الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث
…
فكانوا يستثنون في الإيمان، وهذا متواتر عنهم، لكن ليس في هؤلاء من قال: أنا أستثني لأجل الموافاة، وأن الإيمان إنما هو اسم لِمَا يوافي به العبد ربه، بل صرح أئمة هؤلاء بأن الاستثناء إنما هو لأن الإيمان يتضمن فعل الواجبات، فلا يشهدون لأنفسهم بذلك، كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى؛ فإن ذلك مما لا يعلمونه وهو تزكية لأنفسهم بلا علم
…
وأما الموافاة فما علمت أحدًا من السلف علل بها الاستثناء، ولكن كثيرًا من المتأخرين يعلل بها من أصحاب الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم، كما يعلل بها نظارهم كأبي الحسن الأشعري وأكثر أصحابه، لكن ليس هذا قول سلف أصحاب الحديث"
(1)
.
رابعًا: هل الإيمان مخلوق أم لا
؟
ساق ابن حجر رحمه الله أقوال الناس في خلق الإيمان وعدمه، ورجح ما رآه منها، حيث قال:
"قال جمع من الحنفية: الإيمان مخلوق، وكلام أبي حنيفة صريح فيه.
وقال آخرون منهم: غير مخلوق.
وهما متفقان على أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله سبحاته وتعالي، وبالغ جمع منهم فكفروا من قال بخلقه لِمَا يلزم عليه من خلق كلامه سبحانه وتعالى
…
والقول بعدم خلق الإيمان لم ينفرد به الحنفية بل نقله الأشعري عن أحمد وجماعة من أهل الحديث ومال إليه، لكن وجَّهه بأن الإيمان حينئذ ما دلّ عليه وصفه تعالى بالمؤمن فإيمانه هو تصديقه في الأزل بكلامه القديم لإخباره بوحدانيته وليس تصديقه هذا محدثًا ولا مخلوقًا تعالى الله أن يقوم به حادث، بخلاف تصديقه لرسله بإظهار المعجزة فإنه من صفات الأفعال وهي حادثة عند الأشاعرة قديمة عند الماتريدية.
وبذلك علم أنه لا خلاف في الحقيقة، لأنه إن أريد بالإيمان المكلف
(1)
مجموع الفتاوى (7/ 438 - 439).
به فهو مخلوق قطعًا، أو ما دلّ عليه وصفه تعالى بالمؤمن فهو غير مخلوق قطعًا"
(1)
.
التقويم:
القول في خلق الإيمان وعدمه "من مسائل الفضول، والسكوت أولى"
(2)
.
وقد ورد عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن ذلك؟ فقال: "من قال مخلوق فهو جهمي، ومن قال إنه غير مخلوق فقد ابتدع، وأنه يهجر حتى يرجع"
(3)
.
وأصل هذه المقالة ترجع إلى القول باللفظ في القرآن، فقد نهى الإمام أحمد رحمه الله عن قول إنه مخلوق أو غير مخلوق، وذلك لأن (اللفظ) كلمة مجملة تشترك بين الملفوظ الذي هو القرآن وهو غير مخلوق، وبين التلفظ الذي هو فعل العبد وهو مخلوق
(4)
.
و (الإيمان) من هذا الباب، فإنه لفظ مجمل مشترك، يشترك فيه صفات الله وكلامه، وفعل العبد وكلامه.
ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إذا قال الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟
قيل له: ما تريد بالإيمان؟
أتريد به شيئًا من صفات الله وكلامه، كقوله:"لا إله إلا الله" وإيمانه الذي دلّ عليه اسمه المؤمن؟ فهو غير مخلوق.
أو تريد شيئًا من أفعال العباد وصفاتهم؛ فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة، ولا يكون للعبد المُحدَث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة، ولا يقول هذا من يتصور ما يقول.
فإذا حصل الاستفسار والتفصيل ظهر الهدى وبان السبيل، وقد قيل:
(1)
فتح المبين (ص 77 - 78).
(2)
سير أعلام النبلاء (12/ 630).
(3)
طبقات الحنابلة (2/ 176).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (7/ 655).
أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وأمثالها مما كثر فيه تنازع الناس بالنفي والإثبات إذا فصل فيها الخطاب، ظهر الخطأ من الصواب"
(1)
.
وعليه فما قرره ابن حجر رحمه الله من التفصيل في هذه المسألة موافق لِمَا عليه أهل السنة والجماعة في الجملة، إلا أنه يؤخذ عليه أمران:
أحدهما: حكايته عن الأشعري نسبته القول بعدم خلق الإيمان للإمام أحمد وجماعة من أهل الحديث، وهي متعقبة بما يلي:
1 -
أن الذي ذكره الأشعري رحمه الله في حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة من المقالات خلاف ما نقله عنه ابن حجر حيث قال: "ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق"
(2)
.
وقد تتبعت ما طبع من كتب الأشعري رحمه الله فلم أجد في شيء منها ما نقله ابن حجر عنه.
ولو صح ما ذكره ابن حجر رحمه الله عن الأشعري فهو من جملة ما حكاه عن أصحاب الحديث وهو متعقب فيه، فإنه -غفر الله له- لم يكن خبيرًا بأقوالهم ومذاهبهم
(3)
.
2 -
أن الذي عليه جماهير أهل الحديث التفصيل في خلق الإيمان وعدمه -كما تقدم- لا القول بعدم خلقه.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله: "الذي صح عن السلف وعلماء الأثر أن الإيمان قول وعمل، وبلا ريب أن أعمالنا مخلوقة، لقوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]، فصح أن بعض الإيمان مخلوق،
(1)
مجموع الفتاوى (7/ 664)، وانظر: الإيمان لابن مندة (1/ 327)، مسائل الإيمان لأبي يعلى (ص 459)، والروايتين والوجهين له (ص 82 - 85)، مختصر المعتمد له (ص 191)، مجموع الفتاوى (7/ 655) وما بعدها، سير أعلام النبلاء (630/ 12)(14/ 39).
(2)
مقالات الإسلاميين (1/ 347).
(3)
انظر: منهاج السنة (5/ 275 - 278، 303 - 304).