الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقولهم هذا مبني على قولهم بالكسب في أفعال العباد، وقولهم بنفي تأثير الأسباب والطّبائع. وهما باطلان، وما بني على باطل فهو باطل.
والرّدّ عليهم من طريقين:
أحدهما: النّقض:
بأن يُقال إنّ حقيقة هذا القول هو الجبر، إلا أنّ الجهميّة صرّحوا به، والأشاعرة امتنعوا عن ذلك وتستّروا تحت مسمّى الكسب.
ولهذا فإنّ الرّازي وهو من كبار الأشاعرة لَمّا أيقن بذلك صرّح بالجبر، وامتنع عن التزام لوازمه، وقال:"إنّ الإنسان مضطر في اختياره، وإنّه ليس في الوجود إلا الجبر"
(1)
.
ولا ريب في بطلان القول بالجبر، وقد تقدّم في كلام ابن حجر بيان ذلك والرّدّ على القائلين به، فكلامه هنا منقوض بكلامه هناك.
ثانيهما: المعارضة:
بما تقدّم إيراده من الأدلّة الشّرعيّة الدّالّة على أنّ العبد فاعل لفعله حقيقة، والاهتداء والضّلال منسوب إليه.
ويتبيّن مِمّا سبق خطأ ابن حجر -عفا الله عنه- في هذه المسألة، ومجانبته لقول أهل السّنّة والجماعة فيها.
ثالثًا: تنزيه الله عن الظّلم:
يرى ابن حجر -عفا الله عنه- أنّ الظّلم مستحيل على الله تعالى؛ لأنّ معناه ممتنع في حقّه سبحانه.
يقول في ذلك: "الظّلم لغة: وضع الشّيء في غير محلّه
…
وهو مستحيل عليه تعالى؛ إذ هو تصرّف في حقّ الغير بغير حقّ أو مجاوزة الحدّ وكلاهما مُحال؛ إذ لا مُلك ولا حقّ لأحد معه بل هو الذي خلق المالكين وأملاكهم، وتفضّل عليهم بها وحدّ لهم الحدود، وحرّم وأحلّ فلا حاكم معه يتبعه ولا حقّ يترتّب عليه، تعالى الله عن ذلك علوًّا
(1)
المباحث المشرقية (2/ 544).
كبيرًا، وما ذُكر من استحالة الظّلم عليه تعالى هو قول الجمهور.
وقيل: بل هو متصوّر منه لكنّه لا يفعله عدلًا منه وتنَزّهًا عنه
…
وهو غير سديد"
(1)
.
التّقويم:
وردت النّصوص بِتَنْزِيه الله عن الظّلم، وتحريمه سبحانه له على نفسه.
قال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108].
وقال سبحانه: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
وقال عز وجل: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29].
وقال صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: يا عبادي إنّي حرّمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم مُحرّمًا فلا تظالموا
…
"
(2)
.
"وقد اتّفق المسلمون وغيرهم على أنّ الله مُنَزّه عن الظّلم"
(3)
.
واختلفوا في حقيقته، ومعنى تنزيه الله عنه:
فذهبت القدريّة من المعتزلة ومن تبعهم إلى أنّ الظّلم الذي يُنَزّه عنه الخالق من جنس الظّلم الذي يُنَزّه عنه المخلوق.
فقالوا: إنّ الظلّم إضرار لا نفع فيه للمفعول به، ولا رفع لضرر آخر عنه، ولا هو مستحقّ له فإذا اتّفقت هذه الأمور عن أيّ فعل فإنّه يكون ظلمًا، ويستوي في ذلك الخالق والمخلوق
(4)
.
وذهبت الجبريّة من الجهميّة ومن تبعهم من الأشاعرة وغيرهم إلى أنّ الظّلم هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، وكلّ ممكن فهو في حقّه عدل.
(1)
فتح المبين (ص 191 - 192)، وانظر: العمدة (ص 411)، فتح الإله (ص 525).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (4/ 1994) برقم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه به.
(3)
مجموع الفتاوى (8/ 505).
(4)
انظر: شرح الأصول الخمسة (ص 345 - 346)، المحيط بالتكليف (ص 251)، المختصر في أصول الدين للقاضي عبد الجبار ضمن رسائل العدل والتوحيد (1/ 257).
فقالوا: الظّلم هو التّصرّف في ملك الغير أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته، وكلاهما ممتنع في حقّه سبحانه، فالظّلم مستحيل عليه، ومعناه غير متحقّق فيه
(1)
.
والأصل الذي تفرّعت عنه مذاهبهم قولهم في أفعال العباد، وذلك أنّ أفعال العباد إن كانت من خلق الله تعالى كان عذابهم عليها ظلمًا؛ إذ كيف يعذبون على ما خلق فيهم؟
ومن ثم اختلفوا في أفعال العباد، وانبنى على اختلافهم فيها اختلافهم في حقيقة الظّلم ومعنى تنزيه الله عنه.
والحقّ أنّ الظّلم في اللغة: وضع الشّيء في غير موضعه
(2)
، وهو في الشّرع بمعناه في اللغة
(3)
.
فالله سبحانه حكم عدل يضع الأشياء مواضعها فلا يضع شيئًا إلا في موضعه الذي يناسبه، فلا يفرّق بين متماثلين ولا يسوّي بين مختلفين.
وهو سبحانه حرّم الظّلم على نفسه بفعله وإرادته بعد قدرته عليه تفضّلًا منه سبحانه، وعدلًا منه عز وجل.
وقد فسّره سلف الأمّة وأئمّتها بأنّه لا يُحمّل المرء سيئات غيره، ولا يعذّبه بما لم تكسب يداه، وأنّه لا ينقص من حسناته فلا يجازى بها أو ببعضها
(4)
.
وهذا هو الظّلم الذي نفى الله خوفه عن العبد بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
(1)
انظر: التمهيد للباقلاني (ص 384)، الاقتصاد في الاعتقاد. للغزالي (ص 115)، أصول الدين (ص 131)، المواقف (ص 322)، تحفة المريد (ص 111).
(2)
انظر: تهذيب اللغة (3/ 2248)، معجم مقاييس اللغة (ص 641)، الصحاح (5/ 1977)، لسان العرب (12/ 3703)، القاموس المحيط (ص 1464).
(3)
انظر: جامع الرسائل (1/ 123).
(4)
انظر: المصدر السابق (1/ 124)، مجموع الفتاوى (8/ 505)، درء التعارض (8/ 23)، منهاج السنة (2/ 236)، مفتاح دار السعادة (2/ 107)، شفاء العليل (2/ 753 - 754)، مدارج السالكين (1/ 236)، شرح الطحاوية (2/ 659)، دفع الشبهة والغرر (ص 118 - 131)، لوامع الأنوار البهية (1/ 288).
الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} [طه: 112]، قال المفسّرون: لا يخاف أن يحمل عليه سيّئات غيره، ولا ينقص من حسناته، وقيل: يظلم بأن يؤاخذ بما لم يعمل، وقيل: لا يخاف ألا يجزى بعمله
(1)
.
وبناء على ما سبق فما قرّره ابن حجر -عفا الله عنه- في هذه المسألة، وعزاه للجمهور هو قول أصحابه الأشاعرة.
والرّدّ عليهم من طريقين:
أحدهما: النّقض، فيقال:
أولًا: إنّ الله مدح نفسه بعدم إرادة الظّلم، وعدم فعله، والمحال الذي لا يمكن، ولا يكون، لا يصحّ أن يمدح بعدم إرادته ولا فعله، ولا يحمد عليه؛ لأنّه ممتنع في نفسه وإنّما يكون المدح بترك الأفعال لمن هو قادر عليها، وتَنَزّه عنها
(2)
.
ثانيًا: إنّ القول بأنّ الظّلم هو التّصرّف في ملك الغير، غير مطّرد ولا منعكس؛ فإنّ الإنسان قد يتصرّف في ملك غيره بحقّ ولا يكون ظالمًا، وقد يتصرّف في ملكه بغير حقّ فيكون ظالمًا، وظلم العبد نفسه كثير في القرآن الكريم
(3)
.
وكذا القول بأنّ الظّلم مخالفة الآمر الذي تجب طاعته وأنّه لا يكون إلا من مأمور منهي فإنّه باطل، بدلالة الحديث المتقدّم "إنّي حرّمت الظّلم على نفسي" فالله تعالى هو من كتب على نفسه الرّحمة، وحرّم على نفسه الظّلم
(4)
.
ثالثًا: أنّ نفي الظّلم عن الله تعالى بطريق السّلب المحض باطل؛ لأمرين:
(1)
انظر: تفسير ابن جرير (8/ 462)، تفسير ابن أبي زمنين (3/ 129)، ثفسير السمعاني (3/ 357)، تفسير البغوي (5/ 2960)، تفسير ابن كثير (30/ 184).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (18/ 144)، مفتاح دار السعادة (2/ 106)، شفاء العليل (2/ 754)، شرح الطحاوية (2/ 660).
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (18/ 145).
(4)
انظر: شرح الطحاوية (2/ 660).
1 -
أنّ الله تعالى لا يوصف بالسّلب المحض الذي لا يتضمّن إثباتًا؛ لأنّ السّلب المحض ليس فيه مدح ولا كمال، لأنّه عدم محض، ليس بشيء، وما ليس بشيء، هو كما قيل ليس بشيء، فضلًا عن أن يكون مدحًا أو كمالًا
(1)
.
2 -
أنّ نفي الظّلم عن الله تعالى بطريق السّلب المحض يتضمّن أعظم القدح في الله عز وجل؛ ذلك أنّ فيه تشبيهًا لله تعالى بالجمادات التي لا تقبل الاتّصاف بصفات النّقص، فضلًا عن صفات الكمال
(2)
.
رابعًا: أنّ ما استدلّوا به من النّصوص حقّ يجب القول بموجبها، لكن ليس فيها ما يدلّ على مذهبهم، وقد استوفى ذكرها والرّدّ عليها العلّامة ابن القيّم عز وجل بما لا مزيد عليه
(3)
.
والآخر: المعارضة:
بما تقدّم ذكره من الأدلّة الدّالّة على حقيقة الظّلم، وأقوال السّلف في تفسيرها.
وبما سبق يتّضح بطلان ما ذهب إليه ابن حجر -غفر الله له- ومخالفته لمذهب أهل السّنّة والجماعة في هذه المسألة.
* * *
(1)
انظر: التدمرية (ص 57 - 58).
(2)
انظر: المصدر السابق (ص 38، 62، 159)، الصفدية (1/ 90).
(3)
انظر: مفتاح دار السعادة (2/ 108 - 110).