الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال. فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاث مائة سنة. قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال لا إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض"
(1)
.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله"
(2)
.
*
حكم تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم المكانية:
تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم المكانية إذا كان من باب التبرك فإنه لا يجوز سواء كانت تلك الآثار صحيحة أو غير صحيحة وتتبعه بهذا القصد بدعة.
وأما ابن عمر رضي الله عنها فقد ثبت عنه أن كان يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في تلك الأمكنة
(3)
.
ولم يكن ابن عمر بتتبعه هذه الأماكن يقصد التبرك بها؛ بل كان فِعلُه لشدة المتابعة والاقتداء اجتهادًا منه، وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من باب الجبلة أو وقع منه اتفاقًا لا قصدًا هو الذي فعله ابن عمر رضي الله عنهما مريدا التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صلى فيه
(1)
تيسير العزيز الحميد ص 342، وقد صحح إسنادها إلى أبي العالية الإمام ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 37 وقال: إن كان تاريخ وفاته محفوظا من ثلاثمائة سنة فليس بنبي بل هو رجل صالح. وقال ابن تيمية: "وهذا قد رويناه في كتاب المغازي لابن إسحاق من رواية يونس بن بكير إلى أبي العالية وذكره البيهقي في كتاب شعب الإيمان وذكره غيره، وهذا من فعل أهل الكتاب لا من فعل المسلمين فليس فيه حجة فلا يحتج به محتج" تلخيص كتاب الاستغاثة ص 29.
(2)
إغاثة اللهفان 1/ 222.
(3)
أخرجه البخاري (483) وانظر (484 - 492) من صحيح البخاري.
وفيما مشى فيه، وهو وجه آخر يختلف عما يقصده الناس اليوم فإن لهم صورًا مختلفة فبعضهم يقصد الدعاء عندها وبعضهم يقصد التمسح بأعتابها، وبعضهم يقصد الاستشفاء بتربتها. وبعضهم يقصد التبرك وبعضهم يقصد الفرجة والتنزه وبعضهم يريد المصيبة العظمى وهي دعاؤها وعبادتها كما يفعله عباد القبور، وحكم تتبع الأماكن في كل ذلك يختلف بحسب ما يقوم في قلب الزائر من الاعتقادات وبحسب الأفعال المصاحبة له.
ومع أن ابن عمر أراد التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفعل إلا أن الصحابة لم يُنقل عن أحدٍ منهم أنه كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وسلم، بل وأنكر ذلك على ابنِ عمر أبوه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- حيث قال: إنما هلك أهل الكتاب لأنهم تتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيَعًا.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "لأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا عن غيرهم من المهاجرين والأنصار أن أحدًا منهم كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وسلم، والصواب مع جمهور الصحابة؛ لأن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بطاعة أمره وتكون في فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصد النبي صلى الله عليه وسلم العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له كقصد المشاعر والمساجد، وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان فإنا إذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له فإن الأعمال بالنيات
…
فأما الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الصلاة والدعاء عندها فقصد الصلاة أو الدعاء فيها سنة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعًا له كما إذا تحرى الصلاة أو الدعاء في وقت من الأوقات فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب، ومثل هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن يزيد
بن أبي عبيد قال: كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف. فقلت له: يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها وفي رواية لمسلم عن سلمة بن الأكوع أنه كان يتحرى الصلاة في موضع المصحف يسبح فيه، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى ذلك المكان وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة، وقد ظن بعض المصنفين أن هذا مما اختلف فيه وجعله والقسم الأول سواء وليس بجيد فإنه هنا قد أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى البقعة فكيف لا يكون هذا القصد مستحبًا. نعم إيطان بقعة في المسجد لا يصلى إلا فيها منهي عنه كما جاءت به السنة والإيطان ليس هو التحري من غير إيطان، فيجب الفرق بين اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والاستنان به فيما فعله وبين ابتداع بدعة لم يسنها لأجل تعلقها به، وقد تنازع العلماء فيما إذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلا من المباحات لسبب وفعلناه نحن تشبها به مع انتفاء ذلك السبب، فمنهم من يستحب ذلك ومنهم من لا يستحبه، وعلى هذا يخرج فعل ابن عمر -رضى الله عنهما- فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في تلك البقاع التي في طريقه؛ لأنها كانت منزله لم يتحر الصلاة فيها لمعنى في البقعة، فنظير هذا أن يصلي المسافر في منزله وهذا سنة، فأما قصد الصلاة في تلك البقاع التي صلى فيها اتفاقًا فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حُجَّاجًا وعُمَّارًا أو مسافرين ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبًا لكانوا إليه أسبق فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم وقد قال صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وتحرِّي هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين بل هو مما ابتدع وقول الصحابي وفعله إذا خالفه
نظيره ليس بحجة، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة؟ وأيضًا فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه وذلك ذريعة إلى الشرك بالله"
(1)
.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "والحق أن عمر رضي الله عنه أراد بالنهي عن تتبع آثار الأنبياء سد الذريعة إلى الشرك، وهو أعلم بهذا الشأن من ابنه رضي الله عنهما، وقد أخذ الجمهور بما رآه عمر وليس في قصة عتبان ما يخالف ذلك؛ لأنه في حديث عتبان قد قصد أن يتأسّى به صلى الله عليه وسلم في ذلك، بخلاف آثاره في الطرق ونحوها، فإن التأسي به فيها وتتبعها لذلك غير مشروع، كما دل عليه فعل عمر، وربما أفضى ذلك بمن فعله إلى الغلو والشرك كما فعل أهل الكتاب"
(2)
.
ومن الآثار المكانية التي يكثر الذهاب إليها موقعة بدر، ومكان شجرة بيعة الرضوان وغار حراء و غار ثور فإن هذا كله لا يشرع تتبعه والتقرب إلى الله بالصلاة فيه، وقد قدمنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قطع شجرة الرضوان؛ لأن الناس كانوا يأتون إليها ويصلون عندها.
ومثل ذلك زيارة آثار الأنبياء التي تقام بالشام، مثل مغارة الخليل عليه السلام، والآثار الثلاثة التي بجبل قاسيون في غربي الربوة
(3)
.
وفي حديث: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد
…
" إلخ الحديث
(4)
. قال الشيخ سليمان بن عبد الله: "ويؤخذ من الحديث المنع من تتبع آثار الأنبياء والصالحين كقبورهم ومجالسهم، ومواضع صلاتهم للصلاة، والدعاء عندها، فإن ذلك من
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 738، 745.
(2)
تعليق سماحته على فتح الباري 1/ 569.
(3)
تفسير سورة الإخلاص (169)، أحكام الجنائز للألباني ص 260 رقم 158.
(4)
تقدم تخريجه.
البدع، أنكره السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم. ولا نعلم أحدا أجازه أو فعله إلا ابن عمر على وجه غير معروف عند عباد القبور، وهو إرادة التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيما صلى فيه ونحو ذلك. ومع ذلك فلا نعلم أحدا وافقه عليه من الصحابة، بل خالفه أبوه وغيره، لئلا يفضي ذلك إلى اتخاذها أوثانا كما وقع.
قال ابن عبد الباقي في شرح الموطأ روى أشهب عن مالك أنه كره لذلك أن يدفن في المسجد قال: وإذا منع من ذلك فسائر آثاره أحرى بذلك.
وقد كره مالك طلب موضع شجرة بيعة الرضوان مخالفة لليهود والنصارى. انتهى"
(1)
.
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "وأما قول السائل: هل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران لكون النبي صلى الله عليه وسلم رؤي عنده؟
فيقال: بل تعظيم مثل هذه الأمكنة واتخاذها مساجد ومزارات لأجل ذلك هو من أعمال أهل الكتاب، الذين نهينا عن التشبه بهم فيها.
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في أسفاره في مواضع، وكان المؤمنون يرونه في المنام في مواضع، وما اتخذ السلف شيئًا من ذلك مسجدًا ولا مزارات. ولو فتح هذا الباب لصار كثير من ديار المسلمين أو أكثرها مساجد ومزارات، فإنهم لا يزالون يرون النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقد جاء إلى بيوتهم
…
الخ"
(2)
.
وقال أيضًا: "فأما إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء، أو بعض الصالحين تبركًا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحاداة لله ورسوله، والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله"
(3)
.
(1)
تيسير العزيز الحميد ص 340 ط. المكتب الإسلامي.
(2)
الفتاوى 27/ 136.
(3)
اقتضاء الصراط المستقيم 334. وانظر: إغاثة اللهفان 1/ 185.
وقال رحمه الله: "إن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم تستحب الشريعة ذلك فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض سواء كانت البقعة شجرة أو عين ماء أو قناة جارية أو جبلا أو مغارة وسواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها أو ليقرأ عندها أو ليذكر الله سبحانه عندها أو يتنسك عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة بها لا عينًا ولا نوعًا وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنا لتُنَوَّر به"
(1)
.
وقال: "
…
مثل من يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غار ثور ليصلي فيه ويدعو، أو يذهب إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غير هذه الأمكنة من الجبال وغير الجبال التي يقال فيها مقامات الأنبياء .. ولا شرع لأمته زيارة موضع المولد، ولا زيارة موضع بيعة العقبة .. ومعلوم أنه لو كان هذا مستحبا يثيب الله عليه لكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بذلك وأسرعهم إليه، ولكان علم أصحابه بذلك وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك علم أنه من البدع المحدثة"
(2)
.
وقال أيضًا رحمه الله: "ليس في شريعة الإسلام بقعة تقصد لعبادة الله فيها بالصلاة والدعاء والذكر والقراءة ونحو ذلك إلا مساجد المسلمين ومشاعر الحج"
(3)
.
وفي تفصيل اللجنة الدائمة للإفتاء عن بيان ما تشرع زيارته وما لا تشرع زيارته من مساجد المدينة النبوية أجابت بما يلي:
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 644، 681.
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم 424، 426.
(3)
مجموع الفتاوى 27/ 137، 138. والاقتضاء 2/ 816، وكلام شيخ الإسلام كثير في هذا، وهو منثور في المجلد السابع والعشرين من مجموع الفتاوى.
"أولًا: باستقراء المساجد الموجودة في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة -حرسها الله تعالى- تبين أنها على أنواع هي:
النوع الأول: مسجد في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت له فضيلة بخصوصه، وهي مسجدان لا غير: أحدهما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني مسجد قباء.
النوع الثاني: مساجد المسلمين العامة في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فهذه لها ما لعموم المساجد، ولا يثبت لها فضل يخصها.
النوع الثالث: مسجد بُني في جهة كان النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى فيها أو أنه هو عيَّن المكان الذي صلى فيه تلك الصلاة، مثل مسجد بني سالم، ومصلى العيد، فهذه لم يثبت لها فضيلة تخصها، ولم يرد ترغيب في قصدها وصلاة ركعتين فيها.
النوع الرابع: مساجد بدعية محدثة نُسبت إلى عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الخلفاء الراشدين، واتخذت مزارًا مثل: المساجد السبعة، ومسجد في جبل أُحُد، وغيرها، فهذه مساجد لا أصل لها في الشرع المطهر، ولا يجوز قصدها لعبادة ولا لغيرها، بل هو بدعة ظاهرة.
ومعلوم أن الهدف من بناء المساجد جمع الناس فيها للعبادة، وهو اجتماع مقصود في الشريعة، ووجود المساجد السبعة في مكان واحد لا يحقق هذا الغرض، بل هو مدعاة للافتراق المنافي لمقاصد الشريعة، وهى لم تُبن للاجتماع؛ لأنها متقاربة جدًا، وإنما بنيت للتبرك بالصلاة فيها والدعاء، وهذا ابتداع واضح، أما أصل هذه المساجد بهذه التسمية -أي المساجد السبعة- فليس له سند تاريخي على الإطلاق، وإنما ذكر ابن زبالة مسجد الفتح وهو رجل كذاب رماه بذلك أئمة الحديث، مات في آخر المائة الثانية، ثم جاء بعده ابن شبه المؤرخ وذكره، ومعلوم أن المؤرخين لا يهتمون بالسند وصحته، وإنما ينقلون ما يبلغهم ويجعلون العهدة على من حدثهم، كما قال ذلك الحافظ الإمام ابن جرير في تاريخه، أما الثبوت
الشرعي لهذه التسمية أو لمسجد واحد منها فلم يعرف بسند صحيح.
وقد اعتنى الصحابة بنقل أقوال الرسول عليه السلام وأفعاله، بل نقلوا كل شيء رأو النبي صلى الله عليه وسلم يفعله حتى قضاء الحاجة، ونقلوا إتيان النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء كل أسبوع، وصلاته على شهداء أُحُد قبل وفاته كالمودع لهم، إلى غير ذلك مما امتلأت به كتب السنة، أما هذه المساجد فقد بحث الحفّاظ والمؤرخون عن أصول تسميتها، فقال العلامة السمهودي رحمه الله: لم أقف في ذلك كله على أصل .. وقال بعد كلام آخر: مع أني لم أقف على أصل في هذه التسمية، ولا في نسبة المسجدين المتقدمين في كلام المطري
…
وذكر شيخ الإسلام أن في المدينة مساجد كثيرة، وأنه ليس في قصدها فضيلة سوى مسجد قباء، وأن ما أُحدث في الإسلام من المساجد والمشاهد على القبور والآثار من البدع المحدثة في الإسلام، مِنْ فِعْل من لم يعرف شريعة الإسلام وما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من كمال التوحيد وإخلاص الدين لله، وسد أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان لبني آدم. اهـ.
وقال الشاطبي رحمه الله: وسُئل ابن كنانة عن الآثار التي تركوا في المدينة فقال: أثبت ما عندنا قباء .. إلخ. وقد ثبت أن عمر -رضى الله عنه- قطع الشجرة التي رأى الناس يذهبون للصلاة عندها؛ خوفًا عليهم من الفتنة، وقد ذكر عمر بن شبه في (أخبار المدينة) وبعده العيني في (شرح البخاري) مساجد كثيرة، ولكن لم يذكروا المساجد السبعة بهذا الاسم.
وبهذا العرض الموجز يعلم أنه لم يثبت بالنقل وجود مساجد سبعة، بل ولا ما يسمى بمسجد الفتح والذي اعتنى به أبو الهيجاء وزير العبيديين المعروف مذهبهم، وحيث أن هذه المساجد صارت مقصودة من كثير من الناس؛ لزيارتها، والصلاة فيها، والتبرك بها، ويضلل بسببها كثير من الوافدين لزيارة مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام فقصدها بدعة ظاهرة، وإبقاؤها يتعارض مع مقاصد
الشريعة، وأوامر المبعوث بإخلاص العبادة لله، وتقضي بإزالتها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، فتجب إزالتها؛ درءًا للفتنة، وسدًا لذريعة الشرك، وحفاظًا على عقيدة المسلمين الصافية، وحمايةً لجناب التوحيد؛ اقتداءً بالخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث قطع شجرة الحديبية لما رأى الناس يذهبون إليها؛ خوفًا عليهم من الفتنة، وبَيَّن أن الأمم السابقة هلكت بتتبعها آثار الأنبياء التي لم يؤمروا بها؛ لأن ذلك تشريع لم يأذن به الله. انتهى.
ثانيًا: ومما تقدم يُعلم أن توجه الناس إلى هذه المساجد السبعة، وغيرها من المساجد المحدثة؛ لمعرفة الآثار أو للتعبد والتمسح بجدرانها ومحاريبها، والتبرك بها بدعة، ونوع من أنواع الشرك شبيه بعمل الكفار في الجاهلية الأولى بأصنامهم، فيجب على كل مسلم ناصح لنفسه ترك هذا العمل، ونصح إخوانه المسلمين بتركه.
ثالثًا: وبهذا يعلم أن ما يقوم به بعض ضعفاء النفوس من التغرير بالحجّاج والزوار وحملهم بالأجرة إلى هذه الأماكن البدعية -كالمساجد السبعة- هو عمل محرم، وما يأخذ في مقابله من المال كسب حرام، فيتعين على فاعله تركه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]. والله الموفق"
(1)
.
وقد رد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله على من طالب بإحياء الآثار النبوية كطريق الهجرة ومكان خيمة أم عبد، ونحو ذلك، وبين أن ذلك يجر إلى تعظيمها أو الدعاء عندها أو الصلاة ونحو ذلك، وهذه من الوسائل المفضية إلى الشرك
(2)
.
(1)
باختصار من كتاب بيان ما تشرع زيارته وما لا تشرع زيارته من مساجد المدينة النبوية، من إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عب دالله بن باز رحمه الله، والفتوى برقم (19729) وتاريخ 27/ 6/ 1418 هـ.
(2)
فتاوى ابن باز ص 3/ 334، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 1/ 401.
ثم ذكر سماحة الشيخ رحمه الله كلام العلماء في ذلك إلى أن قال: "وكلام أهل العلم في هذا الباب كثير لا نحب أن نطيل على القارئ بنقله. ولعل فيما نقلناه كفاية ومقنعًا لطالب الحق .. إذا عرفت ما تقدم من الأدلة الشرعية وكلام أهل العلم في هذا الباب علمتَ أن ما دعا إليه الكاتب من تعظيم الآثار الإسلامية كغار ثور، ومحل بيعة الرضوان وأشباهها وتعمير ما تهدم منها، والدعوة إلى تعبيد الطرق إليها، واتخاذ المصاعد للغارين، واتخاذ الجميع مزارات، ووضع لوحات عليها، وتعيين مرشدين للزائرين كل ذلك مخالف للشريعة الإسلامية التي جاءت بتحصيل المصالح، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وسد ذرائع الشرك والبدع. وعرفت أن البدع وذرائع الشرك يجب النهي عنها ولو حسن قصد فاعلها أو الداعي إليها لما تفضي إليه من الفساد العظيم، وتغيير مع الم الدين وإحداث مزارات ومعابد لم يشرعها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]
(1)
.
وإذا كان المنع في حق الأنبياء عليهم السلام فالمنع في غيرهم من الصالحين من باب أولى، وقد ردّت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله على أحد الكتاب في جريدة الرياض في هذا الشأن حيث قالت: "الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد/ فقد نشرت جريدة الرياض في عددها الصادر في 21/ 10/ 1412 هـ مقالا تحت عنوان:(ترميم بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب بحريملاء) وذكر أن الإدارة العامة للآثار والمتاحف أولت اهتمامًا بالغا بمنزل مجدد الدعوة السلفية الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في حي غيلان
(1)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 1/ 407.
بحريملاء حيث تمت صيانته وأعيد ترميمه بمادة طينية تشبه مادة البناء الأصلية
…
إلى أن قال: وتم تعيين حارس خاصا لهذا البيت
…
إلخ.
وقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية على المقال المذكور ورأت أن هذا العمل لا يجوز، أنه وسيلة للغلو في الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأشباهه من علماء الحق، والتبرك بآثارهم والشرك بهم، ورأت أن الواجب هدمه وجعل مكانه توسعة للطريق سدا لذرائع الشرك والغلو، وحسما لوسائل ذلك وطلبت من الجهة المختصة القيام بذلك فورًا، ولإعلان الحقيقة والتحذير من هذا العمل المنكر جرى تحريره، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه"
(1)
.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن زيارة مسجد يقال إنه لمعاذ بن جبل -رضى الله عنه- في اليمن ويأتي الناس لزيارته يوم الجمعة من شهر رجب من كل سنة؟.
فأجاب بقوله: "غير مسنون لأمور:
أولًا: لأنه لم يثبت أن معاذ بن جبل -رضى الله عنه- حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن اختط مسجدًا له هناك، ثانيًا: لو ثبت أنه مسجد معاذ بن جبل فإنه لا يشرع إتيانه وشد الرحل إليه بل شد الرحل لغير المساجد الثلاثة منهي عنه.
ثانيًا: لو ثبت أن معاذ بن جبل اختط مسجدًا هناك فإنه لا يشرع إتيانه وشد الرَّحل إليه، بل شد الرحل إلى مساجد غير المساجد الثلاثة منهى عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى".
ثالثًا: أن تخصيص هذا العمل بشهر رجب بدعة أيضًا، فإن شهر رجب لم يُخص بشيء من العبادات لا بصوم ولا بصلاة وإنما حكمه حكم الأشهر الحُرُم
(1)
فتاوى ابن باز 7/ 425.
الأخرى، والأشهر الحرُم هي: رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم. هذه الأشهر التي قال الله تعالى عنها في كتابه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، ولم يثبت أن شهر رجب خُص من بينها في شيء لا بصيام ولا بقيام، فإذا خَصَّ الإنسانُ هذا الشهر بشيء من العبادات من غير أن يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كان مبتدعًا لقوله صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". فنصيحتي لإخوتي هؤلاء الذين يقومون بهذا العمل في الحضور إلى المسجد الذي يزعم أنه مسجد معاذ في اليمن أن لا يُتعبوا أنفسهم ويتلفوا أموالهم ويضيعوها في هذا الأمر الذي لا يزيدهم من الله إلا بُعْدًا، ونصيحتي لهم أن يصرفوا هَمَّهم إلى ما ثبتت مشروعيته في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا كافٍ للمؤمن. والله الموفق"
(1)
.
فائدة: من أسباب منع تتبع آثار الصالحين أن فيه تشبهًا بطريقة المشركين واليهود والنصارى، فاليهود والنصارى كانوا يتتبعون آثار الصالحين. وهكذا هلكوا كما بين عمر رضي الله عنه. وأما المشركون فقد كانوا يسافرون إلى البقاع المعظمة. وهذا من جنس الحج ولكل أمة حج. فقد كان المشركون يحجون إلى اللات والعزى ومناة وهذه أسماء لرجال صالحين يدعونهم ويستغيثون بهم نسأل الله السلامة والعافية
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى الشيخ ابن عثيمين 2/ 238 - 239 باختصار.
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية 27/ 353.