الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجلب المنفعة ممنوع؛ ذلك أنّه إن أراد أنّ هذه الحكمة هي التي لأجلها يفعل الإنسان فهذا مُسَلَّم ولا ينفعه شيئًا، وإن أراد أنّها الحكمة التي يفعل الله لأجلها أو ما هو أعمّ من ذلك، فإنّ حكمة الرّبّ فوق ذلك، والله يتعالى عن ذلك، فيكون استدلاله هذا مستندًا إلى قياس الخالق على المخلوق قياس تساوٍ، وهو باطل
(1)
.
2 -
أنّ التّعبير عن الحكمة بالأغراض الباعثة في حقّ الله تعالى مِمّا لا يدلّ عليه الشّرع، والتّعبير بذلك لاستبشاع المعنى الشّرعي الثّابت له سبحانه لا يجوز
(2)
.
3 -
أنّ قوله بلزوم القول بترتّب الفعل على الحكمة لنقص الباري سبحانه في ذاته واستكماله بتحصيل الغرض، مبني على أنّ الحكمة مغايرة له، والحقّ -الذي عليه أهل السُّنَّة والجماعة- أنّ الحكمة التي يعود حكمها إلى الله تعالى صفة له، وما كان صفة لله تعالى لا يتصوّر أن ينفكّ عنه، وعليه فلا صحّة بلزوم ذلك
(3)
.
ثالثًا: تكليف ما لا يطاق:
يرى ابن حجر - غفر الله له - جواز تكليف الله تعالى العباد بما شاء من الأفعال، حيث يقول:"له تكليفهم بما شاء من الأفعال مع تقدير أسباب منعهم منها، وهو المسمّى بتكليف ما لا يطاق"
(4)
.
ويقول أيضًا: "أجمعت الأمّة على التّكليف بالمحال كغيره، كتكليف أبي جهل مثلًا بالإيمان مع علم الله بأنّه لا يؤمن؛ وذلك لأنّ التكليف بذلك إنّما هو بالنّظر للحالة الرّاهنة المنطوي عنا عاقبتها، فهم بالنّسبة إليها مكلّفون بالإيمان لقدرتهم عليه ظاهرًا، وإن كانوا عاجزين عنه باطنًا، لعلم الله تعالى بأنّهم لا يؤمنون، لأنّ هذا لا نظر إليه وإلا لارتفع الاختيار،
(1)
انظر: شفاء العليل (2/ 578 - 579).
(2)
انظر: منهاج السنة (2/ 455)، العواصم والقواصم (7/ 318).
(3)
انظر: منهاج السنة (1/ 421)، مجموع الفتاوى (16/ 133)، شفاء العليل (2/ 579).
(4)
فتح المبين (ص 72).
وثبت القول بالجبر المنابذ لِمَا جاءت به الشّرائع، فاحذر أن تميل إليه فتزلّ قدمك، ويحق ندمك، واستحضر قوله تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23]
(1)
.
التّقويم:
التّكليف في اللغة: الأمر بما يشقّ، يقال: كلّفه تكليفًا، إذا أمره بما يشقّ عليه، وتكلّفت الشّيء: تجشّمته
(2)
.
وفي الاصطلاح: الإلزام بمقتضى خطاب الشّرع.
وخطاب الشّرع قسمان: أمر ونهي، فالأمر: يتضمّن الواجب والمندوب، والنّهي: يتضمّن الحرام والمكروه، والمباح تخيير بينهما
(3)
.
وتكليف ما لا يطاق ضربان:
أحدهما: التكليف بالممتنع لذاته كالجمع بين النّقيضين، والممتنع عادة كالطيران في الهواء، والممتنع للعجز عنه كنقط المصحف للأعمى.
فهذا اختلف النّاس في جوازه عقلًا على ثلاثة أقوال:
الأول: عدم جوازه، وهو قول المعتزلة
(4)
.
والثّاني: جوازه، وهو قول أكثر الأشاعرة
(5)
.
والثّالث: جواز التّكليف بالممتنع عادة وبما لا يقدر عليه للعجز عنه، دون التّكليف بالممتنع لذاته
(6)
.
وأمّا وقوعه شرعًا:
(1)
المنح المكية (2/ 822).
(2)
انظر: تهذيب اللغة (4/ 3175)، معجم مقاييس اللغة (ص 908)، الصحاح (4/ 1424)، لسان العرب (9/ 307)، القاموس المحيط (ص 1099).
(3)
انظر: شرح مختصر الروضة (1/ 176)، شرح الكواكب المنير (1/ 483).
(4)
انظر: شرح الأصول الخمسة (ص 396)، المختصر في أصول الدين ضمن رسائل العدل والتوحيد (1/ 218).
(5)
انظر: الإرشاد (ص 203)، معالم أصول الدين للرازي (ص 85)، القضاء والقدر له (ص 307)، إحكام الأحكام للآمدي (1/ 133)، المواقف (ص 330 - 331).
(6)
انظر: المسودة (ص 71)، درء التعارض (1/ 63)، مجموع الفتاوى (8/ 295، 298).
فقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على عدم وقوعه
(1)
، ونازع في ذلك الرّازي وطائفة
(2)
، فذهبوا إلى القول بوقوعه، وهو ظاهر البطلان.
وثانيهما: التّكليف بالممتنع لغيره وهو المأمور به الذي علم الله أنه لا يكون أو أخبر أنه لا يكون، وما لا يطاق للاشتغال بضدّه كالتّكليف بالقيام حال الجلوس، والتكليف بعموم التكاليف الشّرعيّة.
فهذا التّكليف به جائز عقلًا وواقع شرعًا بإجماع أهل العلم
(3)
، والخلاف فيه إنّما هو من جهة تسميته تكليفًا بما لا يطاق.
فالأشاعرة ومن وافقهم قالوا بصحّة تسميته بذلك
(4)
.
وأهل السّنّة ومن وافقهم قالوا بعدم صحّة ذلك
(5)
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تكليف ما لا يطاق ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: ما لا يطاق للعجز عنه، كتكليف الزَّمِن المشي، وتكليف الإنسان الطّيران ونحو ذلك، فهذا غير واقع في الشّريعة عند جماهير أهل السّنّة المثبتين للقدر
…
والثّاني: ما لا يطاق للاشتغال بضدّه، كاشتغال الكافر بالكفر، فإنّه هو الذي صدّه عن الإيمان، وكالقاعد في حال قعوده، فإنّ اشتغاله بالقعود يمنعه أن يكون قائمًا
…
وتكليف الكافر الإيمان من هذا الباب.
ومثل هذا ليس بقبيح عقلًا عند أصدق العقلاء، بل العقلاء متّفقون
(1)
انظر: المسودة (ص 71)، درء التعارض (1/ 63)، مجموع الفتاوى (8/ 301 - 302).
(2)
انظر: معالم أصول الدين للرازي (ص 85)، والإرشاد (ص 204).
(3)
انظر: منهاج السنة (3/ 104 - 105).
(4)
انظر: أصول الدين (ص 213)، الإرشاد (ص 203)، القضاء والقدر للرازي (ص 307)، المواقف (ص 330 - 331)، شرح المقاصد (4/ 296).
(5)
انظر: الانتصار للعمراني (2/ 459)، مجموع الفتاوى (8/ 298 - 302)، درء التعارض (1/ 60)، شرح الطحاوية (2/ 653).
على أمر الإنسان ونهيه بما لا يقدر عليه حال الأمر والنّهي لاشتغاله بضدّه، إذا أمكن أن يترك ذلك الضّدّ ويفعل الضّدّ المأمور به.
وإنّما النّزاع هل يسمّى هذا تكليف ما لا يطاق لكونه تكليفًا بما اتّفقت فيه القدرة المقارنة للفعل.
فمن المثبتين للقدر من يدخل هذا في تكليف ما لا يطاق
…
ومنهم من يقول هذا لا يدخل فيما لا يطاق، وهذا هو الأشبه بما في الكتاب والسّنّة وكلام السّلف، فإنّه لا يقال للمستطيع المأمور بالحجّ إذا لم يحجّ إنّه كلّف بما لا يطيق، ولا يقال لمن أمر بالطّهارة والصّلاة فترك ذلك كسلًا إنّه كلّف ما لا يطيق"
(1)
.
وعليه فما قرّره ابن حجر - عفا الله عنه - من القول بجواز تكليف الله تعالى العباد بما شاء من الأفعال قول مُجمل.
وأمّا قوله بأنّ الأمّة أجمعت على التكليف بالمحال كغيره، ومنه تكليف أبي جهل بالإيمان مع علم الله تعالى بعدم إيمانه، فهو متعقّب بما يلي:
1 -
أنّ الفعل الممكن في نفسه لا يقال إنّه مُحال لتعلّق العلم بعدمه، وإلا لزم هذا بعينه فيما علم الله أنّه لا يفعله وهو مقدور له، فإنه لا يقع البتّة، مع كونه مقدورًا، كما قال تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} [السجدة: 13]، فإيمان كلّ النّاس أخبر الله أنّه ممكن له مقدور، مع علمه بأنّه لا يقع منهم كلّهم وإنّما من بعضهم
(2)
.
2 -
أنّ تكليف أبي جهل بالإيمان من قبيل التّكليف بالممتنع لغيره لا الممتنع لذاته؛ إذ الممتنع لذاته ليس شيئًا حتى يفرض فيه بخلاف الممتنع لغيره فإنّه ممكن ولكنّه امتنع لعدم تعلّق الإرادة بإحداثه وعلم الله بأنّه لا يفعله فلا يصحّ إطلاق المستحيل عليه
(3)
.
(1)
منهاج السنة (3/ 104 - 105).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (8/ 292، 500).
(3)
انظر: المصدر السابق (8/ 292، 500).
3 -
أنّ التّكليف بما يمتنع لغيره لا يُعدّ تكليفًا بما لا يُطاق، ولا يصحّ تسميته بذلك
(1)
.
4 -
أنّ القول بأنّ تكليف أبي جهل بالإيمان من تكليف ما لا يطاق مبني على القول بأنّ الاستطاعة واحدة وهي المقارنة للفعل فقط وهو مذهب الأشاعرة، والحقّ أنّ الاستطاعة نوعان: استطاعة قبل الفعل بمعنى الصّحة والوسع والتّمكّن وسلامة الآلات وهي مناط التّكليف، واستطاعة مقارنة للفعل وليست مناطًا للتّكليف وإنّما هي محض فضل الله تعالى يؤتيها من يشاء وفق حكمته سبحانه
(2)
.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (8/ 479)، منهاج السنة (3/ 105).
(2)
انظر: درء التعارض (1/ 61)، مجموع الفتاوى (8/ 302)، شفاء العليل (1/ 320)، شرح الطحاوية (2/ 632).