الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث عصمة الملائكة
حكى ابن حجر رحمه الله اتفاق المسلمين على عصمة المرسلين من الملائكة وخلافهم فيمن عداهم، ورجح عصمة الجميع، فقال:"أجمع المسلمون أنهم أيعني: الملائكة، مؤمنون فضلاء، واتفق أئمة المسلمين أن الرسل منهم إلى الأنبياء معصومون كالأنبياء، والأصح بل الصواب عصمة بقيتهم"
(1)
.
كما حكى قصة هاروت وماروت، وذكر اختلاف أهل العلم فيهما هل هما ملكان أم لا؟ ورجح كونهما ملكين، ورد على من أنكر ثبوت قصتهما فقال: "والجمهور على فتح تاء هاروت وماروت، وهما بناء على فتح لام الملكين بدل منهما
…
وهو الصحيح للتصريح به في الحديث
…
ونازع جماعة في أصل ثبوت القصة، وليس كما زعموا لورود الحديث بصحته بها
…
"
(2)
.
وقد أورد ابن حجر رحمه الله عفا الله عنه - القصة، مختصرة وأجاب عنها فقال: "وأما ما وقع لهاروت وماروت كما صح عنه صلى الله عليه وسلم في شأنهما أنهما كانا من الملائكة وأنهما افتتنا بالزهرة، وكانت أجمل نساء زمنها حتى زنيا بها وشربا الخمر، وقتلا فمسخت كوكبًا لأنهما علَّماها الاسم الأعظم الذي كانا يرقيان به إلى السماء فرقيت إليها فمسخت هذا الكوكب المضيء
(1)
الفتاوى الحديثية (ص 87)، وانظر: التعرف (ص 119)، الزواجر (2/ 105 - 106)، الإعلام بقواطع الإسلام (ص 288 - 289).
(2)
الزواجر (2/ 105 - 106).
المعروف، فذلك أمر خارق للعادة أوجده الله تأديبًا للملائكة في قولهم
…
وهذا الذي ذكرته من الجواب عن هذه القصة من أنها أمر خارق للعادة، وبهذه الحكمة التي ذكرتها يبين به الرد على من أطال في إنكار قصتهما
…
وأن ذلك الوقوع لتلك الحكمة لا يخل بعصمة الملائكة من حيث هي ولا ينافيه شيء من الأدلة والقواعد، فاحفظ ما قررته وتأمله، فإن الكلام قد كثر في هذا المحل وتعارضت فيه الآراء والظنون، وما ذكرته فيه هو الأوفق بالسنة وغير مناف للقواعد وإن لم أر من سبقني إليه"
(1)
.
التقويم:
العصمة لغة: اسم مصدر من "عَصَمَ".
يقول ابن فارس: "العين، والصاد، والميم، أصل واحد صحيح، يدل على إمساك ومنع وملازمة، والمعنى في ذلك كله معنى واحد"
(2)
.
والمراد بها اصطلاحًا: الالتزام بالمأمورات والبعد عن المنهيات
(3)
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "العصمة مطلقًا
…
هي فعل المأمور وترك المحذور"
(4)
.
وعليه فالمراد بالبحث في عصمة الملائكة هو البحث في تحقق هذا المعنى في حقهم من عدمه.
ولتحقيق ذلك يقال: اتفق المسلمون على عصمة المرسلين من الملائكة، واختلفوا فيمن عداهم.
يقول القاضي عياض
(5)
رحمه الله: "أجمع المسلمون على أن الملائكة
(1)
الفتاوى الحديثية (ص 87، 88).
(2)
معجم مقاييس اللغة (ص 779)، وانظر: تهذيب اللغة (3/ 2465)، الصحاح (5/ 1986)، لسان العرب (12/ 403)، القاموس المحيط (ص 1469).
(3)
انظر: منهاج السنة (6/ 406، 429، 469). (7/ 85)، فتح البادي (11/ 510)، شرح الكوكب المنير (2/ 167)، وللاستزادة: عصمة غير الأنبياء للدكتور يوسف السعيد (ص 218 - 219).
(4)
منهاج السنة (7/ 85).
(5)
هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبي، أبو الفضل =
مؤمنون فضلاء، واتفق أئمة المسلمين أن حكم المرسلين منهم حكم النبيين سواء في العصمة
…
واختلفوا في غير المرسلين منهم:
فذهبت طائفة إلى عصمة جميعهم عن المعاصي، واحتجوا بقوله تعالى:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]
…
وذهبت طائفة إلى أن هذا خصوص للمرسلين منهم والمقربين.
والصواب عصمة جميعهم، وتنزيه نصابهم عن جميع ما يحط من رتبتهم ومنزلتهم عن جليل مقدارهم"
(1)
.
وعليه فما ذكره ابن حجر رحمه الله من ترجيح القول بعصمة الجميع هو الصواب الذي تعضده الأدلة، ومنها:
قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)} [الأنبياء: 26، 27].
وقوله سبحانه: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
وقوله جل وعلا: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50].
وقوله سبحانه: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 20].
وقوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75].
فهذه الآيات دلت بمجموعها على فعلهم المأمورات وتركهم المنهيات، ومبالغتهم في الاشتغال بعبادة الله، واصطفاء الله سبحانه منهم، وقد سيقت كلها في معرض التمدح، وإذا كان شأنهم كذلك لم يبق للمعصية
= المشهور بالقاضي، من أئمة المالكية وعلمائهم، من مؤلفاته: إكمال المعلم بفوائد مسلم، الشفا في حقوق المصطفى، ترتيب المدارك وغيرها، توفي سنة 544 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (20/ 212)، شذرات الذهب (4/ 138).
(1)
الشفا (2/ 851 - 853).
عليهم سبيل
(1)
.
وأما هاروت وماروت الوارد ذكرهما في قوله سبحانه: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102].
فقد اختلف أهل العلم فيهما على قولين:
الأول: أنهما ليسا من الملائكة، وإنما هما شيطانان، و (ما) في قوله سبحانه:{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} نافية، وعلى قول هؤلاء فلا إشكال في الآية.
الثاني: أنهما من الملائكة، و (ما) في قوله سبحانه:{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} موصولة
(2)
، واختلف هؤلاء في الجواب عن قصتهما:
فمنهم من ذهب إلى القول بأنه يمكن أن تكون هذه شريعة من الشرائع، ثم نسخت، كما نسخ غيرها من الشرائع
(3)
.
ومنهم من ذهب إلى القول بأن هذا من امتحان الله لعباده، وهو أمر جائز
(4)
.
ومنهم من ذهب إلى القول بأن فعلهما ليس بمعصية، وأنهما لم يعصيا، لكونهما يعلمان الناس السحر تعليم إنذار وتحذير، لا تعليم دعاء إليه
(5)
.
(1)
انظر: الفصل (3/ 303 - 304)، والشفا (2/ 851 - 859)، والمواقف للإيجي (ص 366)، وشرحها للجرجاني (8/ 280)، وشرح المقاصد (5/ 64)، الحبائك (ص 252 - 253)، والكوكب الأجوج للسفاف (ص 152)، وللاستزادة: عصمة غير الأنبياء للسعيد (ص 220 - 227).
(2)
انظر: تفسير ابن جرير (1/ 497)، تفسير ابن أبي زمنين (1/ 164)، تفسير السمعاني (1/ 116)، تفسير البغوي (1/ 129)، تفسير القرطبي (2/ 50 - 51)، تفسير ابن كثير (1/ 147).
(3)
انظر: الفصل لابن جزم (3/ 305).
(4)
انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 184)، تفسير ابن جرير (1/ 499 - 500) تفسير البغوي (1/ 129).
(5)
انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 183)، الشفا (2/ 856) تفسير القرطبي (2/ 53).
ومنهم من ذهب إلى القول بأن ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة لا يعارضه ما ورد في قصة هاروت وماروت، لكونهما قد سبق في علم الله لهما ذلك، فيكون تخصيصًا لهما
(1)
.
وما ذكره ابن حجر رحمه الله في الجواب عن الآية هو بمعنى هذا.
وأما ما ذكره من تفصيل قصتهما وحكمه بصحتها، فالجواب عنه أن يقال: إن القصة رويت مرفوعة وموقوفة.
فأما الرواية المرفوعة: فقد وردت من حديث ابن عمر، وعلي رضي الله عنهما.
فأما حديث ابن عمر: فقد أخرجه أحمد
(2)
، وعبد بن حميد
(3)
(4)
، وابن حبان
(5)
، والبزار
(6)
، والبيهقي
(7)
، وابن السني
(8)
(9)
من طرق عن يحي بن أبي بكير، عن زهير بن محمد، عن موسى بن جبير، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا بنحو القصة المذكورة.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "هذا حديث غريب من هذا الوجه ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم الحذاء
…
ذكره ابن أبي حاتم
(10)
في كتاب الجرح
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 47)، تفسير ابن كثير (1/ 147).
(2)
انظر: المسند (10/ 317) رقم (6178).
(3)
هو عبد بن حميد بن نصر الكسِّي أو الكَشِّي، أبو محمد، إمام حافظ، من مؤلفاته: التفسير، والمسند، والمنتخب منه، توفي سنة 249 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 235)، شذرات الذهب (2/ 120).
(4)
انظر: المنتخب (2/ 29) رقم (785).
(5)
انظر: الصحيح (14/ 63 - 66) رقم (6186).
(6)
انظر: كشف الأستار للهيثمي (3/ 358) رقم (2938).
(7)
انظر: السنن الكبرى (10/ 4 - 5).
(8)
هو أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط الدينوري، أبو بكر، المعروف بابن السني، من مؤلفاته: عمل اليوم والليلة، اختصار السنن الكبرى للنسائي، فضائل الأعمال، توفي سنة 364 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (16/ 225)، شذرات الذهب (3/ 48).
(9)
انظر: عمل اليوم والليلة (ص 605) رقم (657).
(10)
هو عبد الرحمن بن محمد بن إدريس التميمي الحنظلي، أبو محمد، إمام حافظ، وسلفي عابد، من مؤلفاته: الجرح والتعديل، مناقب الإمام الشافعي، توفي سنة 327 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 263 - 269)، طبقات الشافعية (3 - 324).
والتعديل
(1)
، ولم يحك فيه شيئًا من هذا ولا هذا، فهو مستور الحال، وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي له متابع من وجه آخر عن نافع:
كما قال ابن مردويه
(2)
: حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا هشام بن علي بن هشام، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا سعيد بن سلمة، حدثنا موسى بن سرجس، عن نافع، عن ابن عمر سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فذكره بطوله.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين - وهو سُنَيْد صاحب التفسير - حدثنا الفرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع
…
وهذان - أيضًا - غريبان جدًّا.
وأقرب ما في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر، عن كعب الأحبار، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم
…
فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل، والله أعلم"
(3)
.
وأما حديث علي رضي الله عنه.
فقد أخرجه ابن مردويه من طريق مغيث، عن مولاه جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه مرفوعًا.
وأخرجه ابن السني
(4)
وابن مردويه من طريق جابر، عن أبي الطفيل، عن علي رضي الله عنه مرفوعًا
(5)
.
(1)
انظر: (4/ 139/1).
(2)
هو أحمد بن موسى بن مردويه بن فورك بن موسى بن جعفر، الأصبهانيّ، أبو بكر، الحافظ المجود، محدث أصبهان، من مؤلفاته: التفسير الكبير، والتاريخ، والأمالي، توفي سنة 410 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 308)، شذرات الذهب (3/ 190).
(3)
التفسير (1/ 148).
(4)
عمل اليوم والليلة (ص 604) رقم (654).
(5)
انظر: تفسير ابن كثير (1/ 148).
قال ابن كثير: "وهذا أيضًا لا يصح، وهو منكر جدًّا، والله أعلم"
(1)
.
وأما الرواية الموقوفة: فقد وردت من قول جماعة من الصحابة كعلي، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم ومن قول جماعة من التابعين ككعب الأحبار، ومجاهد
(2)
، والحسن
(3)
، والسدي
(4)
. وغيرهم - رحمهم الله تعالى -
(5)
.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وأما ما يذكره كثير من المفسرين في قصة هاروت وماروت
…
فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين، وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار، وتلقاه عنه طائفة من السلف، فذكروه على سبيل الحكاية والتحديث عن بني إسرائيل"
(6)
.
هذا وقد ضعف القصة برواياتها وأنكرها جماعة من أهل العلم قديمًا وحديثًا
(7)
.
وحاصل الكلام أن القصة راجعة "في تفاصيلها إلى أخبار بني
(1)
التفسير (1/ 148).
(2)
هو مجاهد بن جبر المكي الأسود، أبو الحجاج، إمام حافظ مفسر، من أئمة التابعين، توفي سنة 102 هـ.
انظر: طبقات ابن سعد (5/ 466)، سير أعلام النبلاء (4/ 449).
(3)
هو الحسن بن أبي الحسن بن يسار، أبو سعيد، إمام حافظ مفسر، من أئمة التابعين، توفي سنة 110 هـ.
انظر: طبقات ابن سعد (5/ 156)، سير أعلام النبلاء (4/ 563).
(4)
هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي، إمام حافظ مفسر، من أئمة التابعين، توفي سنة 127 هـ.
انظر: طبقات ابن سعد (6/ 323)، سير أعلام النبلاء (5/ 264).
(5)
انظر: تفسير ابن جرير (1/ 497)، تفسير ابن كثير (1/ 148 - 152)، الدر المنثور للسيوطي (1/ 238).
(6)
البداية والنهاية (1/ 37).
(7)
ممن قال بضعف القصة ونكارتها: الإمام أحمد في المنتخب من العلل للخلال (ص 295) برقم (194)، وأبو حاتم في العلل لابنه (2/ 69 - 70)، وابن حزم في الفصل (4/ 61 - 62)، والقاضي عياض في الشفا (2/ 853 - 855)، وابن الجوزي في الموضوعات (1/ 186 - 187)، والرازي في تفسيره (3/ 219)، والقرطبي في تفسيره (2/ 52)، والسيوطي في اللآلي المصنوعة (1/ 158 - 159)، وأبو السعود في تفسيره =
إسرائيل؛ إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال"
(1)
.
* * *
= (1/ 165)، والألوسي في روح المعاني (1/ 340)، وأحمد شاكر في تعليقه على المسند (9/ 32)، والألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 314 - 318).
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 151).