الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معروف بالكذب، ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة بل كان بعضه باقيًا كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد.
ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في أمارته لما زاد الحجر في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن حينئذٍ دخلت الحجرة النبوية في المسجد ثم إنه بنى حول حجرة عائشة التي فيها قبر جدار عالٍ، وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بيِّن، ولو صح ذلك لكان حجة ودليلًا على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت، ولا يسألون الله به وإنما فتحوا القبر لتنزل الرحمة عليه، ولم يكن هناك دعاء يقسمون به عليه"
(1)
.
الشبهة التاسعة:
روى ابن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن مالك الدار، وكان خازن عمر على الطعام، قال:
"أصاب الناس قحطٌ في زمن عمر؛ فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا؛ فأتي الرجل في المنام، فقيل له: ائت عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنكم مسقيّون، وقل له: عليك الكيس! عليك الكيس! فأتى عمر فأخبره فبكى عمر، ثم قال: يا رب لا آلوا إلا ما عجزت عنه"
(2)
.
وذكر الحافظ في الفتح هذا الأثر وقال ما نصه: "روى ابن أبي شيبة بإسناد
(1)
مختصر الرد على البكري 68 - 74. وانظر الاقتضاء 2/ 684 - 686.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 12/ 31.
صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار وذكر القصة"
(1)
.
وقال الإمام ابن باز رحمه الله: "هذا الأثر على فرض صحته ليس بحجة على جواز الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته؛ لأن السائل مجهول، ولأن عمل الصحابة رضي الله عنهم على خلافه، وهم أعلم الناس بالشرع، ولم يأت أحد منهم إلى قبره يسأله السقيا ولا غيرها، بل عدل عمر عنه لما وقع الجدب إلى الاستسقاء بالعباس، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة، فعلم أن ذلك هو الحق وأن ما فعله هذا الرجل منكر ووسيلة إلى الشرك، بل قد جعله بعض أهل العلم من أنواع الشرك، وأما تسمية السائل في رواية سيف المذكور "بلال بن الحارث" ففي صحة ذلك نظر، وعلى تقدير صحته عنه لا حجة فيه؛ لأن عمل كبار الصحابة يخالفه، وهم أعلم بالرسول صلى الله عليه وسلم وشرعه من غيرهم، والله أعلم"
(2)
.
وأجاب الألباني رحمه الله عن تصحيح ابن حجر لإسناده بوجوه:
"الأول: عدم التسليم بصحة هذه القصة، لأن مالك الدار غير معروف العدالة والضبط، وهذان شرطان أساسيان في كل سند صحيح كما تقرر في علم المصطلح، وقد أورده ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 1 - 213) ولم يذكر راويًا عنه غير أبي صالح هذا، ففيه إشعار بأنه مجهول، ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه -مع سعة حفظه واطلاعه- لم يحك فيه توثيقًا فبقي على الجهالة، ولا ينافي هذا القول الحافظ: "بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان
…
" لأننا نقول: إنه ليس نصًا في تصحيح جميع السند بل إلى أبي صالح فقط، ولولا ذلك لما ابتدأ هو الإسناد من عند أبي صالح، ولقال رأسًا: "عن مالك الدار .. . وإسناده صحيح"
(1)
الفتح 2/ 575. وقد تكلم السهسواني على تصحيح ابن حجر وبيَّن مواطن ضعفه في صيانة الإنسان ص 128.
(2)
تعليقات الشيخ ابن باز على فتح الباري 2/ 575.
ولكنه تعمد ذلك، ليلفت النظر إلى أن ها هنا شيئًا ينبغي النظر فيه، والعلماء إنما يفعلون ذلك لأسباب منها: أنهم قد لا يحضرهم ترجمة بعض الرواة، فلا يستجيزون لأنفسهم حذف السند كله، لما فيه من إيهام صحته لا سيما عند الاستدلال به، بل يوردون منه ما فيه موضع للنظر فيه، وهذا هو الذي صنعه الحافظ رحمه الله هنا، وكأنه يشير إلى تفرد أبي صالح السمان عن مالك الدار كما سبق نقله عن ابن أبي حاتم، وهو يحيل بذلك إلى وجوب التثبت من حال مالك أو يشير إلى جهالته. والله أعلم.
الثاني: أنها مخالفة لما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء، كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة، وأخذ به جماهير الأئمة، بل هي مخالفة لما أفادته الآية من الدعاء والاستغفار، وهي قوله تعالى في سورة نوح:{ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)} [نوح: 10 - 11] وهذا ما فعله عمر بن الخطاب حين استسقى وتوسل بدعاء العباس كما سبق بيانه، وهكذا كانت عادة السلف الصالح كلما أصابهم القحط أن يصلوا ويدعوا، ولم ينقل عن أحد منهم مطلقًا أنه التجأ إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب منه الدعاء للسقيا، ولو كان ذلك مشروعًا لفعلوه ولو مرة واحدة، فإذ لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعية ما جاء في القصة.
الثالث: هب أن القصة صحيحة، فلا حجة فيها، لأن مدارها على رجل لم يسم، فهو مجهول أيضًا، وتسميته بلالًا في رواية سيف لا يساوي شيئًا، لأن سيفًا هذا -وهو ابن عمر التميمي- متفق على ضعفه عند المحدثين، بل قال ابن حبان فيه:"يروي الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث". فمن كان هذا شأنه لا تقبل روايته ولا كرامة، لا سيما عند المخالفة.
الوجه الرابع: أن هذا الأثر ليس فيه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه طلب الدعاء منه بأن يسقي الله تعالى أمته، وهذه مسألة أخرى لا تشملها الأحاديث المتقدمة، ولم يقل بجوازها أحد من علماء السلف الصالح رضي الله عنهم، أعني الطلب منه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "القاعدة الجليلة" [ص 19/ 20]: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ويستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم، ولا في مغيبهم، فلا يقول أحد: "يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله، سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا، وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله يا ولي الله (الأصل: رسول الله) ادعوا الله لي، سل الله لي، سل الله أن يغفر لي
…
ولا يقول: أشكو إليك ذنوبي أو نقص رزقي أو تسلط العدو عليّ، أو أشكو إليك فلانًا الذي ظلمني، ولا يقول: أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك، أو أنت تجير من يستجيرك. ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضرًا أنه استجار بفلان، ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى في كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو في مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع هذا لأمته، وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئًا من ذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم"
(1)
.
(1)
التوسل أنواعه وأحكامه 119 - 122.