الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
أن هذه المقالة تخالف ما ثبت في النصوص من تفضيل السلف على الخلف، وجعل الخيرية لسلف هذه الأمة كقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم
…
"
(1)
.
ولا شك أن وصف الرسول صلى الله عليه وسلم القرون الثلاثة الأولى بأنها خير القرون يقتضي الخيرية المطلقة في كل شيء، ولا يمكن مع هذه الخيرية المطلقة أن يكون من أتى بعدهم أعلم منهم وأحكم
(2)
.
3 -
أن هذه المقالة تخالف ما ثبت في العقل من التلازم بين السلامة والحكمة والعلم فإن كون طريقة السلف أسلم من لوازم كونها أعلم وأحكم؛ إذ لا سلامة إلا بالعلم والحكمة، العلم بأسباب السلامة، والحكمة في سلوك تلك الأسباب
(3)
.
وبهذا يتبين أن طريقة السلف هي الأسلم والأعلم والأحكم، و"ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها، وضبط قواعدها، وشد معاقدها، وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء، فالمتأخرون في شأن، والقوم في شأن آخر، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا"
(4)
.
ثانيًا: آراؤه في الصفات تفصيلًا:
*
آراؤه في الصفات الذاتية:
1 - صفة العلو:
يرى ابن حجر -غفر الله له- أن الله تعالى منزه عن علو الذات
(1)
أخرجه البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم (3/ 1123) برقم (3651)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4/ 1963) برقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه به.
(2)
انظر: الحموية (ص 202 - 212)، فضل علم السلف على الخلف لابن رجب (ص 146 - 147).
(3)
انظر: فتح رب البرية بتلخيص الحموية لابن عثيمين (ص 19).
(4)
شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/ 19 - 20).
"لتعاليه عن الجهة والمكان"
(1)
، ولأنه "تعالى خالق الجهات والأمكنة ومحدثها بعد أن لم تكن فهي لحدوثها مستحيلة على الله تعالى"
(2)
.
ويرى أن الله تعالى "كان في القدم ولا جهة ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان"
(3)
.
ويتأول ابن حجر -عفا الله عنه- الآيات والأحاديث الدالة على كون الله تعالى في العلو وأنه سبحانه في السماء بعلو القدر والقهر، فيقول:"من في السماء: أي عزه وسلطانه وخزائن رحمته، وهكذا مجمل سائر الأحاديث والآيات الموهم ظاهرها مكانًا أو جهة، تعالى الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا"
(4)
.
وأعجب من ذلك حكايته الخلاف في كفر من قال: الله في السماء، حيث يقول:"لوقال: الله في السماء فقيل: يكفر، وقيل: لا، والقائلون بالجهة لا يكفرون على الصحيح، نعم إن اعتقدوا لازم قولهم من الحدوث أو غيره كفروا إجماعًا"
(5)
! ! .
ويختم ابن حجر كلامه في علو الله تعالى بالحط من شأن الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله- لقولهما بالعلو، وتبرئة الإمام أحمد من معتقدهما فيه بزعمه حيث يقول: "هذا من قبيح رأيهما وضلالهما؛ إذ هو مبني على ما ذهبا إليه، وأطالا في الاستدلال له، والحط على أهل السنة في نفيهم له، وهو إثبات الجهة والجسمية له، تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا، ولهما في هذا المقام من القبائح، وسوء الاعتقاد، ما تصم عنه الآذان، فيقضى عليه بالزور، والكذب، والضلال، والبهتان قبحهما الله، وقبح من قال بقولهما، والإمام
(1)
فتح المبين (ص 20)، وانظر: الإنافة في الصدقة والضيافة (ص 36)، الزواجر (1/ 32)، الفتاوى الحديثية (ص 151، 153)، المنح المكية (3/ 1397)، النخب الجليلة (ص 42)، شرح المشكاة (ص 93)، العمدة شرح البردة (ص 515).
(2)
الإنافة في الصدقة والضيافة (ص 36).
(3)
المصدر السابق (ص 36).
(4)
المصدر السابق (ص 36).
(5)
الإعلام بقواطع الإسلام (ص 239).
أحمد وأجلاء مذهبه مبرؤون عن هذه الوصمة القبيحة، كيف وهو كفر عند كثيرين"
(1)
.
التقويم:
مادة "العين، واللام، والحرف المعتل، ياءً كان أو واوًا أو ألفًا
…
تدل على السمو والارتفاع"
(2)
.
والعلو يطلق في اللغة على معان هي: علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر
(3)
.
وقد أجمع أهل القبلة على إثبات علو القهر وعلو القدر لله تعالى، واختلفوا في علو الذات
(4)
.
والذي عليه سلف الأمة وأئمتها إثبات علو الذات لله تعالى
(5)
، وهو قول عامة الصفاتية الأوائل، والكرامية، ومتقدمي الشيعة الإمامية
(6)
.
والقول بذلك هو مقتضى دلالة السمع، والفطرة، والعقل.
فأما دلالة السمع: فقد تواترت نصوص الكتاب والسنة تواترًا لفظيًا ومعنويًا على إثبات العلو الذاتي لله تعالى، حتى ذكر بعض أهل العلم أن أدلة ذلك تزيد على ألف دليل
(7)
.
(1)
أشرف الوسائل (ص 173)، وانظر: در الغمامة في در الطيلسان والعذبة والعمامة (ل 17/ أ).
(2)
معجم مقاييس اللغة (ص 690).
(3)
انظر: تهذيب اللغة (3/ 2536)، معجم مقاييس اللغة (ص 690)، لسان العرب (15/ 83)، القاموس المحيط (ص 1694).
(4)
انظر: مختصر الصواعق المرسلة (1/ 275).
(5)
انظر: العرش لابن أبي شيبة (ص 276)، إثبات صفة العلو لابن قدامة (ص 41)، العرشية لشيخ الإسلام ضمن الفتاوى (6/ 545)، اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 95)، العلو للذهبي (2/ 863)، الكلام على مسألة الاستواء على العرش لابن عبد الهادي (ص 25)، إثبات علو الله للتويجري (ص 10)، علو الله على خلقه للدويش (ص 141).
(6)
انظر: مجموع الفتاوى (2/ 297)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 127)(2/ 14).
(7)
انظر: مجموع الفتاوى (5/ 121)، الصواعق المرسلة (4/ 1279)، اجتماع الجيوش (ص 331).
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله أنواع الأدلة النقلية الدالة على علو الله فعد منها عشرين نوعًا، ذكر منها: التصريح بالاستواء، والفوقية بمن وبدونها، والعروج إليه، والصعود إليه، ورفع بعض المخلوقات إليه، والعلو المطلق، وتنزيل الكتاب منه، واختصاص بعض المخلوقات بكونها عنده، وأنه في السماء، ورفع الأيدي إليه، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، والإشارة إليه حسًا
(1)
.
ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء
…
وأنه فوق السماء
…
ثم عن السلف في ذلك من الأقوال، ما لو جمع لبلغ مئين وألوفًا، ثم ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحد يخالف ذلك، لا نصًا ولا ظاهرًا"
(2)
.
وأما دلالة الفطرة: فإن بني آدم كلهم مفطرون على الإقرار بعلو الله الذاتي، لا يستطيع أحد منهم أن ينفك عن ذلك، فإن الخلق كلهم باختلاف طوائفهم وتعدد مذاهبهم -عدا من اجتالته الشياطين منهم- إذا نابهم شيء اتجهوا بقلوبهم وأيديهم إلى جهة العلو اضطرارًا وليس اختيارًا بحيث لا يستطيع أحد دفع ذلك
(3)
.
وأما دلالة العقل: فإن من المعلوم ببداهة العقول أن الله تعالى كان ولا شيء معه، ثم خلق الخلق، فلما خلقهم فلا يخلو أن يكون خلقهم في
(1)
انظر: مختصر الصواعق (2/ 205)، النونية مع شرحها لهراس (1/ 184 - 251)، وانظر: شرح الطحاوية (2/ 380 - 386).
(2)
الحموية (ص 216 - 232).
(3)
انظر: الرد على الجهمية للدارمي (ص 20 - 21)، التوحيد لابن خزيمة (1/ 254)، التمهيد لابن عبد البر (7/ 134 - 135)، درء التعارض (6/ 12)، مجموع الفتاوى (5/ 259 - 260)، اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 328 - 331).
نفسه، أو خلقهم خارج نفسه، والأول باطل قطعًا بالاتفاق؛ لأن الله تعالى منزه عن النقائص وأن يكون محلًا للقاذورات -تعالى الله عن ذلك- فلزم أن يكون بائنًا من خلقه، وأن يكونوا هم بائنين عنه.
وإذا لزمت المباينة فلا يخلو إما أن يكون فوقهم، أو تحتهم، أو عن يمينهم، أو عن شمالهم، والفوقية هي أشرف الجهات، وهي صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فوجب اختصاصه بذلك
(1)
.
وعليه فما قرره ابن حجر من نفي علو الله الذاتي مخالف لدلالة السمع، والفطرة، والعقل.
وقول ابن حجر بذلك مما تابع فيه متأخري الأشاعرة
(2)
الذين قالوا بقولهم هذا حتى يسلم لهم دليل إثبات حدوث العالم الذي استدلوا به على وجود الله، حيث صاغوه بعقولهم، وعارضوا به دلائل الفطرة، ثم التزموا عليه لوازم كثيرة خالفوا بها الكتاب والسنة - وقد سبق بيانه والرد عليه بما يغني عن إعادته هنا
(3)
.
حيث زعموا أن إثبات العلو الذاتي لله تعالى يلزم منه أن يكون الله في جهة، ولو كان في جهة لافتقر إلى محل، وللزم أن يكون المحل قديمًا لأنه تعالى قديم، أو يكون سبحانه حادثًا لأن المحل حادث. وكلاهما ممتنع
(4)
.
(1)
انظر: الرد على الجهمية للإمام أحمد (ص 139)، درء التعارض (6/ 143 - 146)(7/ 3 - 10)، مجموع الفتاوى (5/ 152)، مختصر الصواعق المرسلة (1/ 279 - 280)، شرح الطحاوية (2/ 389 - 390)، جلاء العينين (ص 337).
(2)
انظر: الإرشاد للجويني (ص 58)، الشامل في أصول الدين له أيضًا (ص 299 - 300)، الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص 29 - 30)، قواعد العقائد له أيضًا (ص 162 - 165)، المواقف للإيجي (ص 271)، الأربعين للرازي (ص 152)، المسائل الخمسون له أيضًا (ص 26 - 40)، محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين له أيضًا (ص 157 - 158)، غاية المرام للآمدي (ص 180 - 181).
(3)
انظر: (ص 121).
(4)
انظر: الإرشاد للجويني (ص 58)، الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص 34)، المواقف الإيجي (ص 171)، غاية المرام للآمدي (ص 180 - 181).
وهذا ما عبر عنه ابن حجر بقوله السابق: "إن الله خالق الجهات والأمكنة ومحدثها بعد أن لم تكن فهي لحدوثها مستحيلة على الله تعالى".
والجواب عن ذلك من وجوه:
1 -
أن هذا الاعتراض ناتج عن قولهم: إن إثبات الصفات -ومنها العلو- يقتضي التجسيم، وهذا باطل، وقد سبق الجواب عنه
(1)
.
2 -
"أن الجهة
…
من الأمور التي فيها إضافة ونسبة، فإنه يقال: هذه جهة هذا
…
والجهة أصلها الوجهة التي يتوجه إليها الشيء كما يقال: عِدَة ووعد، وزِنَة ووزن
…
وإذا كان كذلك فالجهة تضاف تارة إلى المتوجِّه إليها، كما يقال في الإنسان له ست جهات لأنه يمكنه التوجه إلى النواحي الست المختصة به التي يقال إنها جهاته، والمصلي يصلي إلى جهة من الجهات لأنه يتوجه إليها.
وهنا تكون الجهة ما يتوجه إليه المضاف.
وتارة تكون الجهة ما يتوجه منها المضاف كما يقول القائل إذا استقبل الكعبة: هذه جهة الكعبة
…
وإذا كان هذا هو المعروف من لفظ الجهة
…
في الموجودات المخلوقة، فإنه إذا قيل: إن الخالق سبحانه في جهة، فإما أن يراد في جهة له، أو في جهة لخلقه.
فإن قيل: في جهة له، فأما أن تكون جهة يتوجه منها، أو جهة يتوجه إليها.
وعلى التقديرين فليس فوق العالم شيء غير نفسه، فهو جهة نفسه لا يتوجه منها إلى شيء موجود خارج العالم، ولا يتوجه إليها من شيء موجود خارج العالم، وليس هناك شيء موجود غير نفسه يتوجه منه ولا يتوجه إليه.
ومن قال: إن العالم هناك في جهة بهذا الاعتبار فقد صدق.
ومن قال: إنه جهة نفسه بهذا الاعتبار فقد قال معنى صحيحًا.
(1)
انظر: (ص 293).
ومن قال: إنه فوق المخلوقات كلها في جهة موجودة يتوجه إليها، أو يتوجه منها خارجة عن نفسه فقد كذب
…
وعلى كل تقدير فمن قال: إنه فوق العالم لم يقل إنه
…
في جهة موجودة خارجة عن نفسه"
(1)
.
3 -
أن لفظ الجهة إما أن يراد بها جهة مخلوقة أو جهة عدمية.
فإن أريد بها جهة مخلوقة فلا شك في بطلان ذلك، فإن الله ليس في جهة بهذا المعنى؛ لأن الله تعالى ليس في مخلوق ولا المخلوق في الله تعالى، بل الله تعالى بائن عن المخلوقات كلها.
وإن أريد بها جهة عدمية غير مخلوقة، وهي أن الله تعالى فوق هذا العالم ووراء هذا الكون فهذا المعنى صحيح؛ لأن وراء هذا الكون ليس جهة مخلوقة حتى تكون ظرفًا لله تعالى ولا يكون مظروفًا فيها.
والقول بالجهة بهذا المعنى -أي: المعنى العدمي- هي مراد من أطلق الجهة على الله من السلف.
وإذا تقرر كون المراد بالجهة أمرًا عدميًا لا وجوديًا لم يصح أن يقال: إن إثبات ذلك يستلزم أن يكون الله تعالى محتاجًا إليها
(2)
.
4 -
أن لفظ الجهة فيه إجمال وهو لفظ اصطلاحي يُراد به معان متنوعة، ولم يرد في الكتاب والسنة لابنفي ولا إثبات، ولا جاء عن أحد من سلف الأمة وأئمتها فيه نفي ولا إثبات أصلًا، فالمعارضه به ليست معارضة بدلالة شرعية، فاللفظ الذي ورد في الكتاب والسنة أو الإجماع يجب القول بموجبه سواء فهمنا معناه أو لم نفهمه.
وأما الذي لم يرد به دليل شرعي فلا ينفى ولا يثبت حتى يستفسر من المتكلم بذلك، فإن أثبت حقًّا أثبتناه، وإن أثبت باطلًا رددناه، وإن نفى
(1)
بيان تلبيس الجهمية (2/ 117 - 119).
(2)
انظر: التدمرية (ص 66 - 67)، مجموع الفتاوى (3/ 41 - 42)(4/ 58 - 59)(5/ 262 - 263)(6/ 38 - 40)، درء التعارض (1/ 253 - 254)، التسعينية (1/ 192)، جلاء العينين (ص 359)، غاية الأماني للألوسي (1/ 77، 493).
باطلًا نفيناه، وإن نفى حقًّا لم ننفه
(1)
.
وأما تأويل ابن حجر -غفر الله له- الآيات والأحاديث الدالة على كون الله تعالى في العلو بعلو القهر والقدر دون علو الذات فمتعقب بما يلي:
1 -
أن القول بذلك تأويل، والتأويل في نصوص الصفات بهذا المعنى باطل كما سبق
(2)
.
2 -
أن القول بذلك مبني على اعتقاد كون ظاهر النصوص يقتضي التمثيل والتجسيم، وهو باطل كما سبق
(3)
.
3 -
أن علو قدر الله وعلو قهره على عباده متقرر في النفوس مركوز في الفطر بما يغني عن تقريره بأنواع الأدلة.
4 -
أن تأويل نصوص العلو بعلو القدر والقهر لو صرح به في حق الله كان قبيحًا؛ فإن ذلك إنما يقال في المتقاربين في المنزلة وأحدهما أفضل من الآخر، وأما إذا لم يتقاربا بوجه فلا يصح فيهما ذلك.
5 -
أن الآيات والأحاديث تواترت كلها على التصريح بعلو الله المطلق الذي يتضمن علو ذاته وقدره وقهره، ولم يرد فيها على كثرتها ما يفيد تقييد ذلك بعلو القهر والقدر ومنع دخول علو الذات فيها، فتقييدها بذلك وتأويلها به دون غيره تحكم لا دليل عليه.
6 -
أن العلو صفة كمال وضده السفل صفة نقص، ولو كان الله غير متصف بالعلو الذاتي الذي هو صفة كمال للزم أن يتصف بالسفل الذاتي وهو صفة نقص؛ إذ القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد العلو السفل وهو مذموم بإطلاق
(4)
.
وأما حكاية ابن حجر الخلاف في كفر من قال الله في السماء فهي من أعجب آرائه وأبطلها، وبيان ذلك من وجهين:
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (5/ 298 - 299).
(2)
انظر: (ص 297).
(3)
انظر: (ص 293).
(4)
انظر: مختصر الصواعق المرسلة (2/ 205 - 217).
1 -
أن القول بأن الله في السماء هو نص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كقوله سبحانه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أمين من في السماء
…
"
(1)
، فكيف يكون القول بما هو نص الوحيين كفرًا.
2 -
أن القول بذلك منقوض بما ورد عن بعض أئمة السلف من تكفير من أنكر كون الله عز وجل في السماء أو شك في ذلك، ومنهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله فقد سُئل عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقال: قد كفر، لأن الله يقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] وعرشه فوق سماواته، فقيل له: إنه يقول: أقول على العرش استوى، ولكن لا يدري العرش في السماء أو في الأرض، فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر"
(2)
.
وأما تشنيع ابن حجر على الإمامين شيخ الاسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم في قولهما بالعلو الذاتي لله تعالى، وزعمه أن القول بذلك مما ينزه عنه الإمام أحمد وأجلاء مذهبه فمتعقب بما يلي:
1 -
أن القول بالعلو الذاتي لله تعالى هو مقتضى دلالة السمع، والإجماع، والفطرة، والعقل، فكيف يشنع على من قال بموجب هذه الأدلة.
2 -
أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم لم يكونا بدعًا في أهل السنة والجماعة في قولهما بإثبات العلو الذاتي لله تعالى؛ إذ القول بذلك هو قول عامة أهل السنة والجماعة ومن وافقهم من أسلاف ابن حجر -أعني متقدمي الصفاتية كالأشعري وأصحابه- كما تقدم.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب في بعث علي بن أبي طالب (3/ 1313) برقم (4351)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (2/ 742) برقم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه به.
(2)
الفقه الأكبر برواية أبي مطيع (ص 40، 44)، ونقلها عنه ابن قدامة في إثبات العلو (ص 116)، وشيخ الإسلام في الحموية (ص 324) ودرء التعارض (6/ 263)، وابن القيم في اجتماع الجيوش (ص 139)، وابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (2/ 387)، وملا علي القارئ في شرح الفقه الأكبر (ص 171).