الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني آراؤه في الإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
-
عرض ابن حجر رحمه الله لبعض المسائل المتعلقة بالإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص، فذكر منها: معجزاته، وخصائصه، وحكم سبه صلى الله عليه وسلم، وفصل في كل منها بما يناسبها، ويوضح رأيه فيها.
وفيما يلي عرض آرائه في ذلك، وتقويمها.
أولًا: معجزاته صلى الله عليه وسلم
-:
1 - تعريف المعجزة، وشروطها:
عرف ابن حجر رحمه الله المعجزة تعريفًا بين فيه معناها، وشروطها، فقال: "المعجزة لا تطلق حقيقة إلا على الأمر الخارق للعادة، المقرون بالتحدي، الدال على صدق الأنبياء عليهم السلام.
فعلم أن لها شروطًا:
أحدها: خرقها للعادة بأن تحيل العادة وقوعها كانشقاق القمر.
ثانيها: اقترانها بالتحدي وهو طلب المعارضة والمقابلة مع أمن معارضتها
…
فخرج الخارق من غير تحد وهو كرامة الولي، والخارق المتقدم على التحدي كإظلال الغمام وشق الصدر الواقعين لنبينا صلى الله عليه وسلم قبل النبوة فهي كرامات لا معجزات وتسمى إرهاصًا أي: تأسيسًا للنبوة.
ولا يقال خرج به أيضًا الخارق المتأخر عن التحدي بما تخرجه عن المقارنة العرفية؛ لأنه يلزم عليه إخراج أكثر آياته صلى الله عليه وسلم كنطق الحصى،
والجذع، والدواب، ونبع الماء، بل قيل: لعله لم يتحد بغير القرآن، وتمني الموت، وزعم أنه لا معجزة إلا هذان أقرب إلى الكفر منه إلى البدعة.
فالحق أن المراد بالتحدي ليس معناه الأصلي بل المراد به دعوى الرسالة وكل معجزاته مقارنة لذلك
…
ثالثها: دلالتها على صدق المتحدي، فخرج الخارق المكذب له، كأن قال: آيتي نطق هذه الدابة، فنطقت بكذبه"
(1)
.
التقويم:
المعجزة في اللغة: مأخوذة من العجز.
قال ابن فارس: "العين والجيم والزاء، أصلان صحيحان، يدل أحدهما على الضعف، والآخر على مؤخر الشيء.
فالأول: عَجَزَ عن الشيء يَعْجِزُ عجزًا، فهو عاجزٌ، أي: ضعيف
…
وأما الآخر: فالعجز: مؤخر الشيء، والجمع أعجاز
…
"
(2)
.
وأما في الاصطلاح: فإن لفظ (المعجزة) لم يرد في الكتاب والسنة، ولم يكن السلف الأوائل يستعملونه بمعناه الاصطلاحي الذي تعارف عليه من بعدهم، وإنما الوارد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والمتعارف عليه عند السلف الأوائل إطلاق لفظ (الآية) و (البينة) و (البرهان).
قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرعد: 38]، وقال عز وجل:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25]، وقال جل وعلا:{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص: 32].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "هذه الألفاظ إذا سميت بها آيات الأنبياء، كانت أدل على المقصود من لفظ المعجزات، ولهذا لم يكن لفظ
(1)
المنح المكية (1/ 231 - 232)، وانظر: أشرف الوسائل (ص 244)، فتح المبين (ص 21)، الفتاوى الحديثية (ص 404)، التعرف (ص 116)، الإعلام بقواطع الإسلام (ص 316)، العمدة شرح البردة (ص 612).
(2)
معجم مقاييس اللغة (ص 738 - 739)، وانظر: تهذيب اللغة (3/ 2337)، الصحاح (3/ 883)، لسان العرب (5/ 369)، القاموس المحيط (ص 663).
المعجزات موجودًا في الكتاب والسنة، وإنما فيه لفظ الآية، والبينة، والبرهان"
(1)
.
وأما المتأخرون فقد أطلقوا لفظ المعجزة واستعملوه، ولكنهم اختلفوا في تعريفها وشروطها، وجمهورهم على ما ذكره ابن حجر
(2)
.
والصواب أن المعجزة اسم يعم كل خارق للعادة، ويفرق بينها بحسب حال من تقع منه أو يدعيها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة، وكذلك الكرامة في عرف الأئمة المتقدمين، كالإمام أحمد بن حنبل وغيره، ويسمونها الآيات، لكن كثيرًا من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما، فيجعل المعجزة للنبي، والكرامة للولي، وجماعهما: الأمر الخارق للعادة"
(3)
.
وتعريف جمهور المتكلمين -ومنهم ابن حجر- المعجزة بذلك، واشتراطهم فيها هذه الشروط، ترتب عليه حصرهم دلائل النبوة في المعجزات، وإخراجهم لكثير من دلائل النبوة عن دلالتها، وهذا باطل
(4)
.
ومنشأ الخطأ عندهم اعتقادهم أن دلائل النبوة وكرامات الولاية وخوارق السحر كلها من جنس واحد، ثم اختلفوا فمنهم من أنكر وجودها
(1)
الجواب الصحيح (5/ 412)، النبوات (1/ 215)(2/ 828) قاعدة في المعجزات لابن تيمية (ص 7)، شرح الطحاوية (2/ 746)، لوامع الأنوار البهية (2/ 290).
(2)
انظر: المغني للقاضي عبد الجبار (15/ 569 - 571)، شرح الأصول الخمسة (ص 569) البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات للباقلاني (ص 35 - 36، 45 - 46)، أصول الدين للبغدادي (ص 170)، الإرشاد (ص 260)، المواقف (ص 339)، وشرحها للجرجاني. (8/ 222 - 230)، غاية المرام (ص 333)، شرح المقاصد (5/ 11 - 13).
(3)
مجموع الفتاوى (11/ 311)، وانظر: شرح الطحاوية (2/ 746).
(4)
انظر: البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات (ص 37 - 38)، الإنصاف للباقلاني أيضًا (ص 61)، الإرشاد (ص 260)، أعلام النبوة للماوردي (ص 62)، شرح المقاصد (5/ 19)، وانظر: الرد عليهم في الجواب الصحيح (6/ 504)، شرح الأصفهانية (2/ 471 - 491)، درء التعارض (9/ 40)، النبوات (1/ 480، 522 - 523).
-أعني: الكرامات والسحر- وهم المعتزلة
(1)
، ومنهم من حاول التفريق بما لا يصح وهم الأشاعرة
(2)
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأصل خطأ الطائفتين (يعني: المعتزلة، والأشاعرة) أنهم لم يعرفوا آيات الأنبياء وما خصهم الله به، ولم يقدروا النبوة، ولم يقدروا آيات الأنبياء قدرها، بل جعلوا هذه الخوارق الشيطانية من جنسها، فإما أن يكذبوا بوجودها، وإما أن يسووا بينها ويدعوا فرقًا لا حقيقة له"
(3)
.
والحق أن دلائل النبوة وكرامات الولاية وخوارق السحر ليست من جنس واحد، والفرق بينها متقرر
(4)
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "آيات الأنبياء هي التي تعلم أنها مختصة بالأنبياء، وأنها مستلزمة لصدقهم، ولا تكون إلا مع صدقهم، وهي لا بد أن تكون خارقة للعادة، خارجة عن قدرة الإنس والجن، ولا يمكن أحد أن يعارضها، لكن كونها خارقة للعادة ولا تمكن معارضتها هو من لوازمها ليس هو حدًا مطابقًا لها
…
"
(5)
.
وأما ما ذكره ابن حجر من شروط المعجزة فقد تعاقب على اشتراطها جمهور المتكلمين
(6)
، وهي متعقبة بما يلي:
(1)
انظر: المغني (15/ 189)، أعلام النبوة (ص 62).
(2)
انظر: البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات (ص 91، 96)، الإرشاد (ص 269)، نهاية الإقدام (ص 434)، المواقف (ص 346)، شرح المقاصد (5/ 11، 72 - 74)، وشرح جوهرة التوحيد للصاوي (ص 98).
(3)
النبوات (2/ 1040)، وانظر:(2/ 1064)(1/ 480 - 486)، الجواب الصحيح (6/ 400، 500).
(4)
انظر: النبوات (1/ 487 - 523، 606 - 607)(2/ 662 - 664، 1074 - 1090)، شرح الأصفهانية (2/ 472 - 477).
(5)
النبوات (2/ 775).
(6)
انظر: المغني (15/ 569 - 571)، شرح الأصول الخمسة (ص 569)، البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات (ص 35 - 36، 45 - 46)، أصول الدين للبغدادي =
أما اشتراط خرق العادة فلا يصح لوجهين:
الأول: أن العادة أمر نسبي لا ينضبط، فقد يكون الأمر عادة عند قوم دون غيرهم.
الثاني: أن هذا لا يختص بالأنبياء، فقد شاركهم فيه غيرهم، كالساحر مثلًا فقد يأتي بما هو خارق لعادة من شاهده ولا يستطيع الحاضرون معارضته، مع أن ما أتى به ليس خارقًا لعادة السحرة أمثاله
(1)
.
وأما اشتراط اقتران التحدي بها فلا يصح لكون التحدي لم يقع في كثير من دلائل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-
(2)
.
وأما تفسيره له بدعوى النبوة وأمن المعارضة فمردود من وجوه:
الأول: أن آيات الأنبياء على قوله هذا لم تتميز بصفة تختص بها، إنما تكون آية إن اقترنت بدعوى النبوة، وإلا فلا، فالدليل والبرهان يكون دليلًا إن استدل به، وإن لم يستدل به فليس دليلًا، وهو باطل
(3)
.
الثاني: أن هناك من الأشخاص من ادعى النبوة كاذبًا، وجرى على يديه بعض الخوارق، ولم يعارض، ومع ذلك عرف الناس كذبه، ولم يصدقوه كما في مسيلمة الكذاب
(4)
، والأسود العنسي
(5)
وغيرهما
(6)
.
= (ص 170)، الإرشاد (ص 260)، المواقف (ص 339)، وشرحها (8/ 222 - 230)، شرح المقاصد (5/ 11 - 13).
(1)
انظر: النبوات (1/ 173، 164، 165، 170).
(2)
انظر: المحلى (1/ 36)، الفصل (5/ 2، 6)، النبوات (1/ 541)، الجواب الصحيح (6/ 308، 408، 496).
(3)
انظر: النبوات (1/ 229، 603، 605).
(4)
هو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي، أبو ثمامة، ادعى النبوة، وتلقب بالرحمن، حتى عرف برحمان اليمامة، قتل سنة 12 هـ.
انظر: شذرات الذهب (1/ 23)، الأعلام (7/ 226).
(5)
هو عيهلة بن كعب بن عوف العنسي المذحجي، ذو الحمار، أسلم يوم أسلمت اليمن، ثم ارتد عن الإسلام، وادعى النبوة، قتل سنة 11 هـ.
انظر: الأعلام (5/ 111).
(6)
انظر: النبوات (1/ 242).