآداب المحمودة من العواقب الحميدة، وما تتضمنه من المصالح الجليلة التي لا يقتصر خيرها، ونفعها على الفرد وحده بل يتعداه إلى غيره من سائر أفراد المجتمع.
كما أن ترك هذه الأخلاق، والتخلق بضدها من الأخلاق والآداب المذمومة يتضمن العواقب السيئة والمفاسد العظيمة التي لا يقتصر
(1) يشهد لذلك آيات منها قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} التوبة (9) آية 119. وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} المائدة (5) آية 1. وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ}
…
الآيتين) الحجرات (49) آية 11، 12. وفي الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً" رواه البخاري في صحيحه 4/ 56، وفي الصحيح أيضًا من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:"إياك والعنف والفحش" رواه البخاري في صحيحه 4/ 55، وفي رواية له:"إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه ْالناس اتقاء شره". والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ضررها على الفرد وحده بل يتعداه إلى غيره من سائر أفراد المجتمع.
وبهذه العناية هذبت الشريعة الإسلامية سلوك المؤمن، وزكت نفسه، وطهرت فؤاده، وتصرفاته من رذائل الأخلاق وسيئها، فجعلته وفيًا بوعده وعهده، صادقًا في قوله، أمينًا في معاملته.
فبريء من خلف الوعد، ونقض العهد، ونكث المواثيق، وابتعد عن الكذب والغش والتزوير وغيرها من الأخلاق الرذيلة.
والجراحة الطبية كغيرها من مهام الطب مفتقرة إلى هذه الشخصية المحافظة على هذه الآداب والأخلاق الحميدة التي تعين على الوصول للأهداف المقصودة من مهمة الجراحة، لكن النفوس الدنيئة قد جبلت على مخالفة هذه الأخلاق، ونبذ هذه الآداب، والإعراض عنها في سبيل الحصول على الحظوظ والشهوات الدنيوية الزائلة.
فاستغلت بذلك هذه المهنة النبيلة التي قصد منها تخفيف الآلام، ودفع ضرر الأمراض والأسقام عن الأرواح والأجسام، لكي تصبح على العكس من ذلك، فتسلطت بالضرر على الأجساد والأرواح المحرمة بغير حق.
فتارة تجد الطبيب من هذا الصنف يدعي أن المريض مصاب بداء جراحي، ويصر على وجوب إجراء الجراحة فورًا بحجة أن حياة المريض مهددة بالخطر.
ويستعين في إثبات دعواه الكاذبة بمساعديه الذين يقومون بتزوير النتائج التي توصلوا إليها من خلال التحاليل، والتصوير بالأشعة والمناظير الطبية.
وتارة تجد الطبيب من هذا الصنف يقوم بفحص المريض ويتبين له
أن المريض مصاب بداء جراحي يستلزم التدخل بالجراحة اللازمة لإنقاذ ذلك المريض من آلام ذلك المرض وخطره الذي يهدد حياته، ومع ذلك يقوم بإعطائه بعض العقاقير والأدوية المهدئة، ويعطيه موعدًا في المستقبل قد يطول زمانه مع علمه بخطورة ذلك المرض وما يترتب على تأخير إجراء الجراحة اللازمة له من متاعب وأضرار جسدية ونفسية تؤذي المريض مستقبلاً.
فيمتنع في هذه الحالة من المبادرة بفعل الجراحة لأمور لا تعتبر عذرًا، ولو فرض أنها تعتبر عذرًا فإنه كان بإمكانه أن يقوم بإحالة المريض على غيره من الأطباء الآخرين، ولكنه امتنع من ذلك رجاء الكسب المادي المترتب على قيامه بفعل تلك الجراحة دون نظر إلى مصلحة المريض.
وقد يقوم بعض هؤلاء بوعد المريض حتى إذا جاءه في الزمان المحدد اعتذر عن موعده، وقدم غيره لمكان الكسب المادي أو المعنوي المتعلق بتقديم هذا المريض المتأخر على ذلك المريض السابق له.
ومن هنا نشأت المسئولية الأخلاقية المتعلقة بالجراحة وإن كانت في الحقيقة ثابتة في شرعنا وديننا الحنيف الذي أرسى قواعدها منذ قرون سبقت وجود الجراحة الطبية المعاصرة بحقبة بعيدة من الزمن. ونظرًا لوجود هذه القضايا الأخلاقية وأمثالها، وانتشارها في هذا الزمان الذي ضعف فيه وازع الدين، وقوي سلطان الشهوات الدنيوية على النفوس، وجب النظر في هذه التصرفات الناشئة عن السلوك الشاذ عن المنهج السوي الذي أوجب الله التزامه، وأمر بالأخذ على أيدي المعتدين لحدوده والخارجين عن رسمه وقيوده، خاصة في مثل هذه