الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصورة الأولى: أن يكونوا جاهلين بالمهمة، وينتفي فيهم قصد الضرر، ولا يعلم المريض بجهلهم:
وهذه الصورة تشمل الجهل الكلي، والجزئي بالمهمة، فمثال الأول أن يكون الطبيب الجراح جاهلاً بجميع معلومات الجراحة، وكيفية تطبيقها، وهكذا بالنسبة للمخدر، والمصور بالأشعة، والمناظير وغيرهم.
ومثال الثاني أن يكون الطبيب الجراح عالمًا بجزء من المهمة، أو بالمعلومات كلها، ولكن يجهل الطريقة التي يتم بها تطبيق تلك المعلومات.
وهذه الصورة الأصل في إيجاب ضمان الضرر الناشيء عن فعل الأطباء والمساعدين فيها ما ثبت في السنة عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: "مَن تَطَبَّبَ ولم يُعلَم منه الطبُّ قبل ذلك فهو ضامن"، حيث دل ظاهر هذا الحديث على أن الطبيب الجاهل ملزم بضمان ما نتج عن طبه، وقوله عليه الصلاة والسلام:"من تطبب" عام يشمل طب الأدوية، والجراحة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: "والطبيب -في هذا الحديث- يتناول من يطبه بوصفه، وقوله، وهو الذي يخص باسم الطبائعي، وبمروده، وهو الكحال، وبمبضعه ومراهمه وهو الجرائحي، وبموساة وهو الخاتن، وبريشته وهو الفاصد، وبمحاجمه ومشرطه وهو الحجام، وبخلعه ووصله ورباطه وهو المجبر، وبمكواته وناره وهو الكواء، وبقربته وهو الحاقن
…
فاسم الطبيب يطلق لغة على هؤلاء كلهم، كما تقدم، وتخصيص الناس له ببعض أنواع الأطباء عرف حادث" (1) اهـ.
(1) الطب النبوي لابن القيم ص 112.
فبين رحمه الله عموم دلالة قوله عليه الصلاة والسلام: "من تطبب"، ونص على أنه شامل للطبيب الجراح وأن تخصيص العرف للفظ الطب ببعض أنواعه، لا يمنع من اعتبار الأصل الموجب لشموله جميع فروع الطب ومنها الجراحة.
كما بين دخول الطبيب الواصف بالقول، والفعل، وفي حكمه الطبيب الفاحص.
ومن هذا كله نخلص إلى القول بإيجاب الضمان على كل من الطبيب الجراح، والطبيب الفاحص، إذا قاما بفعل أي مهمة من المهمات الجراحية في حال جهلهم، ونتج عنها ضرر بالمريض.
وكما دلت السنة على إيجاب الضمان على هذا الصنف من الأطباء، كذلك دل الإجماع.
قال ابن رشد الحفيد: "لا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنه يضمن لأنه متعد"(1) اهـ.
وهذا الإجماع وإن كان بصيغة غير جازمة في حكاية الاتفاق فإنه تؤكده عبارات الفقهاء رحمهم الله التي نصوا عليها في كتبهم على اختلاف مذاهبهم، وكلها دالة على إيجاب الضمان على الطبيب الجاهل.
قال الشيخ زين الدين بن إبراهيم بن نجيم الحنفي (2) رحمه الله:
(1) بداية المجتهد لابن رشد 2/ 418.
(2)
هو الشيخ زين الدين بن إبراهيم بن محمد بن محمد المصري الشهير بابن نجيم فقيه، أصولي، توفي رحمه الله سنة 970 من الهجرة، وله مصنفات منها: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، شرح منار الأنوار في الأصول، الأشباه والنظائر. معجم المؤلفين عمر كحالة 4/ 192.
"
…
قطع الحجام لحمًا من عينه، وكان غير حاذق فعميت فعليه نصف الدية" (1) اهـ.
فقوله: "وكان غير حاذق" المراد أنه جاهل بتلك المهمة التي قام بفعلها، ثم بين حكمه وأنه يجب عليه ضمان نصف الدية، لأن العين من الأعضاء المثناة في جسم الإنسان تضمن الدية كاملة بتلف كلتا العينين ونصفها بتلف الواحدة منهما كما هو الحال في مسألتنا (2).
وقال الشيخ أحمد بن غنيم النفراوي المالكي (3) رحمه الله: "
…
إن عالج بالطب المريض، ومات من مرضه لا شيء عليه، بخلاف الجاهل أو المقصر فإنه يضمن ما نشأ عن فعله
…
" (4) اهـ.
فاعتبر رحمه الله الجهل بالفعل موجبًا لضمان ما نشأ عن ذلك الفعل من ضرر.
وقال الشيخ شهاب الدين القليوبي الشافعي رحمه الله: "شرط الطبيب أن يكون ماهرًا بمعنى أن يكون خطؤه نادرًا وإلم يكن
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 290، ومثله في الدر المختار للحصكفي 2/ 290.
(2)
أجمع العلماء رحمهم الله على أن الأعضاء المثناة في الإنسان: كالعينين، واليدين، والرجلين، والأذنين، ونحوهما تجب الدية بتلفهما، ونصف الدية بتلف العضو الواحد منهما، الإجماع لابن المنذر ص 73، ومغني ذوي الأفهام لابن عبد الهادي ص 208.
(3)
هو الشيخ أحمد بن غنيم بن سالم المهنا النفراوي المالكي، ولد رحمه الله سنة 1043 من الهجرة، وهو فقيه مشارك في بعض العلوم، وتوفي سنة 1125 من الهجرة، وله مصنفات منها: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، شرح الآجرومية، شرح على الرسالة النورية. معجم المؤلفين. عمر كحالة 2/ 40.
(4)
الفواكه الدواني للنفراوي 2/ 440، ومثله في تبصرة الحكام لابن فرحون 2/ 243، والعقد المنظم للحكام لابن سلمون 2/ 80، بهامش التبصرة.
ماهرًا في العلم فيما يظهر، فتكتفي التجربة، وإن لم يكن كذلك لم يصح العقد، ويضمن
…
" (1) اهـ.
فقوله: "إن لم يكن كذلك": أي لم يكن معروفًا بمهارته لا بالعلم، أو بالتجربة، وذلك هو الجاهل، ثم نص على حكمه بأنه لا يصح التعاقد معه، وألزمه الضمان وذلك إذا نتج عن فعله الضرر.
وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله: "
…
أن يكونوا ذوي خبرة في صناعتهم، ولهم بصارة ومعرفة، لأنه إذا لم يكن كذلك لم يحل له مباشرة القطع، وإذا أقدم مع هذا كان فعلاً محرمًا فيضمن سرايته كالقطع ابتداء
…
" (2) اهـ.
فبين رحمه الله أن الطبيب إذا كان جاهلاً وأقدم على فعل الجراحة كان ضامنًا لكل ما ينشأ عن فعله من ضرر.
وبهذه العبارات يتأكد ما تقدم من حكاية ابن رشد الحفيد الإجماع على إيجاب الضمان على الطبيب الجاهل.
وكما دل دليل النقل على إيجاب الضمان على هذا الصنف من الأطباء، كذلك دل دليل العقلى على إيجابه، وقد أشار الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله في عبارته المتقدمة إلى ذلك الدليل، وهو أن الطبيب الجاهل يجب الضمان عليه إذا باشر القطع كالجاني بجامع كون كل من الفعلين محرمًا شرعًا.
وبهذا كله تجتمع دلالة النقل والعقل على إيجاب الضمان على
(1) حاشية قليوبي وعميرة 3/ 78، ومثله في حاشية الرملي على شرح التجريد 2/ 427، بهامش أسنى المطالب.
(2)
المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 120، ومثله في شرح منتهى الإرادات، للبهوتي 2/ 377.
الأطباء الجاهلين وعبارات العلماء رحمهم الله التي تقدمت وإن كانت في ظاهرها مختصة بالأطباء، إلا أنها تعتبر أصلاً نلحق به كل من كان في حكمهم كالمساعدين من المخدر، والمصور بالأشعة والمناظير، والممرضين
…
ونحوهم، فكل هؤلاء ينزلون منزلة الأطباء في إيجاب الضمان عليهم إذا أقدموا على فعل أي مهمة وهم جاهلون بها علميًا أو نظريًا، أو علميًا ونظريًا، لاتحاد الموجب للضمان في كلتا الطائفتين "الأطباء، ومساعديهم" وهو إقدام الجميع على أداء مهمة في حال جهلهم بها.
وهذا الحكم من شريعتنا الغراء يعتبر غاية في العدل، وفيه صيانة لأرواح الناس وأجسادهم من عبث الأيدي الآثمة التي لا تخاف الله، ولا تتقيه، فتقدم على معالجة الناس غشًا وزورًا بادعائها للمعرفة والعلم.
فأما وجه العدل فلأن هؤلاء تسببوا في التلف والإضرار بأجساد الآخرين، ولم يتوفر في مثلهم الإذن الشرعي بجواز إقدامهم على ذلك الفعل الموجب للتلف، فكان المرضى مظلومين بما أصابهم من ضرر فوجب إنصافهم بتضمين هؤلاء الجاهلين، كالحال في غيرهم ممن يخطيء ويتسبب في ضرر بغيره.
ولا يشكل على الحكم بوجوب الضمان عليهم أن يقال: إن هؤلاء الأطباء الجاهلين إذا كانوا كالمعتدين والجانين، كما يفهم من كلام الإمام ابن قدامة رحمه الله الموجب لضمانهم، فإنه كان من المنبغي إيجاب القصاص عليهم لا الضمان لأن ذلك هو حكم القاطع المعتدي في قطعه.
لأنه يجاب بكون هؤلاء وإن كانوا في حكم المعتدى من جهة
إقدامهم على فعل غير مأذون به شرعًا، إلا أنه قد تخلف فيهم قصد الاعتداء لاعتبار فعلهم جناية عمد موجبة للقصاص، بل إنهم في الغالب إنما يقصدون الإحسان ويتمنون زوال الآلام لما في ذلك من ربح لهم بأخذ الأجرة المستحقة، فكانت هذه شبهة موجبة لدرء القصاص عنهم (1)، ولذلك كان من شرط هذه الصورة انتفاء قصد الإضرار كما بينته في عنوانها، إخراجًا للحالة الأخرى المشتملة على قصده وهي الموجبة للقصاص.
وأما صيانة الشريعة لأرواح الناس وأجسادهم بهذا الحكم فلأنه يتضمن زجر الغير عن الإقدام على فعل أي مهمة بغيره -خاصة إذا كانت خطرة كالجراحة- في حال جهله بتلك المهمة، إذ بمجرد علمه أنه سيضمن كل ما يترتب على فعله من ضرر فإنه سيرعوي وينكف عن الإقدام على فعلها دفعًا لضرر الضمان عن نفسه، وحينئذ لا يقدم على علاج الناس في أجسادهم إلا من كان واثقًا بعلمه وعمله، فتسلم تلك الأجساد من تدخل الجاهلين وأضرارهم.
وأما اشتراط علم المريض بجهل الطبيب، فذلك مبني على أنه لو علم بجهله ومكنه من فعل المهمة التي يجهلها فإنه حينئذ يعتبر راضيًا بما ينشأ عن فعله من أضرار، ومن ثم يسقط حقه في المطالبة بضمان ما أتلفه ذلك الطبيب الذي أذن له بالعمل.
ولا يشكل على إيجاب الضمان في هذه الصورة وجود إذن المريض بالفعل نفسه الذي نتج عنه الضرر، لأنه إنما أذن بناء على تغرير الأطباء، ومساعديهم له بادعائهم المعرفة والعلم بتلك المهمة، ولو
(1) قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: "أجمعوا على أن درء الحد بالشبهات" الإجماع لابن المنذر ص69.