الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعليه فما زعمه ابن حجر - غفر الله له - من قيام الإجماع على أن أول واجب المعرفة والطريق إليها من النظر أو القصد إليه ونفي الخلاف عنه، منقوض بأن الإجماع مستقر على خلافه، وممن حكى ذلك ابن المنذر، وابن حزم، وأبو المظفر السمعاني، وابن تيمية وابن القيم رحمهم الله جميعًا - كما سبق.
بل إن من الأشاعرة أنفسهم من أنكر هذا القول وقال بخلافه كالشهرستاني
(1)
(2)
، والرازي
(3)
(4)
، والآمدي
(5)
(6)
، وغيرهم.
ثانيًا: دلائل معرفة الله تعالى:
يرى ابن حجر رحمه الله أن أفضل الطرق إلى اكتساب معرفة الله تعالى هو النظر في مخلوقاته سبحانه والاستدلال بها عليه، ويعلل ذلك بكونها لو أمكن تحصيلها بطريق أسهل من ذلك لورد به النقل.
يقول في ذلك: "لو كان الإسلام لا يتم إلّا على القوانين العقلية التي رتبها الأصوليون لبيّنها صلى الله عليه وسلم للناس وبلّغها إليهم كما أمر في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، فلما تيقنا أنه لم يدع
(1)
هو محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني، أشعري متكلم، له مصنفات كثيرة منها: نهاية الإقدام في علم الكلام، الملل والنحل، مصارعة الفلاسفة، توفي سنة 548 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (20/ 286)، شذرات الذهب (4/ 149).
(2)
انظر: نهاية الإقدام له (ص 173، 126).
(3)
هو محمد بن عمر بن الحسن بن علي، أبو عبد الله، المشهور بالفخر الرازي، من كبار الأشاعرة وأئمته، ألف كتبًا كثيرة، منها: المطالب العالية، والأربعين في أصول الدين، والتفسير توفي سنة 606 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (21/ 500)، وفيات الأعيان (4/ 248).
(4)
انظر: درء التعارض (5/ 290)، ونص كلامه في كتاب نهاية العقول.
(5)
هو علي بن أبي علي بن محمد الثعلبي، الشهير بسيف الدين الآمدي، متكلم أشعري، من كتبه: أبكار الأفكار، غاية المرام، الإحكام في أصول الأحكام، توفي سنة 631 هـ.
انظر: وفيات الأعيان (2/ 455)، شذرات الذهب (5/ 144).
(6)
انظر: أبكار الأفكار (1/ 170 - 171).
لذلك ولا تكلم به أحد من الصحابة بكلمة واحدة فما فوقها من هذا النمط من طريق تواتر ولا آحاد من طريق صحيح ولا سقيم؟ علم أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه عدلوا إلى ما هو أبين للفهم ليستبقوا إليه بأوائل العقل وهو ما أمر الله به من الاعتبار بمخلوقاته في غير ما آية"
(1)
.
ويؤكد رحمه الله ذلك بقوله: "لا حجة في إثبات التوحيد وما يجب له تعالى أو يجوز أو يستحيل بما سوى ما أنزل في كتابه وبيّنه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وما نبّه عليه من الاعتبار، فقال:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]، وقوله تعالى:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)} [الغاشية: 17]، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ} [آل عمران: 190]، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)} [الواقعة: 58]، الآيات.
وشبه ذلك من المجادلة الواضحة التي يدركها كافة العقلاء وعامة المخاطبين، وهي أكثر من أن تحصى، فيتعين بها وجوده، ثم يتيقن وحدانيته وعلمه وقدرته
…
"
(2)
.
ويصرح رحمه الله بأن الاستدلال بما عليه المخلوقات من تمام الخلقة وبديع الصنعة أصح وأوفق في الدلالة على وجود الله تعالى وربوبيته من الاستدلال عليها بالنظر العقلي الذي سلكه المتكلمون من الأشاعرة وغيرهم.
حيث يقول: "فالاستدلال بهذا [يعني: الاستدلال بالمخلوقات على الخالق] أصح وأوضح في التوصل إلى المقصود، وعليه عوَّل سلف الأمة؛ لأنه نظر عقلي بديهي مركب على مقدمات من العقل والعلم، والتوصل إليه بطريق الأشاعرة فهو وإن صح إلا أنه لا يؤمن على صاحبه الفتنة؛ ولهذا تركها السلف لا لعجزهم عنها فهم أعقل وأفهم ممن بعدهم، ولم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أوائلها"
(3)
.
(1)
الفتاوى الحديثية (ص 274).
(2)
المصدر السابق (ص 273 - 274).
(3)
المصدر السابق (ص 274).
التقويم:
اختلف الناس في دلائل معرفة الله تعالى:
فذهب عامة السلف رحمهم الله إلى أن معرفة الله تحصل بمطلق النظر المؤدي إليها، وهو كل ما يتوصل به إلى الاستدلال على وجود الله تعالى والإقرار بربوبيته من الأدلة النقلية، والعقلية، والفطرية، والمشاهدة
(1)
، ومنها: الاستدلال بالمخلوق على الخالق وبالصنعة على الصانع
(2)
.
وذهب جمهور المتكلمين إلى أن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر العقلي المؤدي إليها، وهو نظر خاص في أدلة حادثة ابتدعوها، أهمها: دليل الحدوث، ودليل الإمكان
(3)
.
وبما سبق يتضح أن ابن حجر رحمه الله وإن وافق جمهور المتكلمين في القول بأن المعرفة كسبية نظرية، وأن الطريق إليها هو النظر إلا أنه خالفهم في دلائلها، وأنكر عليهم سلوكهم فيها غير مسلك السلف.
وهو بهذا يوافق بعض أصحابه الأشاعرة في تقريرهم لدلائل المعرفة بمطلق النظر الدال عليها، وذمهم لما عليه جمهور أصحابهم المتكلمين من تقريرها بالنظر العقلي، على اختلاف بينهم وبين السلف في سبب ذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "والذامون لها [يعنى: دلائل المتكلمين] نوعان:
منهم من يذمها؛ لأنها بدعة في الإسلام، فإنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بها ولا الصحابة، لأنها طويلة خطرة كثيرة الممانعات والمعارضات، فصار السالك فيها كراكب البحر عند هيجانه، وهذه طريقة
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (6/ 73)(10/ 147)، درء التعارض (8/ 6، 8، 456، 468، 533 - 534)، الصواعق المرسلة لابن القيم (2/ 463 - 464).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (2/ 399 - 400)، درء التعارض (9/ 321 - 322)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 172 - 173).
(3)
انظر: الإنصاف (ص 16)، الإرشاد (ص 39)، الشامل (ص 23)، المواقف (ص 266)، وشرحها (8/ 2).
الأشعري في ذمه لها والخطابي
(1)
والغزالي
(2)
وغيرهم ممن لا يفصح ببطلانها.
ومنهم من ذمها؛ لأنها مشتملة على مقامات باطلة لا تحصل المقصود بل تناقضه، وهذا قول أئمة الحديث وجمهور السلف"
(3)
.
وعليه فقول ابن حجر - غفر الله له - في كلامه المتقدم: "بأن طريق الأشاعرة وإن صح
…
" متعقب بأنه غير صحيح أصلًا؛ وذلك لما يلي:
1 -
أن هذا الطريق حادث بعد أن لم يكن، فلم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعين ولا أتباعهم ولا عرفوه، وهذا مما يقر به ابن حجر - كما في كلامه المتقدم - ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أوائلها
(4)
.
2 -
أن هذا الطريق التزم أصحابه باطلًا من القول، منه: نفي الصفات الاختيارية بدعوى أنها أعراض
(5)
، والأعراض حادثة، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، ومن ثم قالوا بأنه يلزم نفيها عن الله تعالى؛ لأن ثبوتها بزعمهم يلزم منه قيام الحوادث به، وهذا يؤدي إلى تعطيل وجوده الذي تم بإثبات أن كل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث،
(1)
هو حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي، الشافعي، من متقدمي الأشاعرة وفضلائهم، من مصنفاته: الغنية عن الكلام وأهله، غريب الحديث، معالم السنن. توفي سنة 388 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 23)، شذرات الذهب (3/ 127).
(2)
هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، المشهور بأبي حامد الغزالي، من كبار الأشاعرة وأئمتهم، من مؤلفاته: إحياء علوم الدين، الاقتصاد في الاعتقاد، ميزان العلم، توفي سنة 505 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (19/ 322)، شذرات الذهب (4/ 10).
(3)
الصفدية (1/ 275)، وانظر: مجموع الفتاوى (5/ 543)، درء التعارض (1/ 309).
(4)
انظر: درء التعارض (1/ 39، 309 - 310)، مجموع الفتاوى (16/ 267)، منهاج السنة (1/ 425 - 426).
(5)
الأعراض: جمع عرض، وهو مما اختلف أرباب الكلام فيه، وعامتهم على القول بأنه الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع أي محل يقوم به.
انظر: المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي (ص 371)، التعريفات للجرجاني (ص 148).
ولا شك أن ما أدى إلى باطل يكون باطلًا كذلك
(1)
.
3 -
أن هذا الطريق طريق غامض طويل، وهذا مما يعترف به أئمة الأشاعرة أنفسهم
(2)
، حتى عد بعضهم أكثر المتكلمين مقلدين في عقائدهم لعدم تحصيلهم له فضلًا عن غيرهم
(3)
، فالقول بوجوبه على كل مكلف وتأثيم من لم يسلكه، يلزم منه تكليف ما لا يطاق، والأشاعرة من أشد الناس إنكارًا له.
4 -
أن هذا الطريق لا يؤمن على صاحبه الفتنة - كما في كلام ابن حجر المتقدم -.
يقول الرازي - وهو من أئمتهم -: "إن الدلائل التي ذكرها المتكلمون - وإن كانت كاملة قوية - إلا أن هذه الطريقة المذكورة في القرآن عندي أقرب إلى الحق والصواب؛ وذلك لأن تلك الدلائل دقيقة، وبسبب ما فيها من الدقة، انفتحت أبواب الشبهات وكثرت السؤالات، وأما الطريق الوارد في القرآن فحاصله راجع إلى طريق واحد، وهو المنع من التعمق والاحتراز عن فتح القيل والقال
…
ومن ترك التعصب وجرب مثل تجربتي علم أن الحق ما ذكرته"
(4)
.
ولهذا كله يقول العلامة أبو المظفر السمعاني رحمه الله: "فليتدبر المسلم المسترشد أحوال هؤلاء الناظرين كيف تحيّروا في نظرهم، وارتكسوا فيه، فلئن نجا واحد بنظره فقد هلك فيه الألوف من الناس
…
أفيستجيز مسلم أن يدعو الخلق إلى مثل هذا الطريق المظلم، ويجعله سبيل منجاتهم
…
وكيف له المنجاة من أودية الكفر وعامتها بل جميعها إنما يهبط عليها من هذه المرقاة، أعني: طلب الحق من النظر"
(5)
.
(1)
انظر: الصفدية (1/ 274)، درء التعارض (1/ 39 - 41)، مجموع الفتاوى (6/ 519).
(2)
انظر: المستصفى للغزالي (4/ 57)، المحصول للرازي (6/ 45)، المطالب العالية له (1/ 436).
(3)
انظر المستصفى (1/ 136).
(4)
المطالب العالية (1/ 436).
(5)
الحجة في بيان المحجة (2/ 121).