الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو أن يقال ليست كل بدعة ضلالة فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل؛ بل الذي يقال فيما يثبت به حسن الأعمال التي قد يقال هي بدعة إن هذا العمل المعين مثلًا ليس ببدعة فلا يندرج في الحديث أو إن اندرج لكنه مستثنى من هذا العموم لدليل كذا وكذا الذي هو أقوم من العموم مع أن الجواب الأول أجود، وهذا الجواب فيه نظر، فإن قصد التعميم المحيط ظاهر من نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة الجامعة فلا عدل عن مقصوده بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
وقال ابن رجب: "وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: نعمت البدعة هذه. ورُوي عنه أنه قال: إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة، وروي عن أبي بن كعب قال له إن هذا لم يكن. فقال عمر: قد علمت ولكنه حسن. ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت ولكن له أصل في الشريعة يرجع إليها، فمنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على قيام رمضان ويرغب فيه وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانًا وهو صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في رمضان"
(2)
.
3 - أسباب ذم البدع:
قال الشاطبي: "لا خفاء أن البدع من حيث تصورها يعلم العاقل ذمها لأن اتباعها خروج عن الصراط المستقيم ورمى في عماية. وبيان ذلك من جهة النظر، والنقل الشرعي العام. أما النظر فمن وجوه:
أحدهما: أنه قد علم بالتجارب والخبرة السارية في العالم من أول الدنيا إلى اليوم
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 587، 588.
(2)
جامع العلوم والحكم 2/ 128.
أن العقول غير مستقلة بمصالحها، استجلابًا لها، أو مفاسدها، استدفاعًا لها. لأنها دنيوية أو أخروية
…
فالعقل غير مستقل البتة. ولا ينبني على غير أصل، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلم على الإطلاق. ولا يمكن في أحوال الآخرة قبلهم أصل مسلم إلا من طريق الوحي
…
فالابتداع مضاد لهذا الأصل، لأنه ليس مستند شرعي بالفرض، فلا يبقى إلا ما ادعوه من العقل.
فالمبتدع ليس على ثقة من بدعته أن ينال بسبب العمل بها، ما رام تحصيله من جهتها، فصارت كالعبث.
والثاني: أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان، لأن الله تعالى قال فيها {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .. فإذا كان كذلك، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله:
إن الشريعة لم تتم، وأنه بقى منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها، لأنه لو كان معتقدًا لكمالها وتمامها من كل وجه، لم يبتدع ولا استدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
قال ابن الماجشون: سمعت مالكًا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا.
والثالث: أن المبتدع معاند للشرع ومشاقٌ له، لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقًا خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهى والوعد والوعيد والخير أن الخير فيها، وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. فالمبتدع راد لهذا كله، فإنه يزعم أن ثم طرقا أخر، ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين،
كأن الشارع يعلم، ونحن أيضًا نعلم بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع، أنه علم ما لم يعلمه الشارع.
وهذا إن كان مقصودًا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود، فهو ضلال مبين.
وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، إذ كتب له عدى ابن أرطاة يستشره في بعض القدرية، فكتب إليه:
أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطإ والزلل والحمق والتعمق، فارضَ لنفسك بما رضى به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ، قد كفوا وهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل كانوا فيه أحرى. فلئن قلتم: أمر حدث بعدهم، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سننهم، ورغب بنفسه عنهم، إنهم لهم السابقون، فقد تكلموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفى، فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسن، ولقد قصر عنهم آخرون فقلوا وأنهم بين لك لعلى هدى مستقيم.
والرابع: أن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع، لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجرى على سننها، وصار هو المنفرد بذلك، لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون. وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع، ولم يبق الخلاف بين الناس. ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام.
وهذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرًا ومضاهيًا حيث شرع مع الشارع، وفتح للاختلاف بابًا؛ ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك.
والخامس: أنه اتباع للهوى لأن العقل إذا لم يكن متبعًا للشرع لم يبق له إلا