الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول في (رخص الطهارة)
والأصل فيها قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
…
} (1).
فرخص الله عز وجل للمريض أن يعدل عن فرض الوضوء إلى رخصة التيمم نظرًا لوجود الموجب للتخفيف وهو العجز عن استعمال الماء لكون المريض، والمتداوي بالجراحة قد يعجز عن استعمال الماء في طهارة الحدث الأصغر أو الحدث الأكبر، وذلك لأن الجروح تتأذى بغلسها بالماء، ولذلك عتب النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة أمرهم للرجل الذي أصابته الجراح فأجنب بالغسل، فاغتسل فمات فقال عليه الصلاة والسلام:"قتلوه قتلهم الله"(2).
فهذا يدل دلالة واضحة على أن وجود الجرح الذي يتضرر صاحبه بغسله يجيز لصاحبه العدول عن غسله إلى مسحه إن أمكن أو التيمم إن عم البدن أو جله، وغلب على ظن صاحبه التلف، أو حصول ضرر بالغسل والوضوء لو اغتسل وتوضأ.
(1) سورة المائدة (5) آية 6.
(2)
رواه أبو داود في سننه 1/ 142، والدارقطني 1/ 189، 190، وترجم له بقوله:"بأن جواز التيمم لصاحب الجراح مع استعمال الماء وتعصيب الجرح" وهذا الحديث صححه ابن السكن. انظر نيل الأوطار للشوكاني 1/ 257.
ونظرًا لذلك نص الفقهاء رحمهم الله على العمل بهذه الرخصة فأجازوا للمريض الذي يخشى على نفسه الهلاك لو اغتسل أو يخشى تلف عضو من أعضائه لو اغتسل أو توضأ رخصوا له بالتيمم (1)، ولم يشترطوا في هذه الرخصة فقده للماء خلافًا لعطاء رحمه الله الذي اشترط لصحة تيممه أن يفقد الماء (2) لظاهر قوله سبحانه:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} (3).
والصحيح ما ذهب إليه جماهير أهل العلم رحمهم الله من الترخيص للجريح بالتيمم ولو لم يجد الماء لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (4)، فقد دلت هذه الآية الكريمة على حرمة قتل الإنسان لنفسه، وذلك بتعاطي الأسباب الموجبة لهلاكها، والغسل والوضوء على هذا الوجه مفض إلى الهلاك فيعتبر من أسبابه فلا يشرع للجريح فعله.
وقد احتج عمرو بن العاص رضي الله عنه بهذه الآية الكريمة لما خاف على نفسه الهلاك بالاغتسال في البرد، وعدل عنه إلى التيمم، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك (5)، فدل هذا على أن وجود السبب المفضي إلى الهلاك يعتبر من موجبات الترخيص بالعدول عن الغسل إلى التيمم، والجراحة متوفر فيها ذلك الوصف.
وقصة الصحابي الذي أمره أصحابه بالاغتسال مع الجراحة تعتبر
(1) حاشية ابن عابدين 1/ 215، 216، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 52، المهذب للشيرازي 1/ 37، الإنصاف للمرداوي 1/ 271.
(2)
المغني والشرح الكبير لابن قدامة 1/ 262.
(3)
سورة المائدة (5) آية 6.
(4)
سورة النساء (4) آية 29.
(5)
رواه أبو داود في سننه 1/ 141، والداقطني 1/ 178.
دليلاً واضحًا على أن مشقة الجراح توجب الترخيص بالتيمم.
وللجرح الموجب لرخصة التيمم عند الشافعية رحمهم الله شرط لابد من توفره، وهو خوف التلف (1)، ومفهومه أنه لا يتيمم عند عدم خوفه، لكن لما نصوا على أن خوف زيادة العلة، أو بطء البرء، أو شدة الضنا، أو الشين الفاحش يعتبر موجبًا للترخيص بالتيمم على الأظهر في المذهب (2)، دل ذلك على أن الجراحة إذا لم يخف منها التلف، وخيف منها حصول الأضرار السابقة جاز لصاحبها أن يترخص بالتيمم.
والجراحة الطبية تشتمل في كثير من صورها على هذه الأضرار التي تترتب على الغسل والوضوء، فغسل موضعها يؤدي إلى التهابه وتسممه، وقد ينتهي ذلك بوفاة المريض في أغلب الأحيان.
لذلك فإنها إذا بلغت إلى مقام المشقة الضرورية الموجبة للترخيص بأن خيف فوات النفس أو العضو، أو الحاجية بأن خيف زيادة ألم، أو حصول مضاعفات توجب الضرر أو تأخر البرء، جاز لصاحبها أن يترخص بالتيمم بشرط أن تعم الجراحة البدن، وأعضاء الوضوء أو جلها (3).
أما إذا كانت في جزء من الجسم بحيث يمكن غسل غيره، والمسح على ذلك الجزء، فإنه يجب على المريض غسل ما أمكن والمسح على غيره، ولم يجز له أن يترخص بالتيمم (4)، وذلك لأن
(1) المهذب للشيرازي 1/ 36.
(2)
الوسيط في المذهب للغزالي 1/ 440، روضة الطالبين للنووي 1/ 103.
(3)
قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 52، روضة الطالبين للنووي 1/ 104.
(4)
الدر المختار للحصكفي 1/ 46، منح الجليل لعليش 1/ 97، روضة الطالبين =
الأصل في تلك الأعضاء أن تكون طهارتها بالماء سواء كان ذلك في وضوء أو غسل، فوجب عليه إعمال ذلك الأصل لكونه قادرًا عليه، وأما الجرح فإنه يترخص بمسحه لمكان المشقة الموجبة للترخيص بالمسح.
وإذا كانت على الجراح عصابة أو جبيرة، وخاف من نزعها الضرر جاز له أن يترخص بالمسح عليها لمكان المشقة المترتبة على النزع والغسل (1).
إلا أنه يشترط في جواز المسح على الجبيرة والعصابة الموضوعة على الجراح أن تكون مقتصرة على موضع الحاجة دون زيادة عليه.
فإن زادت عليه وجب على المريض غسل ذلك الجزء الزائد، ولم يجز له أن يترخص بالمسح على غطائه لعدم وجود الحاجة الموجبة للترخيص بذلك المسح (2).
وعلى هذا فإنه ينبغي على الأطباء ومساعديهم من الممرضين إذا أرادوا عصب موضع الجراحة أن يتوفر في ذلك العصب شرطان:
أحدهما: أن توجد الحاجة الداعية إلى تغطية الجرح بتلك العصابة فإذا لم توجد وأرادوا عصب موضع الجراحة جاز لهم ذلك بشرط أن ينبهوا المرضى على نزعها عند الغسل والوضوء، وأن يمكنوهم من ذلك إذا طلبوا، فإذا لم يفعلوا أثموا شرعًا.
= للنووي 1/ 104، 106، الإنصاف للمرداوي 1/ 271.
(1)
بدائع الصنائع للكاساني 1/ 13، منح الجليل لعليش 1/ 97، المهذب للشيرازي 1/ 37، الإنصاف للمرداوي 1/ 271.
(2)
بدائع الصنائع للكاساني 1/ 13، روضة الطالبين للنووي 1/ 104، 106، العدة شرح العمدة للبهاء المقدسي 43.
الثاني: أن يتقيدوا في تلك العصابة بالقدر المحتاج إليه، فإذا كان القدر المحتاج إليه مثلاً ربع الساعد لم يجز لهم الزيادة على ذلك الربع إعمالاً للقاعدة الشرعية "الضرورات تقدر بقدرها"(1).
قال الإمام السيوطي رحمه الله عند بيانه لفروع هذه القاعدة:
"والجبيرة يجب أن لا تستر من الصحيح إلا ما لابد منه للاستمساك"(2) اهـ.
فإذا ستر الأطباء موضعًا غير محتاج إلى ستره وجب على المريض نزع ذلك الساتر عند الوضوء والغسل ولو اشتمل الستر على موضع محتاج إليه وقدر زائد وجب عليه كشف الموضع الزائد وغسله، والمسح على الموضع المحتاج إليه.
ومن ثم قال الإمام الكاساني رحمه الله: "
…
وإن كان ذلك لا يضر بالجرح عليه أن يحل ويغسل حوالي الجراحة، ولا يجوز المسح عليها، لأن الجواز لمكان الضرورة فيقدر بقدر الضرورة" (3).
ومتى زالت الحاجة لستر الجراحة بالعصابة وغيرها وجب الرجوع إلى الأصل الموجب للغسل، للقاعدة الشرعية. ما جاز لعذر بطل بزواله (4)
…
وينبغي على الأطباء والممرضين مراعاة ذلك بتفقد موضع الجراحة وتنبيه المرضى على غسله بعد زوال العذر.
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 85، ومثله في الأشباه والنظائر لابن نجيم 86.
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي 85، ومثله في الأشباه والنظائر لابن نجيم 86.
(3)
بدائع الصنائع للكاساني 1/ 13.
(4)
الأشباه والنظائر للسيوطي 85، والأشباه والنظائر لابن نجيم 86، شرح القواعد الفقهية للزرقاء.
وكما أن وجود الجراحة يوجب الترخيص في طهارة الحدث، كذلك الحال في طهارة الخبث فإنها توجب الترخيص فيها، فإذا كان موضع الجرح لا يرقأ نزفه، ولا ينقطع الدم والقيح والصديد الخارج منه ويشق على المريض غسله وتطهيره فإنه يجوز له أن يصلي على حالته، ولا يلزم بالأصل الموجب لطهارته (1) لمكان المشقة الموجبة للترخيص، والقاعدة "أن الأمر إذا ضاق اتسع"(2)، فمثل هذا المريض يضيق عليه الحال لو أمرناه بغسل الموضع، وقد يتسبب ذلك في حدوث تسمم فيه، أو تأخر برء فلذلك يشرع له الترخص بترك الطهارة.
وهكذا الحال لو تعذر عليه الاستنجاء والاستجمار لمكان موضع الجراحة الموجود في القبل أو الدبر فإنه يجوز له أن يصلي على حالته والله تعالى أعلم.
* * *
(1) حاشية ابن عابدين 1/ 281، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 49.
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي 83، الأشباه والنظائر لابن نجيم 84.