الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني آراؤه في أفعال العباد، والهدى والضّلال، وتنزيه الله عن الظّلم
عرض ابن حجر لمسألة أفعال العباد وما يتّصل بها من الهدى والضّلال، وتنزيه الله سبحانه عن الظّلم، وفيما يلي عرض آرائه وتقويمها:
أولًا: أفعال العباد:
يرى ابن حجر أنّ أفعال العباد من خلق الله تعالى ومن كسب العباد، فهي تنسب لله خلقًا، وللعباد كسبًا، وأنّه بهذا يفارق القدريّة والجبريّة بزعمه، يقول في ذلك: "الله تعالى أجرى عادته الإلهيّة في هذا العالم على أسباب ومسبّبات تناط بتلك الأسباب، وينسب وقوعها إليها، نظرًا للصّورة الوجوديّة، وإن كان الكلّ في الحقيقة إنّما هو بقضائه وقدره كما يدلّ على ذلك كلّه قوله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17].
فأسند تعالى إليه صلى الله عليه وسلم الرّمي، وإليهم القتل باعتبار الصّورة الوجوديّة، ونفاهما عنهم باعتبار الحقيقة الإيجاديّة، إشارة إلى أنه يجب علينا رعاية المقامين، بأن نسند الأفعال إلى فاعليها صورة ليمدحوا أو يذمّوا باعتبار جريان تلك الصّور عليهم، وإلى الله حقيقة من حيث عجز العبد عن ذلك وانفراد الحقّ تبارك وتعالى به.
وأن نعتقد بطلان مذهب القدريّة الذين ينفون قدرة الحقّ، ويثبتون قدرة العبد تخيّلًا منهم أنهم فرّوا بذلك عن نسبة القبيح إلى الله تعالى، وغفلة عن
أنّه يلزمهم ما هو أقبح من ذلك وهو أن يجري في ملكه ما لا يشاؤه، على أنّ نسبة أفعال العباد إليه تعالى لا تستلزم نسبة القبيح إليه؛ لأنّ الشّيء إنّما هو قبيح بالنّسبة لفعلنا لا لفعله تعالى لأنّه يتصرّف في ملكه بما يشاء
…
وأن نعتقد بطلان مذهب الجبرية أيضًا، لأنّه يلزم عليه أن لا ثواب ولا عقاب، ولا مدح ولا ذمّ، لأنّ المجبر المكره على الشّيء من كلّ وجه لم يصدر منه فعل ينسب إليه حتى يُدار عليه حكم
…
وقد عُلم من الشّريعة الغرّاء أنّ الله تعالى أسند الأفعال لعباده، ومدحهم عليها تارة، وذمّهم أخرى، فنتج ما قلناه من التّوسّط بين المذهبين بأن نظرنا إلى الأفعال من حيث الصّورة وأنطنا بها أحكامًا، ومن حيث الحقيقة وأنطنا بها أحكامًا، لأنّ هذا هو العدل السّويّ، والطّريق الواضح الجليّ"
(1)
.
ويقول أيضًا: "أفعالنا كلّها بقدرته تعالى أوجدها فليس لقدرتنا في إيجادها تأثير البتّة، وإنّما خلق لنا قدرة واختيارًا فحيث لا مانع أوجدها مقارنة لها بالحكمة، فهو مُبدعها والعبد مُكتسبها فيجازى بفعله إن خيرًا فجزاؤه خير وإن شرًّا فالجزاء شرّ
…
"
(2)
.
التّقويم:
أفعال العباد قسمان: اضطراريّة واختياريّة.
فالاضطراريّة: كحركات المرتعش ونبضات العروق ونحو ذلك، وهذه لا خلاف بين النّاس في كونها خارجة عن قدرة العبد.
والاختياريّة: ما سوى ذلك
(3)
-وهي محلّ البحث هنا- وقد اختلف الناس فيها، وتعدّدت مذاهبهم تجاهها، وحاصل الكلام عليها ما يلي:
(1)
المنح المكية (3/ 1362 - 1363)، وانظر:(2/ 671)، الزواجر (1/ 100، 106، 108)، الفتاوى الحديثية (ص 276).
(2)
التعرف (ص 111)، وانظر:(ص 131)، الزواجر (1/ 100، 102)، فتح المبين (ص 200)، غرر المواعظ (ص 40)، الإيعاب (1/ 14)، فتح الإله (ص 6، 135).
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (8/ 405).
أفعال العباد الاختياريّة لها متعلّقان:
الأوّل: تعلّقها بالله عز وجل من حيث خلقه لها وعدمه.
والثّاني: تعلّقها بالعباد من حيث قدرتهم عليها وعدمها.
فأهل السّنّة والجماعة قالوا: بأنّ أفعال العباد كلّها من طاعة ومعصية، وخير وشرّ، مخلوقة لله تعالى، وأنّ العباد لهم قدرة على أفعالهم، وهم فاعلون لها على الحقيقة، وهي قائمة بهم، ومنسوبة إليهم، ومن ثم فإنّهم يستحقّون عليها المدح والذّمّ والثّواب والعقاب.
فجمعوا في قولهم بين المتعلّقين، وقالوا بكلا الجهتين، لدلالة نصوص الوحيين.
فمن الأدلّة على خلق الله لأفعال العباد:
قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96].
وقوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49].
ومن الأدلّة على قدرة العباد على أفعالهم ونسبتها لهم حقيقة.
قوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63].
وقوله سبحانه: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
وجمع الله بين الأمرين في قوله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 7 - 10]
(1)
.
وقد خالف أهل السّنّة والجماعة في ذلك عامّة الطّوائف والفرق.
فالجهميّة الجبريّة ومن وافقهم قالوا بالمتعلّق الأوّل دون الثّاني فأثبتوا خلق الله لأفعال العباد ونفوا قدرة العباد عليها، وسووا بين أفعالهم
(1)
انظر: خلق أفعال العباد (ص 188)، عقيدة السّلف وأصحاب الحديث (ص 279)، شرح السنة للبغوي (1/ 142 - 144)، الانتصار في الرّدّ على المعتزلة القدرية الأشرار للعمراني (1/ 167)، مجموع الفتاوى (3/ 373 - 374)(8/ 117 - 118، 486 - 488)، شفاء العليل (1/ 333، 363)، شرح الطحاوية (1/ 321)(2/ 640)، لوامع الأنوار البهية (1/ 291)، وللاستزادة: أفعال العباد بين أهل السنة ومخالفيهم د. عبد العزيز الحميدي (ص 13 - 90).
الاختياريّة وأفعالهم الاضطراريّة
(1)
.
والمعتزلة القدريّة ومن وافقهم قالوا بالمتعلّق الثّاني دون الأوّل فنفوا خلق الله لأفعال العباد، وقالوا بأنّ العباد هم الذين خلقوا أفعالهم، وأثبتوا قدرة العباد المطلقة على أفعالهم
(2)
.
ورامت الأشعريّة التّوسّط بين الجبريّة والقدريّة فأحدثت نظريّة الكسب، وحارت أفهامهم في تصوّرها، واضطربت أقوالهم في التّعبير عنها
(3)
.
وحاصلها أنّ الكسب هو الاقتران العادي بين قدرة العبد الحادثة وفعله الواقع بقدرة الله وجدها
(4)
.
وبناء على ذلك قالوا: إنّ أفعال العباد خلق لله وكسب للعباد، وليس لقدرة العبد المخلوقة فيه أثر في فعله، ولكن الفعل يحدث عندها لا بها
(5)
.
والمتأمّل في كلام ابن حجر -عفا الله عنه- المتقدّم يظهر له موافقته لهم على قولهم.
والرّدّ على الكسب الأشعري، وبيان بطلانه يطول، فأكتفي بطرف منه:
(1)
انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 338)، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 87)، الفرق بين الفرق (ص 211)، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص 103).
(2)
انظر: المغني (8/ 8، 16، 43)(9/ 95)، المحيط بالتكليف (ص 340)، شرح الأصول الخمسة (ص 336) وما بعدها، إنقاذ البشر من الجبر والقدر لعلي بن الحسين الكاظم المرتضى ضمن رسائل العدل (1/ 256 - 305).
(3)
انظر: أصول الدين للبغدادي (ص 133)، الإرشاد (ص 188)، الملل والنحل للشهرستاني
(1/ 97)، القضاء والقدر للرازي (ص 77)، المواقف (ص 311)، وشرحها للجرجاني (8/ 145)، غاية المرام (ص 223)، شرح المقاصد (4/ 263)، تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد (ص 104 - 106).
(4)
نقله ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل (1/ 368) عن بعض متأخري الأشاعرة دون تعيينه، واستحسنه في بيان قولهم وتلخيص اختلافهم.
(5)
انظر: أصول الدين للبغدادي (ص 133)، الإرشاد (ص 188)، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 97)، القضاء والقدر للرازي (ص 77)، المواقف (ص 311)، وشرحها للجرجاني (8/ 145)، غاية المرام (ص 223)، شرح المقاصد (4/ 263)، تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد (ص 104 - 106).
1 -
أنّ النّصوص الشّرعيّة قد دلّت على خلق الله لأفعال العباد وإثبات القدرة لهم عليها، ونسبتها لهم حقيقة، واستحقاقهم المدح والذّمّ والثّواب والعقاب وفقًا لها، وقد تقدّم ذكر بعضها.
2 -
أنّ القول بالكسب بهذا المعنى قول حادث بعد انقضاء القرون الثّلاثة المفضّلة فلم يعرف القول به إلا في زمن الأشعري.
3 -
أنّ القول بالكسب بهذا المعنى قول متناقض؛ إذ القائل به لا يستطيع أن يوجد فرقًا بين الفعل الذي نفاه عن العبد، والكسب الذي أثبته له، ولهذا فإن حقيقته القول بالجبر
(1)
.
4 -
أنّ القول بالكسب بهذا المعنى قول غير معقول؛ إذ لا حقيقة له ولا حاصل تحته، ولذا شنع أعداء الأشاعرة به عليهم، وعدّه بعض الأشاعرة عقدة تورّط فيها أصحاب الأشعري
(2)
.
5 -
أنّ القول بالكسب بهذا المعنى مبني على أصلين باطلين، قال بهما الأشعري وجمهور أصحابه والتزموا ما يرد عليهما، وهما: القول بأنّ الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق، وأنّ قدرة العبد لا يكون مقدورها إلا مقارنًا للفعل لا خارجًا عنه
(3)
.
6 -
أنّ كبار أعلام الأشاعرة اضطربت أقوالهم في الكسب، وذهب كلّ منهم إلى رأي، وفرّ إلى قول، فمنهم من نحا إلى التّصريح بحقيقة المذهب وهو الجبر، ومنهم من اقترب إلى القول بمذهب أهل السّنّة والجماعة في ذلك، ومنهم من سعى إلى النّهوض بالمذهب الأشعري من عثرته وتوجيه قول إمامه بما لا يوافقه عليه أصحابه الأشاعرة فضلًا عن غيرهم
(4)
.
وبما سبق إيراده في الرّدّ على الكسب الأشعري يتّضح خطأ ابن حجر -عفا الله عنه- في قوله به، وتقريره له.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (8/ 119، 387، 403 - 407)، منهاج السنة (3/ 209).
(2)
انظر: منهاج السنة (3/ 109)، شفاء العليل (1/ 370).
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (8/ 119 - 120).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (8/ 128 - 129)، شفاء العليل (1/ 369).