الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول آراؤه في مسائل الإيمان
عرض ابن حجر -غفر الله له- لجملة من المسائل المتعلقة بالإيمان، وذكر فيها رأيه، وهي: تعريف الإيمان، وزيادته ونقصانه، وحكم الاستثناء فيه، وهل هو مخلوق أم لا؟ ، والفرق بينه وبين الإسلام، وتعريف الكبيرة، وحكم مرتكبها.
وفيما يلي عرض آرائه وتقويمها:
أولًا: تعريف الإيمان:
عرف ابن حجر -عفا الله عنه- الإيمان، وبيّن معناه في اللغة والشرع.
فقال: "الإيمان هو لغة: مطلق التصديق من آمن بوزن أَفْعَلَ لا فَاعَلَ وإلا لجاء مصدره فَعالًا وهمزته للتعدية كان المصدق جعل الغير آمنًا من تكذيبه أو للصيرورة كأنه صار ذا أمن من أن يكذبه غيره، ويضمن معنى اعترف وأقر فيعدى بالباء، وأذعن وقَبِلَ فيعدى باللام نحو:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26].
وشرعًا: التصديق بالقلب فقط أي: قبوله وإذعانه لِمَا علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
وقال: "الإيمان: التصديق مما علم من الدين ضرورة إجمالًا في الإجمالي، وتفصيلًا في التفصيلي
…
(1)
فتح المبين (ص 65).
وشرط خروج القادر عن عهدة التكليف به تلفظه وإلا خلد في النار بإجماع أهل السنة قاله الإمام النووي
(1)
، لكن مال جمع محققون إلى نجاته نظرًا لإيمان قلبه، والنطق بهما الإسلام، وطاعة الجوارح غير داخلة بل هي شرط لكمال الإيمان، وشرط الخروج عن عهدة اللزوم به الإيمان فلا يعتد بأحدهما بدون الآخر"
(2)
.
وقال: "الإيمان: التصديق، الإجمالي في الإجمالي، والتفصيلي في التفصيلي
…
ولا يكفي التصديق وحده بل لا بد معه من الإقرار بالشهادتين باللسان، فإن تركه مع القدرة عليه كان كافرًا مخلدًا في النار كما نقله النووي عن أهل السنة، لكن أشار الغزالي
(3)
-رحمه الله تعالى- إلى ما اختاره جمع محققون غيره أنه من أهل الجنة، وتركه التلفظ به معصية فقط؛ لأن قلبه مملوء بالتصديق فكيف يخلد، والكلام فيمن يمتنع منه جحود أو إنكارٌ وإلا كان كافرًا إجماعًا.
والأعمال من الإيمان عندنا -كأكثر المحدثين- أي: من كماله، فالميت مؤمنًا فاسقًا تحت المشيئة
…
"
(4)
.
التقويم:
الإيمان في اللغة:
مصدر آمن يؤمن إيمانًا فهو مؤمن
(5)
، وهو بمعنى الإقرار لا مجرد التصديق؛ فإن الإيمان يتضمن أمرين:
أحدهما: الإخبار.
(1)
انظر: شرح صحيح مسلم (1/ 149).
(2)
التعرف (ص 117 - 118).
(3)
انظر: إحياء علوم الدين (1/ 104 - 105).
(4)
المنح المكية (3/ 1340 - 1341)، وانظر: تحفة المحتاج (4/ 112)، فتح المبين (ص 66، 74 - 76، 183)، الفتاوى الحديثية (ص 263)، الإعلام بقواطع الإسلام (ص 217)، الخيرات الحسان (ص 136).
(5)
انظر: تهذيب اللغة (1/ 209)، معجم مقاييس اللغة (ص 88)، الصحاح (5/ 2071)، لسان العرب (13/ 21)، القاموس المحيط (ص 1518).
وثانيهما: الالتزام.
والتصديق إنما يتضمن الأول دون الثانى، بخلاف الإقرار فإنه يتضمنهما جميعًا
(1)
.
ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "معلوم أن الإيمان هو الإقرار لا مجرد التصديق، والإقرار يتضمن قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو الانقياد"
(2)
.
وبناء على ذلك فما ذكره ابن حجر -غفر الله له- من كون الإيمان في اللغة هو مطلق التصديق مردود.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ليس لفظ الإيمان مرادفًا للفظ التصديق كما يظنه طائفة من الناس
…
وذلك أن الإيمان يفارق التصديق، أي: لفظًا ومعنى.
فأما اللفظ، فمن وجهين:
أحدهما: أنه يقال: صدقه، فيتعدى بنفسه إلى المصدق، ولا يقال: أمنته، إلا من الأمان الذي هو ضد الإخافة، بل آمنت له
…
كما يقال: أقررت له، فهذا فرق في اللفظ.
والفرق الثاني:
…
أن الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار، بل في الإخبار عن الأمور الغائبة، ونحوها مما يدخلها الريب، فإذا أقر بها المستمع قيل: آمن، بخلاف لفظ التصديق؛ فإنه عام متناول لجميع الأخبار.
وأما المعنى:
فإن الإيمان مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة، كما أن لفظ الإقرار مأخوذ من قر يقر، وهو قريب من آمن يأمن، لكن الصادق يطمأن إلى خبره، والكاذب بخلاف ذلك كما يقال: الصدق طمأنينة والكذب ريبة؛ فالمؤمن دخل في الأمن كما أن المقر دخل في الإقرار، ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين:
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (7/ 530 - 531).
(2)
المصدر السابق (7/ 638).
أحدهما: الإخبار
…
والثاني: إنشاء الالتزام
…
وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ التصديق المجرد"
(1)
.
وقول ابن حجر -عفا الله عنه- بأن الإيمان في اللغة يضمن معنى الاعتراف والإقرار والإذعان والقبول متعقب بكون معنى الإيمان المطابق له في اللغة هو الإقرار -كما تقدم- لا أنه ضمن معناه، وقوله بذلك إقرار ضمني بقصور لفظ التصديق عن لفظ الإيمان.
وأما الإيمان في الشرع:
فهو حقيقة مركبة من اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح.
والأدلة على ذلك متظافرة من الكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].
وقوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} لأالبقرة: 143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس.
ومن السُّنَّة: قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها أماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة
(1)
مجموع الفتاوى (7/ 529 - 531)، وانظر:(7/ 290 - 293)(10/ 269 - 276)، الإيمان (ص 126 - 134)(ص 274 - 281)، شرح الأصفهانية (ص 142 - 143)، شرح الطحاوية (2/ 471 - 474).
من الايمان"
(1)
.
"فهذه الشعب تتفرع من أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن"
(2)
، وقد عني جمع من أهل العلم بعدها وفقًا لذلك
(3)
.
وأما الإجماع: فقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "كان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركنا: أن الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة عن الآخر"
(4)
.
وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم، منهم: وكيع بن الجراح
(5)
(6)
وأبو عبيد القاسم بن سلام
(7)
، والبخاري
(8)
، والبغوي
(9)
، وابن عبد البر
(10)
-رحم الله الجميع-.
والقول بمقتضى ذلك هو ما عليه أهل السنة والجماعة
(11)
، وإن
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان (1/ 29) برقم (9)، ومسلم واللفظ له، كتاب الإيمان، باب عدد شعب الإيمان (1/ 63) برقم (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
فتح الباري (1/ 52).
(3)
انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/ 911 - 940)، الإبانة الكبرى لابن بطة ت/ رضا نعسان (2/ 650 - 653)، وقد أفردها بالتصنيف جماعة آخرون كالحليمي والبيهقي والقزويني والقصري والبلقيني وكتبهم مطبوعة بحمد الله.
(4)
انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/ 886).
(5)
هو وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي، أبو سفيان، الرُؤاسي، إمام محدث، من أئمة السلف، من مؤلفاته: الزهد، التفسير، فضائل الصحابة وغيرها، توفي سنة 197 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (9/ 140)، شذرات الذهب (1/ 349).
(6)
انظر: كتاب الإيمان للعدني (ص 96).
(7)
انظر: الإيمان له (ص 66).
(8)
انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/ 886).
(9)
انظر: شرح السنة (1/ 38 - 39).
(10)
انظر: التمهيد (9/ 238).
(11)
انظر: الإيمان لابن أبي شيبة (ص 46)، الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص 66)، الإيمان للعدني (ص 79)، الإيمان لابن مندة (2/ 5)، الشريعة (2/ 611)، الإبانة الكبرى، تحقيق: نعسان (2/ 760)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 830)، الحجة في بيان المحجة (1/ 403)، أصول السنة لابن أبي زمنين (ص 207)، شرح السنة للبربهاري (ص 67)، عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص 264)، مسائل الإيمان لأبي يعلى =
اختلفت عباراتهم في التعبير عنه إجمالًا وتفصيلًا
(1)
.
وقد خالف أهلَ السنة والجماعة في ذلك عامةُ الطوائف والفرق
(2)
، ومنهم الأشاعرة فإنهم اتفقوا على أن الإيمان هو تصديق القلب، وأن أعمال الجوارح غير داخلة في مسماه، واختلفوا في إقرار اللسان على قولين -حكاهما ابن حجر في كلامه المتقدم- يقول الباجوري في بيان ذلك.
وفسر الإيمان بالتصديق
…
والنطق فيه الخلف بالتحقيق
(3)
والذي عليه جمهورهم أن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، وأما إقرار اللسان وعمل الجوارح فهي خارجة عن مسماه
(4)
، وهو ظاهر كلام ابن حجر المتقدم -غفر الله له-.
والقول بذلك باطل، والرد عليه من طريقين:
أحدهما: النقض، وذلك بأن يقال:
أولًا: أن الإيمان في اللغة ليس هو مجرد التصديق -كما سبق- بل هو الإقرار، والإقرار -كما تقدم- يتضمن الإخبار والالتزام.
ثانيًا: أن الإيمان لو فرض أنه في اللغة مجرد التصديق فإن الأعمال داخلة في مسماه، وذلك من وجهين:
1 -
أن التصديق يكون بالأعمال أيضًا، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"العينان تزنيان، وزناهما النظر، والأذن تزني، وزناها السمع" إلى أن قال: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"
(5)
.
= (ص 152)، الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي (ص 181)، الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 293 - 295)، شرح الطحاوية (2/ 459)، لوامع الأنوار البهية (1/ 403).
(1)
انظر: الإيمان لابن تيمية (ص 162 - 163)، مجموع الفتاوى (7/ 505 - 506).
(2)
انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 213)، مجموع الفتاوى (13/ 47 - 51)، الإيمان لشيخ الإسلام (ص 72)، شرح الطحاوية (2/ 459).
(3)
جوهرة التوحيد مع شرحها تحفة المريد (ص 42).
(4)
انظر: التمهيد للباقلاني (ص 389)، أصول الدين للبغدادي (ص 247)، الإرشاد (ص 333)، المواقف (ص 384)، وشرحها (8/ 322)، شرح المقاصد (5/ 175).
(5)
أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب زنا الجوارح دون الفرج (4/ 1964) برقم (6243)، ومسلم، كتاب القدر، باب قُدِّر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره (4/ 2046) =