الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسنتي"
(1)
.
*
أقوال العلماء في التحاكم إلى غير ما أنزل الله:
يتبين حكم التحاكم إلى غير ما أنزل الله بالنظر إلى سبب نزول الآيات في ذلك، وقد تقدم سبب ذلك وذكر ابن جرير الطبري عن ابن عباس في قول الله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} أن الطاغوت رجل من اليهود كان يقال له كعب بن الأشرف وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا بل نحاكمكم إلى كعب فذلك قوله يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت
(2)
.
ويقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]: "في هذه يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرًا وباطنًا"
(3)
.
ويقول ابن القيم عن هذه الآية: "أقسم الله سبحانه بنفسه المقدسة قسما مؤكدا بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضا حتى
(1)
أخرجه مالك في الموطأ (1395) والحاكم 1/ 93، والبيهقي 10/ 114.
(2)
تفسير ابن جرير الطبري (5/ 154).
(3)
تفسير ابن كثير للآية 65 من سورة النساء.
ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم، وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض"
(1)
.
ويقول شيخ الإسلام: "فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن وأما من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنًا وظاهرًا لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة"
(2)
.
وقال العلامة ابن القيم: "من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكّم الطاغوت وتحاكم إليه"
(3)
.
ونقل الحافظ ابن كثير في تاريخه -البداية والنهاية- قال: "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين"
(4)
.
وذكر هذه المسألة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد ضمن باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله؛ حيث ذكر من نصوص الباب قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، ولم يكتف بهذا بل عقد لها بابًا مستقلًا فقال:"باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله" وذكر فيه
(1)
التبيان في أقسام القرآن ص 270.
(2)
منهاج السنة 5/ 131.
(3)
أعلام الموقعين لابن القيم 1/ 50.
(4)
الياسا أو الياسق هو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها ملك التتار من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية، والملة الإسلامية، انظر تفسير ابن كثير 2/ 67. البداية والنهاية 13/ 118، 119.
بعض الآثار وحديث عدي بن حاتم، ثم عقد بابًا بعده فقال: باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] وذكر آيات وآثار عن السلف.
والذين شرحوا كتاب التوحيد ربطوا بين هذين البابين وقضية التوحيد والإقرار بالشهادتين. قال الشيخ سليمان بن عبد الله في باب من أطاع العلماء والأمراء
…
: "لما كانت الطاعة من أنواع العبادة، بل هي العبادة، بامتثال ما أمر به على ألسنة رسله عليهم السلام نبه المصنف -رحمه الله تعالى- بهذه الترجمة على وجوب اختصاص الخالق تبارك وتعالى بها، وأنه لا يطاع أحد من الخلق إلا حيث كانت طاعته مندرجة تحت طاعة الله، وإلا فلا تجب طاعة أحد من الخلق استقلالًا. والمقصود هنا الطاعة الخاصة في تحريم الجلال أو تحليل الحرام، فمن أطاع مخلوقًا في ذلك غير الرسول صلى الله عليه وسلم -فإنه لا ينطق عن الهوى- فهو مشرك كما بينه تعالى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} أي علماءهم {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31] وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم بطاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام"
(1)
.
وقال معلقًا على الباب الثاني: "لما كان التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله مشتملًا على الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مستلزمًا له، وذلك هو الشهادتان ولهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم ركنًا واحدًا في قوله: "بني الإسلام على خمس" .. نبه في هذا الباب على ما تضمنه التوحيد واستلزمه من تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع؛ إذ هذا هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، ولازمها الذي لا بد منه لكل مؤمن، فإن من
(1)
تيسير العزيز الحميد ص 543.
عرف أن لا إله إلا الله فلا بد من الانقياد لحكم الله والتسليم لأمره الذي جاء من عنده على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. فمن شهد أن لا إله إلا الله ثم عدل إلى تحكيم غير الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع فقد كذب في شهادته"
(1)
.
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: "من تحاكم إلى غير كتاب، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد التعريف، فهو كافر، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44] ". ثم ذكر الأدلة
(2)
.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم في رسالة تحكيم القوانين: "وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن من لم يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، نفيًا مؤكدًا بتكرار أداة النفي وبالقسم، قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. ولم يكتف اللهَ تعالى وتقدس منهم بمجرد التحكيم للرسول صلى الله عليه وسلم حتى يضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم، بقوله جل شأنه:{ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} . والحرج: الضيق. بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب.
ولم يكتف تعالى أيضًا هنا بهذين الأمرين، حتى يضمُّوا إليهما التسليم وهو كمال الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم بحيث يتخلون ها هنا من أي تعلق للنفس بهذا الشيء، ويسلموا
(1)
تيسير العزيز الحميد ص 554 - 555.
(2)
الدرر السنية 10/ 426.
ذلك إلى الحكم الحق أتمَّ تسليم، ولهذا أكد ذلك بالمصدر المؤكد، وهو قوله جل شأنه:{تَسْلِيمًا} . المبيِّن أنّه لا يُكتفى ها هنا بالتسليم .. بل لا بد من التسليم المطلق"
(1)
.
وقال الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله: "ومن كان منتسبًا للإسلام عالمًا بأحكامه ثم وضع للناس أحكامًا وهيأ لهم نظمًا؛ ليعملوا بها ويتحاكموا إليها؛ وهو يعلم أنها تخالف أحكام الإسلام؛ فهو كافر خارج من ملة الإسلام.
وكذا الحكم فيمن أمر بتشكيل لجنة أو لجان لذلك، ومن أمر الناس بالتحاكم إلى تلك النظم والقوانين أو حملهم على التحاكم إليها وهو يعلم أنها مخالفة لشريعة الإسلام.
وكذا من يتولَّى الحكم بها وطبقها في القضايا ومن أطاعهم في التحاكم إليها باختياره، مع علمه بمخالفتها للإسلام فجميع هؤلاء شركاء في الإعراض عن حكم الله، لكن بعضهم يضع تشريعًا يضاهي به تشريع الإسلام ويناقضه على علم منه وبيّنه.
وبعضهم بالأمر بتطبيقه، أو حمل الأمة على العمل به، أو وَلِيَ الحكم به بين الناس أو نَفَّذ الحكم بمقتضاه.
وبعضهم بطاعة الولاة والرضا بما شرعوا لهم ما لم يأذن به الله ولم ينزل به سلطانًا. فكلهم قد اتبع هواه بغير هدى من الله، وصدَّق عليهم إبليسُ ظنَّهُ فاتبعوه، وكانوا شركاء في الزيغ؛ والإلحاد والكفر والطغيان؛ ولا ينفعهم علمهم بشرع الله، واعتقادهم ما فيه، مع إعراضهم عنه، وتجافيهم لأحكامه، بتشريع من عند أنفسهم، وتطبيقه والتحاكم إليه؛ كما لم ينفع إبليس علمه بالحق، واعتقاده إياه مع
(1)
تحكيم القوانين، ص 5، 6.
إعراضه عنه، وعدم الاستسلام والانقياد إليه، وبهذا قد اتخذوا هواهم إلهًا؛ فصدق فيهم قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} [الجاثية: 23]
(1)
.
وفي قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)} قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: "إن من تولى عن طاعة الرسول، وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وإن المؤمن هو الذي يقول سمعنا وأطعنا، فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا ترك محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة، فكيف بالتنقص والسب ونحوه"
(2)
.
وسئل رحمه الله تعالى: "عن رجل تولى حكومة على جماعة من رماة البندق، ويقول: هذا شرع البندق، وهو ناظر على مدرسة وفقهاء: فهل إذا تحدث في هذا الحكم والشرع الذي يذكره تسقط عدالته من النظر أم لا؟ وهل يجب على حاكم المسلمين الذي يثبت عدالته عنده إذا سمع أنه يتحدث في شرع البندق الذي لم يشرعه الله ولا رسوله أن يعزله من النظر أم لا؟
فأجاب: الحمد لله. ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله؛ لا بين المسلمين ولا الكفار ولا الفتيان ولا رماة البندق ولا الجيش ولا الفقراء ولا غير ذلك إلا بحكم الله ورسوله، ومن ابتغى غير ذلك تناوله قوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} ، وقوله تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ
(1)
شبهات حول السنة ورسالة الحكم بغير ما أنزل الله ص 64، 65.
(2)
الصارم المسلول ص 39، ومختصر الصواعق 2/ 353.
لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} فيجب على المسلمين أن يحكموا الله ورسوله في كل ما شجر بينهم، ومن حكم بحكم البندق وشرع البندق، أو غيره مما يخالف شرع الله ورسوله، وحكم الله ورسوله ذلك، وهو يعلم ذلك فهو من جنس التتار الذين يقدِّمون حكم "الياساق" على حكم الله ورسوله، ومن تعمد ذلك فقد قدح في عدالته ودينه، ووجب أن يمنع من النظر في الوقف. والله أعلم"
(1)
.
وفي قول الله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)} . قال القرطبي: "قال أبو علي: إن من طلب غير حكم الله من حيث لم يرضى به فهو كافر وهذه حالة اليهود"
(2)
، فالذي لا يريد حكم الله ولا يقبله، ويقبل حكمًا آخر غير حكم الله وشرعًا آخر غير شرع الله من أصحاب النفاق الأكبر.
* فالتحاكم إلى غير الله كفر أكبر ولو ادعى صاحبه الإسلام لأن المسلم هو المستسلم للحق المنقاد له.
قال الشيخ السعدي: "فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من الأمور. فمن زعم أنه مؤمن، واختار حكم الطاغوت على حكم الله فهو كاذب في ذلك"
(3)
.
وفي حديث: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا"
(4)
وحديث: "من قال حين يسمع النداء: أشهد أن لا إله إلا اللهِ
…
" [وفيه]
(1)
مجموع الفتاوى 35/ 407، 408.
(2)
تفسير القرطبي 6/ 188.
(3)
تفسير السعدي 2/ 90.
(4)
رواه مسلم كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله ربا .. ورقمه 34.
"رضيت بالله"
(1)
قال ابن القيم: "وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما ينتهي، وقد تضمنا الرضى بربوبيته سبحانه وألوهيته، والرضى برسوله والانقياد له، والرضى بدينه والتسليم له ومن اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقًا. وهي سهلة بالدعوى واللسان، وهي من أصعب الأمور عند حقيقة الامتحان .. "
(2)
.
وقال: "وأما الرضى بنبيه رسولًا؛ فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة
…
"
(3)
.
وقال: "وأما الرضى بدينه؛ فإذا قال، أو حكم، أو أمر، أو نهى: رضي كل الرضى، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليمًا، ولو كان مخالفًا لمراد نفسه أو هواه، أو قول مقلده وشيخه وطائفته"
(4)
.
ولا بد مع الانقياد أن يتبرأ من الشرك والطاغوت والمتحاكم إلى غير شرع الله منقاد إلى الطاغوت لا إلى الله.
قال ابن القيم: "أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حَكم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله"
(5)
.
(1)
رواه مسلم: كتاب الصلاة. باب استحباب القول مثل قول المؤذن. ورقمه 386.
(2)
مدارج السالكين 2/ 172.
(3)
المصدر نفسه 2/ 172 - 173.
(4)
مدارج السالكين 3/ 173.
(5)
إعلام الموقعين 1/ 50 ط. دار الفكر.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: والطواغيت كثيرة ورؤوسهم خمسة وذكر منهم: "الثاني: الحاكم الجائر المغير لأحكام الله، والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)} [النساء: 60] "
(1)
.
وفي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} الآيات [65 - 66] قال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ههنا"
(2)
.
وقال الشيخ السعدي: "كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما، فالرد إليهما شرط في الإيمان فلهذا قال: {اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت كما ذكر في الآية بعدها .. فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه، في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن، واختار حكم الطاغوت على حكم الله، فهو كاذب في ذلك"
(3)
.
وقال أيضًا رحمه الله: "وكل من حاكم إلى غير حكم الله ورسوله فقد حاكم إلى الطاغوت، وإن زعم أنه مؤمن فهو كاذب.
فالإيمان لا يصح ولا يتم إلا بتحكيم الله ورسوله في أصول الدين وفروعه، وفي
(1)
الدرر السنية 1/ 161، مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الأول - العقيدة ص 337.
(2)
تفسير ابن كثير 1/ 520.
(3)
تفسير ابن سعدي للآية 59، 60 من سورة النساء.