الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: موقفه من صرف العبادة لغير الله:
ذكر ابن حجر رحمه الله بعض أنواع العبادة التي تضمنها حديث ابن عباس رضي الله عنه وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"
(1)
.
وشرح -غفر الله له- الحديث مبينًا وجوب إفراد الله تعالى بهذه العبادات وعدم جواز صرف شيء منها لغير الله:
حيث قال في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله": "أي: أردت سؤاله فاسأل الله أن يعطيك إياه {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، ولا تسأل غيره فإن خزائن الجود بيده وأزمتها إليه، إذ لا قادر ولا معطي ولا متفضل غيره، فهو أحق أن يقصد سيما وقد قسم الرزق وقدره لكل بحسب
(1)
أخرجه الترمذي في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع (4/ 285) برقم (2516)، وأحمد (4/ 409) برقم (2669)، وأبو يعلى في المسند (4/ 430) برقم (2556)، والطبراني في الكبير (12/ 238) برقم (12988)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 374) برقم (425)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 514) برقم (192) من طرق عن الليث بن سعد عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس به.
وأخرجه الترمذي في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع (4/ 285) برقم (2516)، وأحمد (4/ 487) برقم (2763) و (5/ 18) برقم (2803)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 283) برقم (1043) من طريق ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج به.
قال الترمذي بعد إخراجه الحديث بهذين الإسنادين: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه أحمد (5/ 18) برقم (2803) و (4/ 487) برقم (2803)، والطبراني في الكبير (12/ 238) برقم (12989)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 283) برقم (1043) من طريق نافع بن يزيد، عن قيس بن الحجاج به.
والحديث له طرق أخرى كثيرة عن ابن عباس قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 460 - 461): "وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غُفْرة، وابن أبي مليكة، وغيرهم، وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرَّجها الترمذي، كذا قاله ابن مندة وغيره
…
".
ثم قال: "وبكل حال فطريق حنش التي خرَّجها الترمذي حسنة جيدة".
ما أراد له
…
فمع النظر لذلك لا فائدة لسؤال الخلق مع التعويل عليهم
…
فوجب أن لا يعتمد في أمر من الأمور إلا عليه سبحانه وتعالى
…
فبقدر ما يميل القلب إلى مخلوق يبتعد عن مولاه، لضعف يقينه، ووقوعه في هُوّة الغفلة عن حقائق الأمور التي تيقظ لها أصحاب التوكل واليقين"
(1)
.
وقال في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا استعنت فاستعن بالله": "وإذا استعنت أي: طلبت الإعانة على أمر من أمور الدنيا والآخرة فاستعن بالله، لما علمت أنه القادر على كل شيء وغيره عاجز عن كل شيء حتى جلب مصالح نفسه ودفع مضارها، والاستعانة إنما تكون بقادر على الإعانة، وأما من هو كلٌّ على مولاه لا قدرة له على إنفاذ ما يهواه لنفسه فضلًا عن غيره فكيف يؤهل للاستعانة به أو يتمسك بسببه؟
قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، قدّم المعمول ليفيد الحصر والاختصاص، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، ومن ثم كانت لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة"
(2)
.
وقال في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك":
"المعنى وَحِّد الله تعالى في لحوق الضرر والنفع، فهو الضار النافع، ليس لأحد معه في ذلك شيء
…
فعلم أن هذا تقرير وتأكيد لِمَا قبله من الإيمان بالقدر خيره وشره، وتوحيده تعالى في لحوق الضرر والنفع على أبلغ برهان وأوضح بيان، وحث على التوكل والاعتماد على الله عز وجل في جميع الأمور، وعلى شهود أنه سبحانه وتعالى وحده المؤثر في الوجود، النافع الضار، وغيره ليس له من النفع ولا من الضرر شيء، وعلى الإعراض عما سواه إذ من تيقن ذلك لم يشهد ضره ونفعه إلا من مولاه ولم ينزل حاجته إلا به سبحانه وتعالى"
(3)
.
(1)
فتح المبين (ص 172).
(2)
المصدر السابق (ص 173).
(3)
المصدر السابق (ص 173، 174).
وختم شرحه لهذا الحديث بقوله: "ثم مدار هذه الوصية كلها على هذا الأصل [يعني: التوكل] إذ ما قبله وما بعده مفرع عليه وراجع إليه؛ فإن من علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب له من خير وشر، ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم بخلاف المقدور لا يفيد شيئًا البتة، علم أن الله تعالى وحده هو الضار النافع، المعطي المانع، فأفرده بالطاعة، وحفظ حدوده، وخافه ورجاه، وأحبه وقدم طاعته على طاعة خلقه كلهم، وأفرده بالاستعانة به، والسؤال له، والتضرع إليه، والرضا بقضائه في حال الشدة والرخاء"
(1)
.
ومع تقرير ابن حجر -غفر الله له- ما سبق فإنه يرى أن من رجا النبي صلى الله عليه وسلم أو دعاه أو استعاذ أو استغاث به إنما رجا الله تعالى ودعاه واستعاذ واستغاث به على الحقيقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو واسطة بين الراجي والمرجو والداعي والمدعو والمستعيذ والمعيذ والمستغيث والمغيث، وحصول الإجابة والمرجو والإعاذة والغوث منه صلى الله عليه وسلم سببًا وكسبًا لا خلقًا وإيجادًا.
يقول في تقرير ذلك: "الاستغاثة طلب الغوث، والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره، وإن كان أعلى منه، فالتوجه والاستغاثة به وبغيره ليس لهما معنى في قلوب المسلمين غير ذلك
…
والمستغاث به في الحقيقة هو الله، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة بينه وبين المستغيث، فهو سبحانه مستغاث به، والغوث منه خلقًا وإيجادًا، والنبي صلى الله عليه وسلم مستغاث والغوث منه سببًا وكسبًا"
(2)
.
وقد وقع ابن حجر -عفا الله عنه- في مزالق خطيرة، وطوام كبيرة، بسبب تقريره ذلك اعتمادًا على هذه الحجة الفاسدة، والشبهة الباطلة، منها: دعاؤه النبي صلى الله عليه وسلم، وتوسله إليه، وطلب الشفاعة منه، ورجاؤه مغفرة الذنوب وستر العيوب، والاستعاذة به من كل مكروه، والاستغاثة به في المهالك
(3)
! ! !
(1)
فتح المبين (ص 176).
(2)
الجوهر المنظم (ص 62).
(3)
انظر: المنح المكية (3/ 1323، 1328، 1334، 1335، 1417، 1427، 1428)، العمدة في شرح البردة (ص 659).
يقول مخاطبًا الرسول صلى الله عليه وسلم داعيًا له، طالبًا شفاعته: "أقسم عليك
…
أن تنيلني من حضرتك، بواسطة شفاعتك فيّ إلى من لا يخيب شفاعتك"
(1)
، "والمعلوم والمستقر من أخلاقك الجميلة والذي دلت عليها آثارك الجليلة، أن من لجأ إليك، لا تخيبه من شفاعتك، ولا يحرمه ربك من فضله مسارعة إلى رضاك"
(2)
.
ويقول في رجائه للرسول صلى الله عليه وسلم: "قد رجوناك معشر محبيك، وخدامك، أيها النبي الكريم .. للأمور الخطيرة العظيمة من الذنوب والمخالفات والغفلات والشهوات"
(3)
.
ويقول مستعيذًا به صلى الله عليه وسلم: "أتينا إليك بقلوبنا، أي: وجهناها إلى الاستعاذة بك من كل مكروه، أو إلى قبرك المكرم حال كوننا أنضاء
…
أي: مهازيل"
(4)
.
ويقول شارحًا قول البوصيري
(5)
في همزيته:
يا نبي الهدى استغاثة ملهوف
…
أضرت بحاله الحوباء
(6)
"أي: أناديك نداء ملهوف أي: مضطر، متحسر، محتاج إلى من ينقذه مما يهلكه"
(7)
.
بل إن ابن حجر تجاوز ذلك إلى التصريح برجائه للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وبث شكواه إليه دون سواه، حيث قال في شرح قول البوصيري:
وانطوت في الصدور حاجات نفس
…
ما لها عن ندى يديك انطواء
(8)
(1)
المنح المكية (3/ 1323).
(2)
المصدر السابق (3/ 1328).
(3)
المصدر السابق (3/ 1333).
(4)
المصدر السابق (3/ 1334).
(5)
هو محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي، شرف الدين، أبو عبد الله، الشهير بالبوصيري، اشتهر بقصائده ومنظوماته ومنها: البردة، والهمزية في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، واللامية في الرد على اليهود والنصارى، توفي سنة 695 هـ.
انظر: البدر السافر (ص 97)، شذرات الذهب (7/ 753).
(6)
الهمزية مع شرحها المنح المكية (3/ 1417).
(7)
المنح المكية (3/ 1417).
(8)
الهمزية مع شرحها المنح المكية (3/ 1335).
"أي: استترت في الصدور، أي: القلوب حاجات نفس
…
ما لها عن
…
عطاء يديك الكريمتين انطواء، أي: استتار، واستغناء، بل لا يقضيها غير جاهك الواسع، ولا يمن بها غير عطائك الهامع، فلا ارتحال لنا عن واسع جودك، ولا انصراف عن ساحة كرمك، بل لا نزال مقيمين بجوارك، مستطهرين لندى آثارك، طامعين في حصول كل ما أملناه بشفاعتك، التي هي مطمع المذنبين، ووسيلة المقصرين"
(1)
.
ويقول في شرحه لقوله:
ومن الفوز أن أبثك شكوى
…
هي شكوى إليك وهي اقتضاء
(2)
"هي شكوى
…
إليك لا إلى غيرك، أي: أنشر وأظهر بين يديك في ضمن مدحي لك ما كاد أن يهلكني من عظيم ذنوبي، وقبيح عيوبي، رجاء أن تلمحني بنظرة تزيل عني كل وصمة، وتوجب لي منك كل رحمة، لأن رجائي فيك واسع، ومحبتي لك متزايدة، وهي أي: تلك الشكوى
…
اقتضاءُ أي: أطلب من كرمك الواسع وفيضك الهامع، أن أتخلص من تلك الفرطات، وأنجو من بوائق سائر الورطات، وأن يحصل لي الشفاء من جميع الأدواء، فإن جاهك متكفل بكل مطلوب، ومحقق لكل مسؤول ومرغوب، لا سيما لخادم حضرتك، الفاني في محبتك"
(3)
.
التقويم:
كل ما صح إطلاق مسمى العبادة عليه من الاعتقادات والأقوال والأعمال يجب صرفه لله تعالى وحده، ويحرم صرفه لغيره.
يقول تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5] الآية.
وفي الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا
(1)
المنح المكية (3/ 1335).
(2)
الهمزية مع شرحها المنح المكية (3/ 1427).
(3)
المنح المكية (3/ 1427 - 1428).
أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"
(1)
.
وما ذكره ابن حجر -غفر الله له- في كلامه المتقدم من تأكيد اختصاص الله تعالى بالدعاء والاستعانة والتوكل ونحوها من العبادات يناقض صرفه بعضها الآخر لغير الله؛ إذ كلها يصدق عليها مسمى العبادة ويحرم صرفها لغيره سبحانه، فالتفريق بينها تفريق بين المتماثلات.
وابن حجر -عفا الله عنه- بصنيعه هذا لا ينكر كون تلك الاعتقادات والأقوال والأعمال من أنواع العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله، وإنما يدعي أنه بفعله هذا لم يصرفها لغيره، متمسكًا بما ذكره من شبهة المجاز العقلي
(2)
والتي أشار إليها بقوله المتقدم: "والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره
…
والمستغاث به في الحقيقة هو الله، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة بينه وبين المستغيث"، وشبهة الكسب والتسبب والتي أشار إليها أيضًا بقوله السابق: "فهو سبحانه مستغاث به، والغوث منه خلقًا وإيجادًا، والنبي صلى الله عليه وسلم مستغاث، والغوث منه سببًا وكسبًا".
ولَمّا كان الأمر كذلك فسأكتفي بمناقشته فيما تمسك به من شبهات، متجاوزًا تقرير كون تلك الاعتقادات والأقوال والأعمال من العبادات، وأن العبادة لا يجوز صرفها لغير الله؛ لأن ذلك محل اتفاق لا نزاع.
وعليه فإن ما تمسك به ابن حجر من شبهتي المجاز العقلي والكسب والتسبب هو في الحقيقة شبهة واحدة مركبة؛ ذلك أن من يقول بأن إسناد الفعل إلى غير الله مما لا يصح إسناده إلا إلى الله مجاز لا حقيقة، ويستدل بذلك على جواز صرف بعض العبادات لغير الله، يجعل القرينة كون الفاعل مسلمًا موحدًا، والعلاقة في ذلك الكسب والتسبب
(3)
؛ فرجع الأمر حينئذ إلى كونهما شبهة واحدة مركبة.
(1)
أخرجه مسلم، باب من أشرك في عمله غير الله (4/ 2289)(2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه به.
(2)
المجاز العقلي -عند القائلين به- هو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له. انظر: التعريفات (ص 259).
(3)
انظر: شفاء السقام للسبكي (ص 144، 176 - 178)، خلاصة الكلام في تاريخ البلد =
وبناء على ذلك فإنه يمكن الرد عليه من طريقين:
أحدهما: المنع من ذلك على قول من يقول بنفي وقوع المجاز في اللغة:
فإن العلماء اختلفوا في وقوع المجاز في اللغة وعدمه، وهذا الخلاف جار في المجاز العقلي
(1)
.
فقال قوم بعدم وقوعه مطلقًا، وقال آخرون بوقوعه مطلقًا، وفرق قوم فقالوا بوقوعه في اللغة دون القرآن
(2)
.
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية عدم وقوع المجاز مطلقًا لا في القرآن ولا في اللغة
(3)
، وانتصر له العلامة ابن القيم بأكثر من خمسين وجهًا
(4)
.
وهو القول الراجح لقوة أدلته، وسلامته من الاعتراضات، ومما يستدل به عليه ما يلي:
1 -
أن تقسيم الكلام إلى الحقيقة والمجاز تقسيم حادث بعد انقضاء القرون المفضلة، لم يتكلم به أحد من أئمة اللغة والنحو
(5)
.
2 -
أن الذين قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز لم يستطيعوا أن يفرقوا بينهما بحد صحيح جامع مانع
(6)
.
= الحرام أحمد زيني دحلان (ص 16، ص 245 - 255)، الدرر السنية له (ص 20)، مفاهيم يجب أن تصحح لمحمد علوي مالكي (ص 28).
(1)
انظر: حاشية البناني على جمع الجوامع (1/ 308).
(2)
انظر: الأحكام للآمدي (1/ 43 - 44)، جمع الجوامع (1/ 308)، البرهان للزركشي (2/ 255)، والأحكام لابن حزم (4/ 28)، المسودة في أصول الفقه (ص 165)، التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (1/ 80)، الإيمان لابن تيمية (ص 81)، مختصر الصواعق (2/ 5)، المزهر للسيوطي (1/ 364 - 366)، وللاستزادة: منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز للشنقيطي.
(3)
انظر: الإيمان (ص 79 - 105).
(4)
انظر: مختصر الصواعق المرسلة (2/ 2 - 76).
(5)
انظر: الإيمان (ص 80)، مختصر الصواعق (2/ 3).
(6)
انظر: الإيمان (ص 87، 97)، مختصر الصواعق (1/ 10 - 30).
3 -
أن العرب نطقت بالحقيقة والمجاز -عند من يدعيهما- على وجه واحد، فجَعْلُ هذا حقيقة، وهذا مجازًا ضرب من التحكم لأن اسم الأسد وضع للسبع كما وضع للرجل الشجاع
(1)
.
4 -
أن من زعم أن الكلمة استخدمت حقيقة في الدلالة على معنى، ثم استخدمت مجازًا في الدلالة على معنىً آخر فقد ادعى دعوى لا برهان عليها ولا يمكن لبشر على وجه الأرض إثبات ذلك، ولا سبيل إلى العلم بذلك إلا بوحي من الله تعالى
(2)
.
5 -
أن بعض الكلمات العربية تدل على المعنى وضده كالجون يدل على السواد وعلى البياض، والقرء يدل على الطهر وعلى الحيض فأيهما حقيقة وأيهما مجاز؟
(3)
.
هذا ومما ينبغي الإشارة إليه أن الذين أنكروا وجود المجاز لم ينكروا وجود تلك الأمثلة التي ضربها المثبتون له، وإنما ذهبوا إلى أن ذلك أسلوب من أساليب اللغة العربية وأن الكل حقيقة، والكلمة إذا استعملت في هذا الأسلوب فهي حقيقة، وإذا استعملت في أسلوب آخر فهي حقيقة أيضًا، والذي يحدد المعنى المراد منها هو السياق، ولا يمكن أن نقول إنها في هذا الأسلوب حقيقة وفي الآخر مجازية
(4)
.
ثانيهما: التسليم بذلك على قول من يقول بثبوت وقوع المجاز في اللغة، وبناء عليه يمكن الجواب عنه بجوابين:
1 -
أن دعوى كون دعاء غير الله والتوسل به واللجوء إليه مجازًا عقليًا باعتبار كونه إسنادًا للفعل إلى غير ملابس له لا يصح لغة؛ وذلك لما يلي:
أ- أن العلماء الذين أثبتوا المجاز اتفقوا على أن الأصل في الكلام الحقيقة، وأنه لا يخرج عنها إلا بدليل قوي يصرفه إلى المجاز
(5)
، والحقيقة
(1)
انظر: المزهر (1/ 365).
(2)
انظر: مختصر الصواعق (2/ 30).
(3)
انظر: الإيمان (ص 88 - 89).
(4)
انظر: الوصول إلى الأصول لابن برهان (1/ 97 - 98).
(5)
انظر: الخصائص لابن جني (3/ 442)، المزهر للسيوطي (1/ 356، 361).
أنه لا دليل قوي، ولا صارف واضح، يمكن الاعتماد عليه للقول بأن دعاء غير الله والتوسل به مجاز عقلي، بل الدليل على خلافه
(1)
-كما سيأتي-.
ب- أن حد المجاز العقلي لا ينطبق على دعاء الأموات، وندائهم، والاستغاثة بهم، إذا اعتبرنا حال الداعين واعتقادهم فالإسناد الواقع في كلامهم إسناد حقيقي ينطبق عليه حد الحقيقة العقلية، ولا ينطبق عليه حد المجاز العقلي، وذلك لأن علماء البلاغة ذكروا أن العبرة في الإسناد ليكون مجازًا عقليًا أن يكون الحكم المفاد منه خلاف ما يعتقده المتكلم، وقالوا: إن قول الدهري: أنبت الربيع البقل لا يسمى مجازًا
(2)
.
وبناء على ذلك فإن كثيرًا ممن يدعون الأموات والغائبين الإسناد الواقع في كلامهم حقيقة عقلية وليس مجازًا عقليًا، لاعتقادهم التأثير والتصرف في الكون ومما يؤيد ذلك سيرهم وأحوالهم القولية والفعلية
(3)
.
جـ - أن العلماء القائلين بالمجاز اشترطوا تعقيبه بما يدل عليه ويدفع الحقيقة عنه، والمجاز العقلي القرينة المدعاة فيه ليست متصلة بالكلام حتى يؤول به
(4)
.
2 -
أن دعوى ابن حجر كون دعاء غير الله، والتوسل به، واللجوء إليه، مجازًا عقليًا باعتبار كونه إسنادًا للفعل إلى غير ملابس له لا يصح شرعًا؛ وذلك لِمَا يلي:
أ- أن المشركين الذين نزل فيهم القرآن الكريم وحكم بكفرهم كانوا يعتقدون السببية والتوسط، وهذه هي حجة من يرى المجاز العقلي ويبيح إسناد الدعاء لغير الله تعالى.
فلو أن اعتقاد السببية والتوسط ينفع في حمل كلام من يدعو غير الله
(1)
انظر: الرسالة المدنية لابن تيمية (ص 40).
(2)
انظر: حاشية الجوهر المكنون (ص 48)، التلخيص في علوم البلاغة للقزويني (ص 50 - 51).
(3)
انظر: معارج الألباب للنعمي (ص 178)، الصواعق المرسلة الشهابية لابن سحمان (ص 137).
(4)
انظر: تنبيه الغبي للبقاعي (ص 22 - 23)، ومنع جواز المجاز (ص 52).
تعالى على المجاز العقلي، ويمنع الحكم عليه بالشرك، لكان الله تعالى أعذر المشركين الذين يعتقدون التسبب والوساطة، ولحكم بكفر من يعتقد الاستقلال فقط
(1)
.
ب- أن دعوى كون دعاء غير الله والتوسل به واللجوء إليه مجازًا عقليًا بزعمه سببًا في حصول المقصود ونيل المطلوب دعوى باطلة وزعم فاسد؛ لأن ذلك يحتاج إلى إثبات أمرين هما: أن هذه أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله، وأن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها وكلاهما غير متحقق في هذه الصورة
(2)
.
جـ - أن هذا يناقض قول ابن حجر -غفر الله له- بأن المدار في الحكم بالكفر على الظواهر دون البواطن، وأنه لا نظر إلى المقاصد والنيات وقرائن الأحوال -كما سيأتي-
(3)
.
وبما سبق يتضح بطلان ما تمسك به ابن حجر -عفا الله عنه- من شبهتي المجاز العقلي والكسب والتسبب
(4)
.
(1)
انظر: فتح المنان للآلوسي (ص 447 - 448)، الدرر السنية (9/ 374).
(2)
انظر: صيانة الإنسان للسهسواني (ص 286)، فتح المنان للآلوسي (ص 448)، وتأسيس التقديس لأبي بطين، التوضيح عن توحيد الخلاق (ص 305)، كشف ما ألقاه إبليس لعبد الرحمن بن حسن (ص 75 - 76)، (ص 270 - 272).
(3)
انظر: (ص 696).
(4)
انظر: للاستزادة في الرد على شبهتي المجاز العقلي والكسب والتسبب المصادر التالية: الدرر السنية (9/ 274)(9/ 375، 408، 411)، التوضيح عن توحيد الخلاق (ص 305)، كشف ما ألقاه إبليس (ص 75 - 76، ص 370 - 272)، منهاج التأسيس (ص 324، 338) ص (410 - 341)، تحفة الطالب والجليس (ص 47 - 51)، تأسيس التقديس (ص 36)، الصواعق المرسلة، الشهابية (ص 136 - 137)، صيانة الإنسان (ص 286)، وللاستزادة: الدعاء ومنزلته من العقيدة لجيلان العروسي (2/ 912).