الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث آراؤه في الحياة الآخرة
تحدث ابن حجر رحمه الله عن الحياة الآخرة، وفصل في بعض مواقفها، وفيما يلي سياق آرائه في ذلك وتقويمها:
أولًا: البعث:
عرف ابن حجر رحمه الله البعث بأنه: "رجوع الأجسام كما كانت على وجه أكمل وأفضل"
(1)
.
وذكر اختلاف الناس في حقيقته فقال:
"المعاد للحشر جسماني ثم قيل: هو إيجاد أجزاء البدن بعد فنائها، وقيل: هي جمع متفرقها، والحق فناؤها إلا عجب الذنب.
وقيل: جسماني وروحاني أي: جسم وروح تعاد إليه على أنها جوهر مجرد يتعلق بالبدن تعلق تدبير وتصرف من غير أن تحل فيه ولا تفنى بفنائه بل ترجع إليه على ما كانت من التجرد"
(2)
.
وقال: "اعلم أن أهل السنة أجمعوا على أن الأجساد تعاد كما كانت في الدنيا بأعيانها وألوانها وأعراضها وأوصافها"
(3)
.
وبيّن ابن حجر أن البعث يشمل الحيوان والآدميين والجان، فقال:
"اختلفوا في إعادة الحيوان، والأصح إعادته لقوله تعالى:{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير: 5]، ولحديث الصحيحين في الاقتصاص
(1)
الفتاوى الحديثية (ص 166)، وانظر: العمدة شرح البردة (ص 450).
(2)
التعرف (ص 121).
(3)
الفتاوى الحديثية (ص 17)، وانظر: الفتاوى الفقهية الكبرى (1/ 402).
للحيوان بعضه من بعض
(1)
، وقيل: لا يعاد شيء منها، وحشرت معناه ماتت، والاقتصاص كناية عن العدل وهو خلاف ظاهر الآية والحديث فمن ثم كان الأصح الأول
(2)
.
وأما الآدميون المكلفون منهم يعودون إجماعًا، وكذا الصغار العقلاء
…
ومثلهم من بلغ مجنونًا، وَتَوَقُّفُ الباقلاني في الصغار وتَردُّدُ غيره في المجانين لا يُعَوّلُ عليه.
وأما الجان
…
فهم مكلفون قطْعًا، ومن ثم وعدوا بمغفرة الذنوب والإجارة من عذاب أليم في الآية التي في السؤال [يريد بها قوله سبحانه:{يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31]]، وتوعدوا بالعقاب {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام: 130] ولا ينذر بالإعادة إلا مكلف
…
"
(3)
.
التقويم:
البعث في اللغة: هو الإثارة.
يقول ابن فارس: "الباء والعين والثاء أصل واحد، وهو الإثارة"
(4)
.
وهو يختلف باختلاف ما علق به؛ ولهذا يطلق على معان عدة، منها:
1 -
الإرسال: يقال بعثه وابتعثه بمعنى أرسله.
2 -
الإسراع: يقال انبعث في السير بمعنى أسرع.
3 -
الإحياء: سواء بعد النوم كقولهم: بعثه من منامه إذا أيقظه، أو بعد
(1)
يشير إلى حديث: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء".
والحديث أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم (4/ 1997) برقم (2582) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وعزو ابن حجر الحديث للصحيحين وهم منه، فلم أجده في البخاري بعد بحث.
(2)
انظر: أسنى المطالب (ص 173)، الزواجر (2/ 87)، غرر المواعظ (ص 91).
(3)
الفتاوى الحديثية (ص 167).
(4)
معجم مقاييس اللغة (ص 142).
الموت كقولهم: بعثه من موته إذا أحياه
(1)
.
والمراد به في الشرع: إحياء الأموات، وخروجهم من قبورهم ونحوها؛ للجزاء يوم القيامة
(2)
.
وهو ثابت بالأدلة النقلية والعقلية، بأوجه متعددة، وطرق متنوعة، توجب القطع به، والإيمان بحصوله
(3)
، ولهذا "أجمع أهل الملل عن آخرهم على جوازه ووقوعه"
(4)
، ولم يشذ منهم إلا طوائف لا عبرة بها
(5)
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "معاد الأبدان متفق عليه عند المسلمين واليهود والنصارى"
(6)
.
وقد اختلف أهل الكلام في بعض فروعه، وذكر ابن حجر في كلامه السابق بعضها، وهي: الاختلاف فيه هل هو جسماني أم روحاني، والاختلاف في كونه بعثًا من عدم أو تفريق، والاختلاف في المبعوث هل هو الجسم الأول بعينه أو غيره
(7)
؟
وما قرره ابن حجر - عفا الله عنه - في هذه الفروع منه ما هو حق، ومنه ما هو باطل.
(1)
انظر: تهذيب اللغة (1/ 354)، الصحاح (1/ 273)، لسان العرب (2/ 116)، القاموس المحيط (ص 211).
(2)
انظر: فتح الباري (11/ 393)(3/ 4)، لوامع الأنوار البهية (2/ 157).
(3)
انظر: كتاب البعث لابن أبي داود، البعث والنشور للبيهقي، التذكرة (1/ 277)، مجموع الفتاوى (9/ 224)، شرح الطحاوية (2/ 589 - 597)، لوامع الأنوار البهية (2/ 157).
(4)
المواقف (ص 372).
(5)
انظر: مجموع الفتاوى (4/ 284، 262، 313 - 316)، شرح العقيدة الطحاوية (2/ 589)، لوامع الأنوار البهية (2/ 157 - 159).
(6)
مجموع الفتاوى (4/ 284)، وانظر: اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والإسلام د. فرج الله عبد الباري (ص 120).
(7)
انظر: الإرشاد (ص 313 - 315)، أصول الدين للبغدادي (ص 229 - 237)، الأربعين في أصول الدين للرازي (2/ 39 - 74)، المواقف (ص 371 - 376)، وشرحها للجرجاني (8/ 289)، شرح المقاصد (5/ 82 - 100)، تحفة المريد (ص 170 - 172).
فأما قوله بأن البعث جسماني فقط فهو موافق لقول كثير من المتكلمين من الجهمية والمعتزلة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أهل الأرض في المعاد على أربعة أقوال:
أحدها: وهو مذهب سلف المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين المشهورين وغيرهم من أهل السنة والحديث من الفقهاء والصوفية والنظار وهو إثبات معاد الأرواح والأبدان جميعًا
…
والقول الثاني: قول من يثبت معاد الأبدان فقط، كما يقول ذلك كثير من المتكلمين الجهمية والمعتزلة المبتدعين من هذه الأمة، وبعض المصنفين يحكي هذا القول عن جمهور متكلمي المسلمين أو جمهور المسلمين وذلك غلط؛ فإنه لم يقل ذلك أحد من أئمة المسلمين، ولا هو قول جمهور نظارهم، بل هو قول طائفة من متكلميهم المبتدعة، الذين ذمهم السلف والأئمة.
والقول الثالث: المعاد للنفس الناطقة بالموت فقط، وأن الأبدان لا تعاد، وهذا لم يقله أحد من أهل الملل، لا المسلمين، ولا اليهود، ولا النصارى، بل كل هؤلاء متفقون على إعادة الأبدان
…
ولكن من تفلسف من هؤلاء فوافق سلفه من الصابئة
(1)
والفلاسفة المشركين على أن المعاد للروح وحده، فإنه يزعم أن الأنبياء خاطبوا الجمهور بمعاد الأبدان وإن لم يكن له حقيقة
…
وحقيقة قولهم أن الأنبياء كذبوا للمصلحة، وهؤلاء ملاحدة كفار
…
(1)
الصابئة: إحدى النحل القديمة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وأصل تسميتها من قول العرب:"صبأ يصبأ" إذا خرج الرجل من دين إلى دين، وقيل: نسبة صابئ بن متوشلخ، وقيل: إلى صابئ بن لامك، وقد اختلف أهل العلم في حقيقة هذه النحلة على أقوال كثيرة جدًّا.
انظر: الملل والنحل للشهرستاني (2/ 9 - 58)، الرد على المنطقيين لابن تيمية (ص 454 - 456)، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص 143)، البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان (ص 92 - 94).
والقول الرابع: إنكار المعادين جميعًا، كما هو قول أهل الكفر من العرب، واليونان، والهند، والترك وغيرهم
…
"
(1)
.
وعليه فالحق أن البعث جسماني روحاني، وأن تعلق الروح بالجسد يوم البعث هو أكمل أنواع تعلقها؛ إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتًا ولا نومًا ولا فسادًا
(2)
.
وأما قوله بأن الحق فناء أجزاء البدن إلا عجب الذنب فهو قول مجمل يحتمل حقًّا وباطلًا.
فإن أراد بفنائها استحالتها فهو حق.
وإن أراد بفنائها عدمها فهو باطل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض سياقه لمذاهب المتكلمين في هذه المسألة: "اضطربوا في المعاد، فإن معرفة المعاد مبنيَّة على معرفة المبدأ، والبعث مبني على الخلق.
فقال بعضهم: هو تفريق تلك الأجزاء، ثم جمعها وهي باقية بأعيانها.
وقال بعضهم: بل يُعدمها ويُعدم الأعراض القائمة بها، ثم يعيدها، وإذا أعادها فإنه يعيد تلك الجواهر التي كانت باقية إلى أن حصلت في هذا الإنسان.
فلهذا اضطربوا لما قيل لهم: فالإنسان إذا أكله حيوان آخر، فإن أعيدت تلك الجواهر من الأول نقصت من الثاني، وبالعكس
…
والمشهور أن الإنسان يبلى ويصير ترابًا كما خلق من تراب
…
"
(3)
.
والقول باستحالة الأجساد بعد موتها ترابًا كما كانت إلا عجب الذنب هو ما عليه أهل السنة والجماعة
(4)
، ويشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن
(1)
الجواب الصحيح (6/ 7 - 11)، وانظر: مجموع الفتاوى (4/ 313 - 315).
(2)
انظر: الروح (1/ 264)، شرح الطحاوية (2/ 579)، لوامع الأنوار البهية (2/ 82).
(3)
النبوات (1/ 315 - 316)، وانظر: مجموع الفتاوى (17/ 246)، شرح الطحاوية (2/ 597)، لوامع الأنوار البهية (2/ 160).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (17/ 247 - 248)، مفتاح دار السعادة (2/ 34 - 35)، الفوائد (ص 15 - 16)، شرح الطحاوية (2/ 598)، لوامع الأنوار البهية (2/ 160).
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب
(1)
، منه خلق وفيه يركب"
(2)
.
ويستثنى من هذا الأنبياء والشهداء
(3)
.
وأما قوله بأن المبعوث هو الجسم الأول بعينه لا غيره فهو موافق لمذهب أهل السنة والجماعة، ومن شاركهم من الأشاعرة ونحوهم.
يقول العلامة القرطبي رحمه الله: "وعند أهل السنة أن تلك الأجساد الدنياوية تعاد بأعيانها وأعراضها بلا خلاف بينهم"
(4)
.
ويدل عليه:
1 -
حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم: "كل ابين آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق وفيه يركب".
2 -
حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: "كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر عليّ ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحد، فلما مات فُعل به ذلك، فأمر الله الأرض، فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيت، فغفر له"
(5)
.
3 -
أن الإعادة التي ذكرها الله تعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في سنته هي الإعادة التي فهمها المسلمون والمشركون، وهي تقتضي إعادة المخلوق من المادة التي استحال منها بعد فنائه، ولو كان المراد بها
(1)
عجب الذنب: هو العظم الذي في أسفل الصلب عند العجز، وهو العسيب من الدواب، انظر: النهاية (3/ 184).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب يوم ينفخ في الصور (3/ 1580) برقم (4936)، ومسلم، كتاب الفتن، باب ما بين النفختين (4/ 2271) برقم (2955).
(3)
انظر: فتح الباري (8/ 552 - 553).
(4)
التذكرة (1/ 284).
(5)
أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب حديث الغار (2/ 1082) برقم (1081) واللفظ له، وأخرجه مسلم في كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله (4/ 2109) برقم (2756) بنحوه.