الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: موانع التكفير:
يرى ابن حجر رحمه الله أن الحكم بالكفر على من تلبس به يمنع منه موانع عدة هي: الجهل، والخطأ، والتأويل، والإكراه.
وقد قرر ذلك في مواضع متعددة من كتبه، منها:
قوله: "إطلاق الكفر
…
مع الجهل وعدم العذر به بعيد، وعندنا إذا كان بعيد الدار عن المسلمين بحيث لا ينسب لتقصير في تركه المجيء إلى دارهم للتعلم أو كان قريب العهد بالإسلام يعذر لجهله، فيعرّف الصواب، فإن رجع إلى ما قاله بعد ذلك كفر"
(1)
.
وقوله: "ويعذر أيضًا فيما يظهر بدعوى سبق اللسان بالنسبة لدرء القتل عنه
…
وذلك حق الله تعالى وهو مبني على المسامحة"
(2)
.
وقوله: "ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة
…
ببدعة لشبهة تأويلهم إلا إذا انضم إليها مكفر صريحًا لا لزومًا"
(3)
.
وقوله: "ولا تصح ردة
…
مكره على مكفر قلبه مطمئن بالإيمان للآية"
(4)
.
التقويم:
لَمّا كان الحكم بالكفر يلزم منه لوازم عدة، ويبنى عليه أحكام كثيرة؛ ذكر أهل العلم ما يمنع منه، ويقدح في الحكم به، وبحثوا في ضوابط كل منها، وجملتها أربعة، هي: الجهل، والخطأ، والتأويل، والإكراه.
وليس المقصود هنا بحث هذه الموانع ومناقشة الأقوال الواردة فيها وإنما المقصود بيان موافقة ابن حجر رحمه الله فيما قرره من الإعذار بها لقول أهل السنة والجماعة أو مخالفته لهم.
(1)
الإعلام بقواطع الإسلام (ص 242).
(2)
المصدر السابق (ص 282).
(3)
التعرف (ص 124).
(4)
تحفة المحتاج (4/ 113)، وانظر: فتح المبين (ص 130)، فتح الجواد (2/ 299)، الإعلام بقواطع الإسلام (ص 318).
فأولها: الجهل:
والمراد به هنا: التلبس والوقوع في الكفر بسبب عدم العلم.
وقد اختلف أهل العلم في الإعذار به على ثلاثة أقوال:
الأول: الإعذار به مطلقًا.
الثاني: عدم الإعذار به مطلقًا.
الثالث: التفضيل فمن كان حديث عهد بإسلام، أو ناشئًا بغير دار الإسلام، أو ببادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم عذر بجهله، ومن كان بخلاف ذلك فلا يعذر، ومحله المسائل الخفية لا الظاهرة
(1)
.
والقول الثالث هو بمعنى ما قرره ابن حجر رحمه الله في كلامه المتقدم، وهو الراجح الذي عليه المحققون من أهل العلم، وأدلته مبسوطة في مواضعها من كتبهم
(2)
.
ثانيها: الخطأ:
والمراد به هنا أحد أمرين:
الأول: الخطأ الناشئ عن اجتهاد، فهذا بمعنى التأويل وحكمه حكمه -وسيأتي-.
الثاني: الخطأ الناشئ عن غير قصد كسبق اللسان ونحوه، فهذا اتفق أهل العلم على الإعذار به مطلقًا
(3)
، وهو الذي عناه ابن حجر رحمه الله في كلامه المتقدم، ويدل لذلك قوله عز وجل: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ
(1)
انظر: التمهيد (18/ 46 - 47)، مجموع الفتاوى (1/ 491)(3/ 231)(7/ 619)(11/ 407 - 409)(35/ 165)، مدارج السالكين (1/ 367)، فتح الباري (6/ 523)، الدرر السنية (10/ 432)، فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 220، 528)(2/ 96 - 99)، مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (2/ 528 - 530)، فتاوى الشيخ ابن عثيمين (2/ 126 - 138)، وللاستزادة: الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق معاش (ص 281) وما بعدها، عارض الجهل وأثره على أحكام الاعتقاد لأبي العلاء الراشد (ص 37) وما بعدها، نواقض الإيمان الاعتقادية للدكتور محمد الوهيبي (1/ 225) وما بعدها.
(2)
انظر: المصادر السابقة.
(3)
انظر: شرح صحيح مسلم (17/ 71)، فتح الباري (13/ 29).
وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"الله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح"
(1)
.
ثالثها: التأويل:
والمقصود به هنا: التلبس والوقوع في الكفر من غير قصد لذلك أو تعمد المخالفة بسبب القصور في فهم الأدلة الشرعية.
"والمتأولون من أهل القبلة الذين ضلوا وأخطؤوا في فهم ما جاء في الكتاب والسنة مع إيمانهم بالرسول واعتقادهم صدقه في كل ما قال، وأن ما قاله كان حقًّا والتزموا ذلك، لكنهم أخطؤوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية، فهؤلاء قد دل الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدين، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن بعدهم من أئمة السلف على ذلك"
(2)
.
وضابط التأويل المعتبر الإعذار به شرعًا والمانع من الكفر ما كان تأويلًا سائغًا بخلاف ما هو دون ذلك، وهذا يختلف باختلاف ظهور المسائل، وصراحة أدلتها، وقوة التأويل فيها، وورود الشبهة عليها، وسلامة قصد المتأول، وامتلاكه آلة النظر
(3)
.
يقول العلامة ابن سعدي رحمه الله: "والمقصود أنه لا بد من هذا الملحظ في هذا المقام؛ لأنه وجد بعض التفاصيل التي كفر أهل العلم فيها من
(1)
أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب الحض على التوبة والفرح بها (4/ 2104) برقم (2747) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه به.
(2)
الإرشاد في معرفة الأحكام لابن سعدي (ص 207).
(3)
انظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 510 - 511)، الشفا (2/ 1051 - 1065)، الدرة لابن حزم (ص 414)، مجموع الفتاوى (3/ 231)، العواصم والقواصم (4/ 176)، منهاج التأسيس والتقديس للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (ص 102)، الإرشاد في معرفة الأحكام (ص 209).
اتصف بها، وثم أخر من جنسها لم يكفروه بها، والفرق بين الأمرين أن التي جزموا بكفره بها لعدم التأويل المسوغ وعدم الشبهة المقيمة لبعض العذر، والتي فصلوا فيها القول، لكثرة التأويلات الواقعة فيها"
(1)
.
وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جملة من المسائل التي يعذر بالتأويل فيها فيقاس عليها نحوها
(2)
.
وعليه فما قرره ابن حجر رحمه الله من الإعذار بالتأويل والمنع من التكفير مع وجوده موافق لقول أهل السنة والجماعة إلا أنه يؤخذ عليه إطلاقه الإعذار به دون تقييد ذلك بالتأويل المقبول أو السائغ.
رابعها: الإكراه:
والمراد به هنا: التلبس والوقوع في الكفر من غير قصد له بسبب الإلزام به.
ولا خلاف بين أهل العلم في أن أعمال القلوب ليست محلًا للإكراه؛ ولهذا أصبحت سلامتها شرطًا لصحة الإعذار به في قوله عز وجل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] وأن محل الإكراه أعمال الجوارح من الأقوال والأعمال.
واختلفوا في الإعذار بالإكراه فيهما هل هو خاص بالأقوال دون الأعمال أم هو عام فيهما، والصحيح ما عليه الجمهور من القول بالعموم؛ لعموم الأدلة، ويستثنى من ذلك القتل للإجماع على عدم الإعذار بالإكراه فيه، والزنى على خلاف
(3)
.
وضابط الإكراه المعتبر الإعذار به شرعًا والمانع من التكفير ما استجمع شروطًا أربعة:
(1)
الإرشاد في معرفة الأحكام (ص 209).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (20/ 33 - 36).
(3)
انظر: تفسير القرطبي (10/ 182)، الفتاوى الكبرى (1/ 56)، جامع العلوم والحكم (2/ 370 - 371)، فتح الباري (12/ 314)، فتح القدير للشوكاني (3/ 197).