الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المطلب الثالث
استدراك الفرق، وتطبيقاته
مادة (الفاء والراء والقاف) أصل صحيح يدل على تمييز وتزييل (1). والفرق: تباعد ما بين الشيئين (2).
والمراد بعلم الفروق الأصولية في الاصطلاح: علم بوجوه الاختلاف بين قاعدتين أو مصطلحين أصوليين متشابهين في تصويرهما، أو ظاهرهما؛ لكنهما مختلفان في عدد من أحكامها (3).
ومما سبق يمكن حد استدراك الفرق بأنه: التعقيب بتمييز القاعدتين أو المصطلحين الأصوليين المتشابهين في الصورة أو المعنى، المختلفين حكمًا.
شرح التعريف:
التعقيب: جنس يدخل فيه كل تعقيب، وسبق الكلام عنه في حد الاستدراك.
بتمييز: نوع في الحد، مستفاد من أصل المادة اللغوي.
القاعدتين أو المصطلحين: موضوع ومحل هذا النوع من التعقيب.
الأصوليين: قيد يخرج القاعدتين أو المصطلحين غير الأصوليين.
المتشابهين في الصورة أو المعنى: قيد ثان، فالتمييز للقاعدتين أو المصطلحين المتشابهين في الصورة أو المعنى، فيخرج بهذا القيد القاعدتان أو المصطلحان المتباينان تمامًا؛ إذ لا يتصور بيان التمييز بين ما هو مميز.
(1) مقاييس اللغة (4/ 493) مادة (فرق).
(2)
الصحاح (ص: 809)؛ لسان العرب (11/ 169) مادة: (فرق).
(3)
وهذا تعريف د. يعقوب الباحسين في الفروق الفقهية والأصولية (ص: 131).
المختلفين حكمًا: قيد ثالث، فالتميز للقاعدتين أو المصطلحين المتشابهين في الصورة أو المعنى المختلفين حكمًا، وذلك ببيان ما تجتمع وتختلف فيه، ويخرج بهذا القيد المتشابه حكمًا؛ لأنه لا يتصور التمييز بين المتشابهين صورة وحكمًا؛ إذ لا وجه للتمييز بينهما.
ويتضح استدراك الفرق من الأمثلة التالية:
• المثال الأول:
ذكر الباجي في مسألة (إذا علق الأمر بشرط أو صفة) دليل القائلين بأنه يقتضي التكرار بقوله: "أما هم فاحتج من نصر قولهم بأن الحكم إذا وجب تكراره لِتَكرر علته وجب تكراره لتكرر شرطه؛ لأن الشرط كالعلة".
فاستدرك عليهم هذا الاستدلال ببيان الفرق بين الشرط والعلة فقال: "والجواب: أن العلة دلالة تقتضي الحكم فيتكرر بتكررها، والشرط ليس بدلالة على الحكم؛ ألا ترى أنه لا يقتضيه؛ وإنما هو مصحح له؛ فبان الفرق بينهما"(1).
• المثال الثاني:
ذكر السمعاني في مسألة (الأمر المطلق هل يفيد التكرار أو المرة؟ ) دليل القائلين بأنه يفيد التكرار: "لأنَّ الأمر ضد النهي، وهو في طلب الفعل مثل النهي في طلب الكف عن الفعل. ثم النهي يفيد التكرار وكذلك الأمر؛ حتى لو ترك الفعل مرة ثم فعله يكون مرتكبًا للنهي، كذلك هاهنا إذا فعل المأمور به مرَّةً ثم لم يفعله يكون تاركًا للأمر"(2).
فاستدرك عليهم ببيان الفرق بين الأمر والنهي بقوله: "وأما تعلقهم بالنهي واعتبارهم الأمر بذلك فغير صحيح؛ فإنه يمكن أن يقال: أولاً: لا نسلم أن النهي
(1) إحكام الفصول (1/ 211).
(2)
القواطع (1/ 115 - 116).
يقتضي التكرار؛ لأن معنى التكرار أن يفعل فعلاً وبعد فراغه منه يعود إليه، وهذا لا يوجد في النهي؛ لأن الكف مرة واحدة مستدام وليس بأفعال مكررة، بخلاف الأمر؛ فإنه يوجد أفعال متكررة على ما ذكرنا. والأمر فيه دليل على الفعل، وليس فيه دليل على إعادة الفعل بعد الفراغ منه.
وعلى أنه إن ثبت الفرق الذي قالوه فيقال: لا فرق بينهما لغة؛ فإن واحدًا منهما لا يفيد التكرار لغة؛ وإنما افترقا من حيث العرف؛ فإن من قال لغلامه: افعل كذا واخرج إلى السوق؛ فإن هذا الأمر يقتضي أن يفعل مرة فقط. وإذا قال: لا تخرج أو لا تفعل؛ يقتضي هذا النهي أن لا تفعل أبدًا. فالفرق كان من حيث العرف؛ لا من حيث اللغة.
وقد قال بعض أصحابنا في الفرق بين الأمر والنهي: إن في حمل الأمر على التكرار ضيقًا وحرجًا يلحق الناس؛ لأنه إذا كان الأمر يقتضي الدوام عليه لم يتفرغ لسائر أموره، وتتعطل عليه جميع مصالحه. وأما النهي لا يقتضي إلا الكف والامتناع، ولا ضيق ولا حرج في الكف والامتناع؛ وهذا لأن الوقت لا يضيق عن أنواع الكف، ويضيق عن أنواع الفعل.
وهذا الفصل (1) يضعف؛ لأن الكلام في مقتضى اللفظ في نفسه، وأما التضايق وعدم التضايق معنى يوجد من بعد، وربما يوجد وربما لا يوجد، فلا يجوز أن يعرف مقتضى اللفظ منه. وعلى أنه يلزم على هذا الفصل أن يقتضي الأمر الفعل على الدوام إلا القدر الذي يتعذر عليه ويمنعه من قضاء حاجته، وهذا لا يقوله أحد.
وقد بيَّنَّا الفرق بين الأمر والنهي في قولنا: إن الأمر لا يقتضي فعلاً على وجه التنكير، وهو ما يخص في الأمر ويعم في النهي، وهو جواب معتمد.
وأيضًا فإنه يمكن أن نفرق بينهما بالمسائل التي ذكرناها في البر والحنث،
(1) أي قول بعض الأصحاب من الشافعية في التفريق بين الأمر والنهي.
وكذلك مسائل الوكالات (1) " (2).
• المثال الثالث:
قال الإسنوي في خبر العدل الواحد: "قوله (3): (الثالث) أي الدليل الثالث على وجوب العمل بخبر الواحد: القياس على الفتوى والشهادة، والجامع: تحصيل المصلحة المظنونة، أو دفع المفسدة المظنونة.
وفرق الخصم بأن الفتوى (4) والشهادة (5) تقتضيان شرعًا خاصًّا ببعض الناس، والرواية تقتضي شرعًا عامًّا للكل، ولا يلزم من تجويزنا للواحد أن يعمل بالظن الذي قد يخطئ ويصيب أن نجوز ذلك للناس كافة" (6).
(1) إشارة إلى قوله: "وقد قال الأصحاب: إن الطاعة والمعصية في الأوامر على مثال البر والحنث في الأيمان، ثم البر والحنث في الأيمان يحصل في الفعل مرة، والأمثلة معلومة. كذلك الطاعة والمعصية في الأوامر، وعلى هذا أوامر العباد في قولهم: طلق، وأعتق، وبع، واشتر، وتزوج؛ فإن في هذه الصورة يحصل الامتثال بفعل المأمور مرة واحدة". القواطع (1/ 119).
(2)
المرجع السابق (1/ 120 - 122).
(3)
أي القاضي البيضاوي في المنهاج.
(4)
الفتوى والفتيا: الجواب عما يسأل عنه من المسائل. يُنظر: أنيس الفقهاء (ص: 309)؛ القاموس المبين في اصطلاحات الأصوليين (ص: 229).
(5)
الشهادة: إخبار عن عيان بلفظ الشهادة في مجلس القاضي بحق للغير على آخر. يُنظر: التعريفات (ص: 170)؛ أنيس الفقهاء (ص: 235). وقيل: إنها مشتقة من المشاهدة التي تنبئ عن المعاينة. وقيل: هي مشتقة من الشهود بمعنى الحضور؛ لأن الشاهد يحضر مجلس القضاء للأداء. يُنظر: أنيس الفقهاء (ص: 235).
(6)
نهاية السول (2/ 690).