الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث حكم إيمان الْمُقَلّد
عرف ابن حجر رحمه الله التقليد بقوله: "التقليد أخذ قول الغير من غير معرفة دليله من حيث إفادته الحكم"
(1)
.
وسئل عن المراد بالمقلد الذي لا يصح إيمانه عند كثير من المتكلمين؟
فأجاب بقوله: "المراد من نشأ بقمة جبل ولم يرزق فطنة حتى يستدل بهذا العالم على أن له موجدًا ومدبرًا فمر عليه شخص فقال له ذلك فاعتقده وجزم به تقليدًا له من غير أن يتفطن لذلك الاستدلال وهذا نادر جدًّا.
وأما من قال يلزم على القول بعدم صحة إيمان المقلد تكفير العوام فإنه يتمشى كلامه على أن المراد بالمقلد من لم يتقن الدليل على قواعد الاستدلال، وهذا بعيد جدًّا فإنه صلى الله عليه وسلم اكتفى من كثيرين من أجلاف الأعراب والنساء بما هو طبع كل أحد حتى العجائز والصبيان من الاستدلال بالنجوم والسماء والأرض والأنهار والأشجار والزروع على أن لها خالقًا ومدبرًا، وعلى هذا لا تجد عاميًا مقلدًا أصلًا"
(2)
.
وأنكر رحمه الله نسبة القول بمنع التقليد في أصول الدين إلى أبي الحسن الأشعري، ورد على من قال به من أصحابه، حيث قال:
(1)
التعرف (ص 101).
(2)
الفتاوى الفقهية الكبرى (4/ 341)، وانظر: التعرف (ص 101، 104)، فتح المبين (ص 74)، الفتاوى الحديثية (ص 338).
"نقل المنع [يعني: المنع من التقليد في أصول الدين] عن إمام السنة
(1)
الشيخ أبي الحسن الأشعري كذب عليه كما قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري
…
وخلاف الباقلاني
(2)
والإسفراييني
(3)
وأبي المعالي في أول قوليه تبعوا فيه ما ابتدعه المعتزلة، وأحدثوا القول به بعد انقضاء أئمة السلف"
(4)
.
التقويم:
التقليد في اللغة: مصدر قَلَدَ، يُقَلِّدُ، تَقلِيدًا.
يقول ابن فارس: "القاف واللام والدال أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تعليق شيء على شيء وليّه به، والآخر على حظٍّ ونصيب.
فالأول: التقليد: تقليد البدنة، وذلك أن يعلق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي
…
والآخر: القلِد: الحظ من الماء، سقينا أرضنا قلِدها، أي: حظها"
(5)
.
ويطلق التقليد على معان عدة، منها: اللزوم، والتعليق، والتحمل
(6)
.
(1)
إطلاق لقب إمام السنة على أبي الحسن الأشعري لا يصح إلا على مذهب أصحابه الأشاعرة، وهو منقوض بما كان عليه - غفر الله له - في طوره الثاني قبل انتقاله لمذهب السلف.
انظر: مجموع الفتاوى (4/ 158)(17/ 306).
(2)
هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر البصري ثم البغدادي، القاضي أبو بكر الباقلاني، أحد أعلام الأشاعرة وأئمتهم، من مؤلفاته: إعجاز القرآن، الإنصاف، التمهيد، توفي سنة 403 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 190)، شذرات الذهب (3/ 168).
(3)
هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله التميمي الإسفراييني، أبو منصور البغدادي، أشعري متكلم، من مؤلفاته: الفرق بين الفرق، الملل والنحل، وأصول الدين، توفي سنة 429 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 572)، وفيات الأعيان (3/ 203).
(4)
فتح المبين (ص 74).
(5)
معجم مقاييس اللغة (ص 858 - 859).
(6)
انظر: تهذيب اللغة (3/ 3029)، الصحاح (2/ 527)، لسان العرب (3/ 365)، القاموس المحيط (ص 398).
وأما في الاصطلاح: فقد اختلفت عبارات أهل العلم في التعبير عنه
(1)
، وهي في جملتها لا تخرج عما ذكره ابن حجر - غفر الله له - من كونه "أخذ قول الغير من غير معرفة دليله من حيث إفادته الحكم".
وقد شرح العلامة ابن علان المكي رحمه الله تعريف ابن حجر هذا فقال: " [قوله]: (هو أخذ قول الغير) أي رأيه واعتقاده
…
(من غير معرفة دليله) فخرج أخذ قول لا يختص بالغير كالمعلوم من الدين بالضرورة، وأخذ قول الغير مع معرفة دليله فليس بتقليد بل اجتهاد وافق اجتهاد القائل
…
"
(2)
.
وتعريف ابن حجر رحمه الله التقليد بذلك مما وافق فيه بعض أهل العلم
(3)
.
والتقليد تارة يكون في أصول الدين وتارة يكون في فروعه، والكلام هنا عن الأول دون الثاني، وجملة القول فيه أن يقال:
اتفق الناس على أن التقليد في أصول الدين إن كان عن غير جزم فإنه لا يجوز، واختلفوا فيما إذا كان عن جزم على ثلاثة أقوال:
الأول: القول بجوازه، وجواز النظر.
الثاني: القول بوجوبه، وتحريم النظر.
الثالث: القول بتحريمه، ووجوب النظر.
واختلف القائلون بتحريمه في صحة إيمان المقلد على قولين:
أحدهما: عدم صحة إيمانه.
وثانيهما: صحة إيمانه مع إثمه
(4)
.
(1)
انظر: البرهان في أصول الفقه للجويني (2/ 1357)، المستصفى (2/ 387)، حاشية البناني على شرح المحلي لجمع الجوامع (2/ 399)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 529).
(2)
التلطف (ص 101).
(3)
انظر: حاشية البناني على شرح المحلي لجمع الجوامع (2/ 399)، شرح الكوكب المنير (4/ 529).
(4)
انظر: الفقيه والمتفقه للخطيب البغددادي (2/ 66)، الفصل (4/ 67)، الإحكام في =
والخلاف في ذلك كله فرع عن الخلاف في حقيقة التقليد ومعنى النظر.
يقول العلامة المعلمي
(1)
رحمه الله: "والحاصل أن علماء السلف لما حرموا النظر في علم الكلام، عارضهم المخالفون بادّعاء وجوبه، ولما قال بعض علماء السلف إن النظر في علم الكلام كفر أو مظنة الكفر؛ عارضهم المخالفون بزعم أن من لم يعرف علم الكلام فهو مقلد ولا إيمان لمقلد وأشاعوا هذه المقالة حتى استقر في كثير من الأذهان أن التقليد مرادف لعدم النظر في علم الكلام.
وبهذا صار التقليد يطلق على معنيين، كما أن النظر كذلك:
فعامة القائلين بوجوب النظر إنما يعنون النظر على طريقة السلف، وهو أمر متيسر لكل أحد حتى العامة، والقائلون بأن النظر لا يجب وهو حرام، إنما يعنون النظر على طريقة المتكلمين.
والقائلون بأنه لا يكفي التقليد، إنما يعنون التقليد بمعناه الحقيقي، وهو العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة، والقائلون بأنه يكفي التقليد، إنما عنوا به التقليد بمعناه المخترع، وهو الاقتصار على النظر على طريقة السلف بدون نظر في علم الكلام"
(2)
.
والراجح - والله أعلم - أن التقليد في أصول الدين يختلف حكمه باختلاف المراد بالتقليد، ومعنى النظر، وحال المقلد من حيث سلامته من
= أصول الأحكام لابن حزم، المستصفى (4/ 139)، إحكام الأحكام للآمدي (4/ 300)، المسودة (ص 457)، مجموع الفتاوى (20/ 18، 202)، فتح الباري (13/ 349)، شرح الكوكب المنير (4/ 533)، الدين الخالص (1/ 133)، لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 267)، أضواء البيان (7/ 486).
(1)
هو عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن أبي بكر المعلمي العُتمي اليماني، أبو عبد الله، من أعلام المحدثين المتأخرين، من مؤلفاته: التنكيل لما ورد في تأنيب الكوثري من الأباطيل، علم الرجال وأهميته، مقام إبراهيم، توفي سنة 1386 هـ. انظر: الأعلام (3/ 342)، معجم المؤلفين (2/ 126).
(2)
رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله للمعلمي (ص 75).
الشبهات من جهة وتمكنه من النظر والاستدلال من جهة أخرى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "الناس في الاستدلال والتقليد على طرفي نقيض، منهم من يوجب الاستدلال حتى في المسائل الدقيقة، أصولها وفروعها على كل أحد، ومنهم من يحرِّم الاستدلال في الدقيق على كل أحد، وهذا في الأصول والفروع، وخير الأمور أوسطها"
(1)
.
ويقول أيضًا: "فلا إطلاق القول بالوجوب صحيحًا، ولا إطلاق القول بالتحريم صحيحًا"
(2)
.
ويقول العلامة الشنقيطي
(3)
رحمه الله: "التحقيق أن التقليد منه ما هو جائز، ومنه ما ليس بجائز"
(4)
.
وما قرره ابن حجر رحمه الله من القول بندرة من هو مقلد في أصول الدين وأن الغالب على العامة الاستدلال، وحكمه بصحة إيمان المقلد تقليدًا جازمًا إذا لم يتمكن من النظر والاستدلال موافق لما عليه أهل السنة والجماعة وجمهور الأمة.
يقول العلامة ابن حزم رحمه الله: "قال سائر أهل الإسلام: كل من اعتقد بقلبه اعتقادًا لا يشك فيه وقال بلسانه: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك
…
ونحن لا ننكر الاستدلال بل هو فعل حسن مندوب إليه محضوض عليه كل من أطاقه؛ لأنه تزود من الخير، وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق، نعوذ بالله عز وجل من البلاء، وإنما ننكر كونه فرضًا على كل أحد لا يصح إسلام أحد دونه، هذا هو الباطل المحض"
(5)
.
(1)
مجموع الفتاوى (20/ 18).
(2)
المصدر السابق (20/ 203).
(3)
هو محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، سلفي المعتقد، متفنن في علوم عدة، من مؤلفاته: أضواء البيان لتفسير القرآن بالقرآن، منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز، آداب البحث والمناظرة، توفي سنة 1393 هـ.
انظر: ترجمة تلميذه عطية سالم له في أوائل كتابه أضواء البيان (1/ 19).
(4)
أضواء البيان (7/ 487).
(5)
الفصل (4/ 67).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أما في المسائل الأصولية فكثير من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يوجب النظر والاستدلال على كل أحد .... وأما جمهور الأمة فعلى خلاف ذلك، فإن ما وجب علمه إنما يجب على من يقدر على تحصيل العلم، وكثير من الناس عاجز عن العلم بهذه الدقائق، فكيف يكلف العلم بها"
(1)
.
ويقول العلامة السفاريني رحمه الله: "الحق الذي لا محيد عنه ولا انفكاك لأحد منه صحة إيمان المقلد تقليدًا جازمًا صحيحًا، وأن النظر والاستدلال ليسا بواجبين، وأن التقليد الصحيح محصل للعلم والمعرفة، نعم يجب النظر على من لا يحصل له التصديق الجازم أول ما تبلغه الدعوة"
(2)
.
وأما ما ذكره من أن القول بمنع التقليد في أصول الدين كذب على أبي الحسن الأشعري، فهو مما اختلف فيه أصحابه من بعده:
فمنهم: من أثبت ذلك عنه، وتابعه عليه
(3)
.
ومنهم: من أثبت ذلك عنه، وشنع به عليه
(4)
.
ومنهم: من أثبت ذلك عنه، وتأوله بالمقلد الشاك دون الجازم
(5)
، وهو مردود بأن الخلاف فيمن كان تقليده جازمًا، وأما الشاك فمتفق على عدم صحة إيمانه
(6)
.
ومنهم: من أنكر ذلك عنه، وعده من الكذب عليه، ومن هؤلاء القشيري الذي نقل ابن حجر عنه تكذيبه لذلك وارتضاه لنفسه.
ونص كلامه: "وأما ما قالوا إن الأشعري يقول بتكفير العوام، فهو كذب وزور، وقصد من يتعنت بذلك تحريش الجهلة، والذين لا تحصيل لهم عليه، كعادة من لا تحصيل له في تقوّله بما لا أصل له، وهذا أيضًا
(1)
مجموع الفتاوى (20/ 202).
(2)
لوامع الأنوار البهية (1/ 269).
(3)
انظر: أصول الدين للبغدادي (ص 255).
(4)
انظر: البحر المحيط للزركشي (6/ 288)، جمع الجوامع (2/ 404).
(5)
انظر: جمع الجوامع (2/ 404).
(6)
انظر: تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد (ص 36).
من تلبيسات الكرامية
(1)
…
"
(2)
، وقد تُعقِّب قوله هذا بكون ذلك مشتهرًا عنه فلا وجه لتكذيبه
(3)
.
وقد بحثت في كتب الأشعري رحمه الله وكتب المحققين من أهل المقالات كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم لَعلّي أظفر بشيء، فلم أجد شيئًا يدل على نسبة ذلك له أو نفيه عنه، والأشاعرة أنفسهم مختلفون في هذه المسألة على ستة أقوال
(4)
؛ مما يجعل كلامهم في ذلك غير معتمد.
وقول ابن حجر رحمه الله إن خلاف الباقلاني والإسفراييني وأبي المعالي في أول قوليه، وقولهم بمنع التقليد في أصول الدين وعدم صحة إيمان المقلد مما تابعوا فيه ما ابتدعه المعتزلة وأحدثوه بعد انقضاء أئمة السلف قول صحيح، إلا أن تأثرهم في ذلك بالمعتزلة فرع عن تأثرهم بهم في قولهم بأن معرفة الله نظرية كسبية لا ضرورية فطرية وأن أول واجب على المكلف النظر أو القصد إليه وهو ما يوافقهم عليه ابن حجر - كما سبق
(5)
- فهم طردوا قولهم وتابعوا المعتزلة في الجميع، وأما ابن حجر فقد تابع المعتزلة في القول بأن معرفة الله نظرية كسبية وأنها والطريق المؤدي إليها من النظر أو القصد إليه أول واجب على المكلف وخالفهم في إيمان المقلد فوقع في التناقض.
وهذا التناقض لا يخص ابن حجر وحده بل يصدق عليه وعلى من
(1)
الكرامية: هم أتباع أبي عبد الله محمد بن كرام السجستاني المتوفى سنة 255 هـ، لهم بدع كثيرة، منها: القول بالتجسيم والقول بالإرجاء حيث يزعمون أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان فقط.
انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 223)، الفرق بين الفرق (ص 215)، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 108)، التبصير في الدين (ص 93)، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص 101)، البرهان (ص 35).
(2)
شكاية أهل السنة (ضمن طبقات الشافعية الكبرى)(3/ 419).
(3)
انظر: البحر المحيط للزركشي (6/ 278).
(4)
انظر: أصول الدين للبغدادي (ص 255)، شرح المقاصد (5/ 218)، تحفة المريد (ص 34 - 35).
(5)
انظر: (ص 109).
وافقه من الأشاعرة في الجمع بين القولين، غير أن ذلك خير من قول من طرد قول المعتزلة في المسألتين؛ لأن القول ببعض الحق خير من تركه كله.
* * *