الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما القسم المكروه: ففيه أشياء هي من قبيل البدع"
(1)
المحرمة لا المكروهة.
والثاني: المعارضة:
بما تقدم من الأدلة الدالة على تحريم البدع كلها، والحكم ببطلانها.
رابعًا: موقفه من بعض البدع المنتشرة في عصره:
حذر ابن حجر رحمه الله من جملة من البدع الحادثة في مواضع متعددة من كتبه، سواء من البدع العقدية
(2)
أو البدع العملية
(3)
.
وفيما يلي دراسة لموقفه من أشهر بدع عصره.
1 - الاحتفال بالمولد النبوي:
عرف ابن حجر - غفر الله - المولد، بقوله:"المولد: بكسر اللام زمن الولادة، وبفتحها: مكانها"
(4)
.
وذكر اختلاف المؤرخين في تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم، وأرجح أقوالهم، فقال:"اختلفوا في مولده ويومه على أقوال كثيرة، ولا خلاف أنه ولد يوم الاثنين، والأشهر أنه ولد في شهر ربيع الأول، والأشهر أيضًا أنه ولد في ثاني عشر، وكثيرون أئمة حفاظ متقدمون وغيرهم على أنه يوم ثامنه"
(5)
.
وبين حكم الاحتفال به، فقال: "اعلم أنه بدعة؛ لأنه لم ينقل عن أحد من السلف من القرون الثلاثة التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بخيريتها، لكنها بدعة حسنة لِمَا اشتملت عليه من الإحسان الكثير للفقراء، ومن قراءة القرآن، وإكثار الذكر، وقراءة مولد وما اشتمل عليه من كراماته وكثير من معجزاته، وإظهار السرور والفرح به
…
(1)
الاعتصام (1/ 191 - 197).
(2)
سبق ذكرها في مواضعها من الرسالة.
(3)
انظر: الفتاوى الفقهية الكبرى (1/ 397، 398، 413، 422، 431)(4/ 216)، تحفة المحتاج (1/ 432، 433، 438)، الإفادة لما جاء في المرض والعيادة (ص 38، 39)، الدر المنضود (ص 171).
(4)
المنح المكية (1/ 179).
(5)
مولد النبي صلى الله عليه وسلم (ص 49)، وانظر: المولد الشريف (ص 53)، أشرف الوسائل (ص 38).
ومما يدل على أن عمل المولد المشتمل على ما مر من الإحسان الواسع والذكر الكثير بدعة حسنة:
إكثار الإمام الكبير أبي شامة
(1)
شيخ النووي - رحمهما الله - الثناء على الملك المظفر
(2)
صاحب إربل
(3)
بما كان يفعله من خيرات في هذه الليلة مما لم يحك بعضه عن غيره
…
فثناء هذا الإمام على هذا الفعل في هذه الليلة أول دليل على أنها بدعة حسنة، لا سيما أبو شامة - رحمه الله تعالى - إنما ذكر هذا الثناء الفائق في كتابه الذي سماه الباعث على إنكار البدع والحوادث
(4)
، فذكر ذلك الثناء والمدح في هذا الكتاب الموضوع لإنكار البدع أول دليل على أن ذلك ليس من البدع التي تنكر بل من التي تستحسن وتشكر
…
واستدل شيخ الإسلام الحافظ أبو الفضل ابن حجر لكونها بدعة حسنة بخبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا قدم المدينة ووجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم، فقالوا: هذا يوم أغرق الله فيه فرعون ونجّى موسى، فنحن نصومه شكرًا لله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم:"فنحن أحق بموسى منكم" فصامه وأمر بصيامه، وقال: "إن عشت إلى قابل
…
" الحديث
(5)
.
(1)
هو عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي، الدمشقي، شهاب الدين، أبو القاسم، المشهور بأبي شامة، من أئمة الشافعية في وقته، له مؤلفات منها: الباعث على إنكار البدع والحوادث، المؤمل للرد إلى الأمر الأول، المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز وغيرها. توفي سنة 665 هـ.
انظر: تذكرة الحفاظ (4/ 1460)، شذرات الذهب (5/ 318).
(2)
هو الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي كوحك التركماني تولى الملك بعد أبيه سنة 563 هـ، اشتهر بعمل المولد والاحتفال الهائل به، توفي سنة 630 هـ.
انظر: وفيات الأعيان (4/ 113 - 121)، شذرات الذهب (5/ 138).
(3)
إربل: بالكسر ثم السكون قلعة حصينة ومدينة كبيرة تعد من أعمال الموصل، وقد قام بعمارتها الأمير كوكبري، وأكثر أهلها من الأكراد، وتقع شمال العراق شرقي مدينة الموصل.
انظر: معجم البلدان (1/ 137).
(4)
انظر: (ص 95).
(5)
أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء (2/ 593) برقم (2004)، ومسلم =
قال - أعني: شيخ الإسلام -: "فيستفاد منه فضل الشكر لله تعالى بأنواع العبادات على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، وأي نعمة أعظم من نعمة بروز هذا النبي، نبي الرحمة في ذلك اليوم صلى الله عليه وسلم
…
ثم ينبغي أن يتحرى اليوم بعينه، فإن كان قد ولد ليلًا فليقع الشكر بما يناسب الليل كالإطعام والقيام، وإن كان قد ولد نهارًا فبما يناسب كالصيام، ولا بد أن يكون ذلك اليوم من عدد أيام ذلك الشهر بعينه حتى يطابق قصة موسى عليه الصلاة والسلام في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فتعلق إلى أي يوم كان من السنة وفيه منافرة، وبالجملة فلا بأس أن نفعل الخير في سائر الأيام والليالي التي وقع الاختلاف في تعيينها للمولد حسبما يأتي على حسب الاستطاعة، بل يحسن في أيام الشهر كلها ولياليه". انتهى
(1)
.
وقد جاء عن الإمام الزاهد والقدوة المعمر أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الرحيم بن جماعة
(2)
أنه لَمّا كان بطيبة على مشرّفها أفضل الصلاة والسلام كان يعمل بها طعامًا في المولد النبوي، ويطعم الناس، ويقول: لو تمكنت لعملت بطول الشهر كل يوم مولدًا"
(3)
.
وأنكر رحمه الله بعض ما يحصل في الاحتفال بالمولد من القبائح فقال: "في بيان قبائح صدرت من الناس مقترنة بعمل المولد، منها لا سيما بمكة:
اختلاط الرجال بالنساء في المسجد الحرام
…
وخروجهم إلى زيارة محل المولد المشهور على أقبح هيئة وأشنع رؤية ويسمون ذلك زفة المولد،
= كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء (2/ 795) برقم (1130) من حديث ابن عباس رضي الله عنها به.
(1)
بحثت عن كلام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في مظانه من كتبه فلم أجده، وقد نقله عنه تلميذه السخاوي في الأجوبة المرضية (3/ 1117)، والسيوطي في الحاوي (1/ 196).
(2)
هو إبراهيم بن عبد الرحيم بن محمد بن جماعة الكناني، أبو إسحاق، المقدسي الشافعي، فقيه مفسر، من مؤلفاته: التفسير في عشر مجلدات، توفي سنة 790 هـ.
انظر: الدرر الكامنة (1/ 38)، شذرات الذهب (6/ 311).
(3)
المولد الشريف (ص 13 - 16)، وانظر: الفتاوى الحديثية (ص 202)، تنبيه الأخيار (ل 10/ أ).
وذلك أن النساء يتزين بأحسن حليهن وحللهن ويتطيبن بأطيب طيبهن، ثم يخرجن مختلطات بالرجال اختلاطًا فاحشًا بحيث يقع في تلك الليلة من المفاسد والقبائح ما تصم عنه الآذان
…
ومن القبائح أيضًا لكنها أخف وأسهل أنهم يخرجون والقمر في سلطانه بالسرج الكثيرة من الشموع على اختلاف أنواعها، ثم يأتون فتنصب الشموع وغيرها في المسجد الحرام على صفات أكثر وأظهر ما كانت عليه في حال مشيهم، وهذا قبيح أي قبيح.
ومنها أن بعض المتوسمين من المكيين بصورة الفقهاء يصطفون في الذهاب والعودة في تلك الزفة صفوفًا مختلفة صف من الرجال وصف من الشموع، والناس مصطفون بجنبي الطريق مزدحمون على التفرج عليهم، فيتمهلون غاية التمهل والتأني في مشيتهم، ويتبختر بعضهم تبخترًا يغلب تبختر النساء، أعاذ الله بلده وحرمه من أفعال هؤلاء وقبائحهم
…
ومنها أن أكثر الناس في عملهم المولد لا يمنعون النساء إشرافهن على الرجال ونظرهن إليهم، وذلك قبيح؛ لأنه إما محرم على المعتمد من مذهبنا أو مكروه على مقابله، ومحل الكراهية حيث لا شهوة ولا خشية فتنة، وإلا حرم اتفاقًا.
والواقع من النساء في المولد كثيرًا ما يترتب عليه الشهوة والفتنة هذا في نظر النساء إلى الرجال، وأما نظر الرجال إليهن المرتب غالبًا على نظرهن للرجال وإشرافهن إليهم فحرام على الأصح عندنا، وإن لم يكن هناك شهوة ولا خشية فتنة
…
ومنها أنهم في تلك الموالد يأتون بمن يقرأ لهم المولد الشريف على الكيفية التي ألفها الوعاظ في هذه الأزمنة، وذلك منكر أي منكر؛ لأن أكثره كذب وبهتان واختلاق، بل لم يزالوا يزيدون فيه ما هو أقبح وأسمج مما لا تحل روايته ولا سماعه.
بل يجب على العلماء وكل من علم ذلك وقدر على الإنكار عليهم وتركهم للباطل منه أو مفارقة المجلس والقيام عنه إن أمكن، على أنه لا
ضرورة بهم إلى ذلك؛ لأن قاصدي الخير وإظهار الفرح والسرور به صلى الله عليه وسلم والمحبة يكفيهم أن يجمعوا أهل الصلاح والقراء والذاكرين فيطعموهم ويتصدقوا عليهم، فإن أرادوا زيادة على ذلك أمروا من ينشد لهم من المدائح النبوية المتعلقة بالحث على الأخلاق الكريمة كالكرم والزهد والتخلي عن الدنيا ولذاتها والتهيؤ للموت والذهاب إلى الله تعالى، وغير ذلك مما في معناه
…
"
(1)
.
التقويم:
الاحتفال بالموالد ظاهرة معروفة منذ العصور المتقدمة والسابقة للإسلام، وعقيدة راسخة عند أهل الأديان الأولى.
وقد اشتهر ذلك عن النصارى حيث يحتفلون بميلاد عيسى عليه السلام على رأس كل سنة في الخامس والعشرين من الشهر الثاني عشر الميلادي إلى يومنا هذا.
ثم تسربت هذه الظاهرة إلى المسلمين بعد مضي القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية في أواخر المائة الرابعة على أيدي الخلفاء الفاطميين، بعد قيام دولتهم العبيدية في مصر، وكان أول من أحدثه بالقاهرة المعز لدين الله الفاطمي
(2)
سنة اثنين وستين وثلاثمائة
(3)
.
فأصبح المسلمون منذ ذلك الوقت يحتفلون بمولد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا مضاهاة لعمل النصارى، بل أصبح عمل النصارى حجة لمن استحسن الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم من المسلمين بطريق الأولى زعموا.
(1)
المولد الشريف (ص 17 - 19).
(2)
هو المعز معد بن إسماعيل بن سعيد بن عبد الله، أبو تميم، المدعي زورًا أنه فاطمي، تولى الخلافة بعد أبيه المنصور سنة 341 هـ بالمنصورية بالمغرب، استولى على مصر واستوطن القاهرة سنة 362 هـ وكان مظهرًا الرفض ومبطنًا الكفر المحض، توفي قبحه الله سنة 365 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 159)، وفيات الأعيان (5/ 224).
(3)
انظر: الخطط للمقريزي (1/ 490 - 499)، صبح الأعشى القلقشندي (3/ 498 - 491)، وللاستزادة: القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل للشيخ إسماعيل الأنصاري (ص 64).
وفي هذا يقول الحافظ السخاوي - غفر الله له -: "إذا كان أهل الصليب اتخذوا ليلة مولد نبيهم عيدًا أكبر، فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر"
(1)
! !
وما قرره ابن حجر - عفا الله عنه - في كلامه المتقدم من كون الاحتفال بالمولد النبوي بدعة حسنة باطل، والرد عليه من طريقين:
أحدهما: النقض، وذلك بأن يقال:
أولًا: أن القول بذلك فرع عن القول بتقسيم البدعة إلى قسمين حسنة وسيئة، وهو تقسيم باطل - كما سبق - فكذلك ما فُرّع عليه.
ثانيًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل لنفسه إحياءً لمولده أو مولد غيره من الأنبياء قبله، ولم يأمر أمته به، ولما لم يقع ذلك منه ولم يأمر به مع قيام المقتضي لذلك في وقته كان عمله بعد ذلك بدعة منكرة.
ثالثًا: "أن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص"
(2)
.
رابعًا: أن المؤرخين اختلفوا في يوم مولده صلى الله عليه وسلم وقد ذكر ذلك ابن حجر نفسه في كلامه المتقدم - فعلى التسليم باستحسان الاحتفال به فإن إقامته في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول غير مقطوع بوقوعه فيه، وقد جر هذا بعضهم إلى الاحتفال سائر أيام ربيع الأول ولياليه كما ذكر ذلك ابن حجر واستحسنه ممن فعله.
خامسًا: أن الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم وهو ربيع الأول على الصحيح هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه
(3)
.
سادسًا: أن الاحتفال بالمولد النبوي يتضمن كثيرًا من الأعمال
(1)
التبر المسبوك في ذيل السلوك (ص 14).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 123).
(3)
انظر: المورد في عمل المولد للفاكهي (ص 26 - 27)، المدخل لابن الحاج (2/ 15).
المنكرة، والقبائح المحرمة، ومنها: إنشاد الأشعار والقصائد المتضمنة للشرك بالله، ودعوى حضور النبي صلى الله عليه وسلم، وإضاعة الصلوات، والغناء، والطرب، والضرب بالدفوف، والرقص، واختلاط الرجال بالنساء، وإضاعة الأموال وتبذيرها في غير وجوهها المشروعة، وقد ذكر ابن حجر - غفر الله له - شيئًا من هذا في زمانه في كلامه المتقدم، ولا زال الأمر على ذلك
(1)
.
سابعًا: أن ما استدل به ابن حجر - عفا الله عنه - على قوله باستحسان الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم لا يصح، وبيان ذلك فيما يلي:
1 -
أن ما ذكره من ثناء بعض أهل العلم عليه، وتقريرهم لاستحسانه، وقيامهم بعمله، معارض بذم غيرهم، وتقريرهم لبدعيته، وإنكارهم على من عمله؛ وهم أولى بقبول قولهم لسابقتهم، وكثرتهم، وقوة أدلتهم.
وكلام أهل العلم وأفعالهم ليست دليلًا في نفسها، بل هي محتاجة إلى إثبات صحتها بالدليل.
2 -
أن ما نقله عن الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله من تخريجه عمل المولد على خبر الصحيحين في صوم اليهود لعاشوراء باطل، والجواب عنه من عدة أوجه:
أ - أن الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله صرح في أول كلامه أن أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن السلف، وهذا كاف في ذم الاحتفال به - كما تقدم - وقوله بذلك مما أغفل ابن حجر - عفا الله عنه - نقله، ونصه: "أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة
…
" إلى أن قال: "وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين
…
" إلى آخر كلامه المنقول
(2)
.
ب - أن تخريج الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتواه عمل المولد على حديث صوم عاشوراء، لا يمكن الجمع بينه وبين جزمه أول تلك
(1)
انظر: المورد في عمل المولد (ص 24)، تنبيه الغافلين لابن النحاس (ص 306)، وللاستزادة: القول الفصل (ص 187).
(2)
انظر: كلام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله بتمامه في الحاوي للفتاوي (1/ 196).