الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما سبق بيانه من دلالة الكتاب والسنة والإجماع والعقل على إثبات صفة الكلام لله تعالى، وسياق قول أهل السنة والجماعة فيها، يتبين مخالفة ابن حجر -غفر الله له- لهم فيما قرروه، وموافقته للأشاعرة في قولهم
(1)
.
وفيما يلي مناقشة كلامه، والرد عليه:
أولًا: الرد على قوله: إن كلام الله اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم واللفظ الحادث:
يقرر ابن حجر أن كلام الله لفظ مشترك بين الكلام النفسي، واللفظ الحادث، ويريد بذلك أن كلام الله المضاف إليه نوعان:
الأول: كلام مضاف إليه إضافة صفة إلى موصوفها، وهو الكلام النفسي القديم.
والثاني: كلام مضاف إليه إضافة مخلوق إلى خالقه، وهو اللفظ المؤلف الحادث -سواء قيل إن مؤلف اللفظ جبريل أو محمد عليه السلام.
ويرى أن كلا النوعين يطلق عليهما كلام الله حقيقة لا مجازًا، وهو بهذا يوافق جمهور الأشاعرة المتأخرين
(2)
.
والجواب عن قوله من وجوه:
= (2/ 187 - 213)، مجموع الفتاوى (6/ 527 - 528)(12/ 243 - 244، 584 - 586)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 125 - 127)، مختصر الصواعق (2/ 293 - 294)، شرح الطحاوية لابن أبي العز (1/ 172 - 206)، لوامع الأنوار البهية (1/ 133 - 143)، معارج الفبول (1/ 247 - 280).
(1)
انظر: الإنصاف للباقلاني (ص 27، 37)، الإرشاد للجويني (ص 105 - 131)، الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص 83)، المحصل للرازي (ص 171، 184 - 186)، الأربعين له (1/ 244 - 258)، أصول الدين للبغدادي (ص 106 - 107)، المواقف للإيجي (ص 293)، وشرحها للجرجاني (8/ 91 - 104)، غاية المرام للآمدي (ص 88 - 120)، تحفة المريد للباجوري (ص 72).
(2)
انظر المصادر السابقة.
1 -
أن حقيقة الكلام تتضمن اللفظ والمعنى، فالكلام "اسم عام لهما جميعًا يتناولهما عند الإطلاق؛ وإن كان مع التقييد يراد به هذا تارة، وهذا تارة"
(1)
.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "عامة ما يوجد في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة، بل وسائر الأمم عربهم وعجمهم من لفظ الكلام
…
فإنه عند إطلاقه يتناول اللفظ والمعنى جميعًا، لشموله لهما، ليس حقيقة في اللفظ فقط -كما يقوله قوم- ولا في المعنى فقط -كما يقوله قوم- ولا مشتركًا بينهما -كما يقوله قوم- ولا مشتركًا في كلام الآدميين وحقيقة في المعنى في كلام الله -كما يقوله قوم-"
(2)
.
2 -
أن ما اصطلح الأشاعرة على تسميته كلامًا نفسيًا ليس كلامًا في اللغة ولا في الشرع، ويؤيد ذلك ما يلي:
أ- انعقاد الإجماع على عدم كونه كلامًا؛ فإن "الكلام
…
إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظًا ومعنى، ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع، ثم انتشر"
(3)
.
يقول العلامة السجزي
(4)
رحمه الله: "اعلموا -أرشدنا الله وإياكم- أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب
…
والأشعري
…
في أن الكلام لا يكون إلا حرفًا وصوتًا ذا تأليف واتساق وإن اختلفت به اللغات
…
(1)
مجموع الفتاوى (12/ 67)، وانظر: الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزي (ص 80 - 82)، مسألة القرآن لابن عقيل (ص 70)، البرهان في بيان القرآن لابن فدامة (ص 77)، التسعينية (2/ 435)، مجموع الفتاوى (6/ 533)(7/ 132 - 134).
(2)
مجموع الفتاوى (12/ 456 - 457).
(3)
شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/ 202).
(4)
هو عبيد الله بن سعيد بن حاتم بن أحمد بن محمد بن حاتم الوايلي البكري، السجزي، أبو نصر، إمام سلفي، من مؤلفاته: الإبانة في الرد على الزائغين في مسألة القرآن، الرد على من أنكر الحرف والصوت، توفي سنة 444 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 654)، شذرات الذهب (3/ 271).
فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفًا وصوتًا، فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يخبرون أصول السنة، ولا ما كان السلف عليه
…
خرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة المسلم والكافر"
(1)
.
ب- أن هذا القول بدعة حادثة بعد انقضاء القرون المفضلة؛ "فيمتنع أن يكون الكلام الذي هو أظهر صفات بني آدم
…
لم يعرفه أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم، حتى جاء من قال فيه قولًا لم يسبقه أحد من المسلمين، ولا غيرهم"
(2)
.
وقد اعترف الشهرستاني -وهو من أئمة الأشاعرة- بأن الأشعري ابتدع قولًا ثالثًا بعد قول أهل السنة وقول المعتزلة فقال: "أبدع الأشعري قولًا ثالثًا وقضى بحدوث الحروف، وهو خرق الإجماع، وحكم بأن ما نقرأه كلام الله مجازًا لا حقيقة وهو عين الابتداع، فهلا قال ورد السمع بأن ما نقرأه ونكتبه كلام الله تعالى دون أن يتعرض لكيفيته وحقيقته"
(3)
.
ونحوه ما قاله الرازي: "
…
وذلك كلام النفس الذي لم يقل به أحد إلا أصحابنا"
(4)
.
جـ- أن الأشاعرة القائلين بالكلام النفسي لم يتصوروا ماهيته وعجزوا عن بيانه بتعريف منضبط.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الكلام القديم النفساني الذي أثبتموه، لم تثبتوا ما هو بل ولا تصورتموه، وإثبات الشيء فرع عن تصوره، فمن لم يتصور ما يثبته كيف يجوز أن يثبته؟
(1)
الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص 80 - 82)، وانظر: مسألة في القرآن لابن عقيل (ص 66، 70)، حكاية المناظرة في القرآن لابن قدامة (ص 22)، الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم له أيضًا (ص 40)، التسعينية (2/ 685 - 690)، درء التعارض (2/ 83 - 86)، الاستقامة (1/ 214).
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 133)، وانظر: الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص 80 - 82)، الصراط المستقيم (ص 36 - 37)، التسعينية (2/ 625، 683)(3/ 875).
(3)
نهاية الإقدام (ص 313).
(4)
المحصول (4/ 224).
ولهذا كان أبو سعيد بن كلاب -رأس هذه الطائفة وإمامها في هذه المسألة- لا يذكر في بيانها شيئًا يعقل، بل يقول: هو معنى يناقض السكوت والخرس، والسكوت والخرس إنما يتصوران إذا تصور الكلام"
(1)
.
ومما يؤكد ذلك اعتراف كثير من الأشاعرة بعجزهم عن تصور الكلام النفسي، والإجابة عما يرد عليه
(2)
.
د- أن الأدلة التي ساقها الأشاعرة على قولهم بأن حقيقة الكلام معنى قائم بالنفس لا يصح الاستدلال بها؛ لكونها إما مطعونًا في ثبوتها، أو غير مُسَلَّم بدلالتها
(3)
.
3 -
أن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة قد تواترت بإثبات الكلام، والقول، وإسناداة، والمناجاة، والصوت، والحرف لله تعالى، وتنوع ذلك بتنوع الزمان بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا كله يدل دلالة ظاهرة على أن كلام الله كلام حقيقي، وأن القول بأن كلامه كلام نفسي باطل
(4)
.
4 -
أن القرآن الكريم مُعجِز ومُتحدىً به، ومعلوم أن الكلام النفسي لا يتصور معارضته ولا يتحدى به، فليس هذا الإعجاز والتحدي إلا بالقرآن العربي الذي هو كلام الله لفظًا ومعنى
(5)
.
(1)
مجموع الفتاوى (6/ 296).
(2)
انظر: ما ذكره الآمدي في أبكار الأفكار (1/ 400)، والإيجي فيما نقله عنه الجرجاني ووافقه عليه في شرح المواقف (8/ 103 - 104).
(3)
انظر: الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص 81). وما بعدها، مسألة القرآن لابن عقيل (ص 112) وما بعدها، البرهان في بيان القرآن (ص 78 - 81)، الصراط المستقيم (ص 41)، مجموع الفتاوى (6/ 296 - 297)، الصواعق المرسلة (1/ 344 - 345)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/ 199 - 204)، بدعة الكلام النفسي للخميس (ص 31) وما بعدها، العقيدة السلفية في كلام رب البرية للجديع (ص 325 - 410).
(4)
نظر: مسألة القرآن لابن عقيل (ص 59 - 64)، درء التعارض (2/ 93)، مجموع الفتاوى (6/ 530 - 531)، مختصر الصواعق (2/ 297 - 298).
(5)
انظر: مسألة القرآن لابن عقيل (ص 51، 52)، الصراط المستقيم (ص 22)، البرهان في بيان القرآن (ص 30 - 31، 70)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/ 203).
وكون القرآن الكريم بألفاظه ومعانيه معجزًا ومتحدًا به دون الكلام النفسي قد اعترف به غير واحد من الأشاعرة والماتريدية، وعده بعضهم مشكلًا على قول الأشعري وأصحابه
(1)
.
5 -
أن الكلام النفسي شيء معدوم محض لا وجود له ولا عبرة به، فلا تتعلق به الأحكام لا نفيًا ولا إثباتًا، ولا إيجابًا ولا سلبًا؛ لأنه إن قُدر تصوره فهو من قبيل حديث النفس وخواطرها ووساوس القلب وهواجس الصدور، فلا يحل به حرام ولا يحرم به حلال، ولا يدخل به المرء في الإسلام ولا يخرج به عن الإسلام إلى الكفر ولا يقع به الطلاق ولا العتاق، ولا تفسد به الصلاة بالاتفاق
(2)
.
ولهذا يقول الزركشي
(3)
مقرًا بذلك: "واعلم أنه لم يفرع أئمتنا على الكلام النفسي، ولا اعتبروه بمجرده في إثبات العقود، ولا في فسخها، ولم يوقعوا العتاق، والطلاق بالنية؛ وإن صمم بقلبه؛ لأن النية غير المنوي، فلا يستلزم أحدهما الآخر
…
"
(4)
.
6 -
أن القول بذلك يلزم منه لوازم باطلة، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، ومن تلك اللوازم: تشبيه الله بالأخرس، والقول بنفي الحرف والصوت وأنه سبحانه يتكلم بمشيئته واختياره، وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به، وأن يكون القرآن والتوراة والإنجيل كلها بمعنى واحد والاختلاف بينها بحسب التعبير عنها باللغات
(5)
.
(1)
كالإيجي فيما نقله عنه الجرجاني في شرح المواقف (8/ 103 - 104)، عن مقالة له مفردة في تحقيق كلام الله، والجرجاني في شرح المواقف (8/ 103 - 104)، والعصام في حاشيته على شرح العقائد النسفية (ص 188 - 189).
(2)
انظر: البرهان في بيان القرآن (ص 77)، الإيمان لابن تيمية (ص 131 - 132)، مجموع الفتاوى (7/ 137 - 138)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أي العز (1/ 201).
(3)
هو محمد بن بهادر بن عبد الله، بدر الدين، المشهور بالزركشي، أشعري شافعي، من مؤلفاته: البحر المحيط في أصول الفقه، والبرهان في علوم القرآن وغيرها، توفي سنة (794 هـ). انظر: الدرر الكامنة (4/ 17)، وشذرات الذهب (6/ 335).
(4)
البحر المحيط (2/ 65).
(5)
انظر: درء التعارض (2/ 114 - 115)(6/ 288)، مختصر الصواعق المرسلة (2/ 294 - 295).