الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال الطوفي في استدراكه على الأشاعرة في مسألة (كلام الله) عند حديثه عن الأصول: "ثم العجب من هؤلاء القوم -مع أنهم فضلاء عقلاء- يجيزون أن الله سبحانه وتعالى يخلق لمن يشاء من عباده علمًا ضروريًا وسمعًا لكلامه النفسي من غير توسط صوت ولا حرف، وإن ذلك من خاصية موسى عليه السلام، مع أن ذلك قلب لحقيقة السمع في الشاهد؛ إذ حقيقة السمع في الشاهد اتصال الأصوات بحاسته، ثم ينكرون علينا القول بأن الله سبحانه وتعالى يتكلم بصوت وحرف من فوق السماوات؛ لكون ذلك مخالفًا للشاهد، فإن جاز قلب حقيقة السمع شاهدًا بالنسبة إلى كلامه؛ فلم لا يجوز خلاف الشاهد بالنسبة إلى استوائه وكلامه على ما قلناه؟ ! "(1).
•
سابعًا: التماس العذر للمستدرَك عليه
.
وهذا الأدب تكملة للأدب السابق، فمن الاعتراف لفضل العالم: أن يلتمس له عذرًا إذا استدرك عليه.
فهذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ذُكرَ لها أنَّ عبْدَاللهِ بن عُمرَ يقول: إنَّ الْمَيّتَ ليُعَذَّبُ ببُكَاءِ الْحيِّ. فقالت عَائشَةُ: يَغْفرُ الله لأَبِي عبدالرحمن، أمَا إنه لم يَكْذبْ؛ وَلَكنَّهُ نَسيَ أو أخْطَأَ، إنما مرَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم على يَهُوديَّةٍ يُبْكى عليها فقال:«إنَّهُمْ ليَبْكُونَ عليها وَإنَّهَا لتُعَذَّبُ في قَبْرهَا» .
ويمثل لهذا من كتب الأصول بالأمثلة التالية:
• المثال الأول:
قال السمعاني في فصل المحكم والمتشابه: "وأحسن الأقاويل: أن المتشابه: ما استأثر الله تعالى بعلمه، ولم يطلع عليه أحدًا من خلقه، وكلفهم الإيمان به. والمحكم: ما أطلع العلماء عليه، وأوقفهم على المراد به.
(1) يُنظر: شرح مختصر الروضة (2/ 15 - 16).
وهذا هو المختار على طريقة السنة، وعليه يدل ما ورد من الأخبار، وما عرف من اعتقاد السلف.
فعلى هذا يكون على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وقفٌ تام، ثم يبتداء قوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} .
وعلى هذا الوقف أكثر القراء (1)، وجعلوا (الواو) واو الابتداء، ولم يقل: إنَّ (الواو) في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} واو العطف إلا شرذمة قليلة من الناس (2)، واختاره القتيبي (3) من المتأخرين، وقد كان يعتقد مذهب السنة، وعليه يدل كلامه فى كتبه؛ لكنه سها فى هذه المسألة، ولكل جواد كبوة، ولكل صارم هفوة" (4).
• المثال الثاني:
قال البيضاوي: "الفصل الثالث: في أحكامه. وفيه مسائل: الأولى: في الواجب المعين والمخير
…
" (5).
(1) وهو قول ابن عباس وعائشة وابن مسعود وغيرهم، ومذهب أبي حنيفة وأكثر أهل الحديث، وبه قال نافع والكسائي ويعقوب والفراء والأخفش وأبو حاتم وغيرهم من أئمة العربية. يُنظر: النشر في القراءات العشر (1/ 227).
(2)
وهو اختيار ابن الحاجب. يُنظر: المرجع السابق.
(3)
هو: أبو محمد، عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، النحوي اللغوي، ثقة دين فاضل، ولد ببغداد وسكن الكوفة، ثم ولي قضاء الدينور فنسب إليها. له مصنفات كثيرة؛ منها:"تأويل مشكل القرآن"، و" غريب الحديث"، و" إصلاح الغلط"، (ت: 276 هـ).
تُنظر ترجمته في: وفيات الأعيان (3/ 42 - 43)؛ بغية الوعاة (2/ 63)؛ الأعلام (4/ 137).
(4)
يُنظر: قواطع الأدلة (2/ 74 - 75).
(5)
يُنظر: منهاج الوصول - مطبوع مع الإبهاج - (2/ 227).
قال التقي السبكي في شرحه: "قوله: (في أحكامه) يعني: في أحكام الحكم، وذكر في هذا الفصل سبع مسائل، والإمام ذكرها بعينها في باب الأوامر في القسم الثاني منه في المسائل المعنوية، وجعل المسائل الثلاث الأولى في أقسام الوجوب (1)؛ لأنه بحسب المأمور به ينقسم إلى معيَّن ومخيَّر، وبحسب وقت المأمور ينقسم إلى مضيَّق وموسَّع، وبحسب المأمور ينقسم إلى واجب على التعيين وواجب على الكفاية.
وجعل المسائل الأربع الأخيرة في أحكام الوجوب (2).
ولو فعل المصنف كذلك كان أحسن، وكأن عذره في ذلك: أنَّ المخيَّر والموسَّع وفرض الكفاية مما وقع الكلام فيه، وفي تحقيق عروض ذلك للواجب، فَحَسُن البحث في أن الوجوب هل يَعْرِض له ذلك أو لا؟ وهو حكم له.
وبعد ثبوت هذا الحكم تصير الثلاثة المذكورة أقسامًا للوجوب الذي هو قسم من أقسام الحكم، فصح كل من الاعتبارين" (3).
• المثال الثالث:
قال البيضاوي في مسألة (حكم الأشياء قبل ورود الشرع): "
…
الأفعال الاختيارية قبل البعثة مباحة عند البصرية وبعض الفقهاء، محرمة عند البغدادية (4) وبعض الإمامية وأبي هريرة، وتوقف الشيخ (5) والصيرفي، وفسره الإمام بعد الحكم، والأولى يفسره بعد العلم؛ لأن الحكم قديم عنده، ولا يتوقف تَعَلُّقه على
(1) يُنظر: المحصول (2/ 159).
(2)
يقصد بالمسائل الأربعة الأخيرة: مسألة: إيجاب الشيء يقتضي إيجاب ما يتوقف عليه، ومسألة: إيجاب الشيء يستلزم حرمة نقيضه، ومسألة: إذا نسخ الوجوب بقي الجواز، ومسألة: الواجب لا يجوز تركه. يُنظر: المرجع السابق (2/ 189 - 214).
(3)
يُنظر: الإبهاج (2/ 228 - 229).
(4)
قال ابن السبكي في شرحه: "وذهب معتزلة بغداد". يُنظر: الإبهاج (2/ 381). ويُنظر: المعتمد (2/ 315).
(5)
أي: الشيخ أبو الحسن الأشعري. يُنظر: الإبهاج (2/ 382).
البعثة؛ لتجويزه التكليف بالمحال" (1).
قال ابن السبكي في شرحه: "بقي مما ننبه عليه هنا: أن ما نقله المصنف عن الإمام ليس بجيد؛ فإنه حكى في المحصول (2) قول الوقف، ثم قال: هذا الوقف تارة يُفسَّر بأنه لا حكم، وهذا لا يكون وقفًا؛ بل قطع بعدم الحكم.
وتارة بأنا لا ندري هل هنا حكم أم لا؟ وإن كان هناك حكم فلا ندري أنه إباحة أو حظر. انتهى.
فليس فيه اختيار ما نقله المصنف عنه. (3)
فإن قلت: ما عذر المصنف في ذلك؟
قلت: الظاهر أنه اتبع صاحب الحاصل؛ حيث قال فيه: (التوقف مرة يفسر بأنا لا ندري الحكم، ومرة بعدم الحكم، وهو الحق)(4). وظَنَّ أن صاحب الحاصل اتبع الإمام على عادته، فنسب اختيار هذا القول إلى الإمام.
ويحتمل أن المصنف وقف للإمام على اختيار ذلك في كلام له في غير هذا الموضع، أو أنه أراد بالإمام إمام الحرمين؛ فإنه اختار ذلك في البرهان (5) حيث قال:(لا حكم على العقلاء قبل ورود الشرع) وهما احتمالان بعيدان" (6).
(1) منهاج الوصول (2/ 379).
(2)
(1/ 159).
(3)
لأن البيضاوي نقل عن الإمام أنه يفسر الوقف بعدم الحكم، مع أن الإمام لم يذكر هذا؛ وإنما ذكر تفسيرين للوقف ذكرهما ابن السبكي.
(4)
يُنظر: الحاصل (2/ 58).
(5)
(1/ 99).
(6)
يُنظر: الإبهاج (2/ 385 - 386).
• المثال الرابع:
قال ابن الحاجب في مسألة (العمل بالإجماع بنقل الواحد): "يجب العمل بالإجماع المنقول بنقل الواحد، وأنكره الغزالي (1).
لنا: نقل الظني موجب؛ فالقطعي أولى (2)، وأيضًا «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ» (3).
قالوا: إثبات أصل بالظاهر (4). قلنا: المُتَمَسَّكُ الأول قاطع (5)، والثاني يُبتنى
(1) يُنظر: المستصفى (2/ 402).
(2)
وهذا قياس الأولى، وبيانه: أن الظني كالخبر إذا كان منقولاً بطريق الآحاد كان حجة يجب العمل به، فالقطعي المنقول بطريق الآحاد كالإجماع أولى بأن يكون حجة يجب العمل به؛ وذلك لأن الظني المنقول بطريق الآحاد الظن فيه من جهتين: جنسه، وطريق نقله. أما القطعي المنقول بطريق الآحاد؛ فالظن فيه من جهة واحدة؛ وهي طريق نقله، أما جنسه فمقطوع به. يُنظر: بيان المختصر (1/ 614)؛ رفع الحاجب (2/ 263).
(3)
قال ابن كثير: "هذا الحديث كثيرًا ما يلهج به أهل الأصول، ولم أقف له على سند، وسألت عنه الحافظ أبا الحجاج المزي فلم يعرفه؛ لكن له معنى في الصحيح؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أقضي بنحو ما أسمع» ". يُنظر: تحفة الطالب (ص: 174)؛ ويُنظر كذلك: المعتبر (ص: 145). وقال السخاوي: "وفي المتفق عليه من حديث أم سلمة: «إنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئًا» قال ابن كثير: "إنه يؤخذ معناه منه، وقد ترجم له النسائي في سننه (باب الحكم بالظاهر)، وقال إمامنا ناصر السنة أبو عبدالله الشافعي رحمه الله عقب إيراده في كتاب الأم: فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه إنما يقضي بالظاهر وأن أمر السرائر إلى الله. والظاهر كما قال شيخنا رحمه الله: أن بعض من لا يميز ظن هذا حديثًا آخر منفصلاً عن حديث أم سلمة فنقله كذلك، ثم قلده من بعده؛ ولأجل هذا يوجد في كتب كثير من أصحاب الشافعي دون غيرهم". يُنظر: المقاصد الحسنة (ص: 162). ويُنظر: سنن النسائي الكبرى، ك: القضاء، ب: الحكم بالظاهر، (3/ 472/ح: 5956). ويُنظر حديث أم سلمة في: صحيح البخاري، ك: الشهادات، ب: من أقام البينة بعد اليمين
…
، . (2/ 952/ح: 2534)؛ صحيح مسلم، ك: الأقضية، ب: الحكم بالظَّاهر واللَّحْنِ بالْحُجَّةِ، (3/ 1337/ح: 1713).
(4)
أي: قال المنكرون لحجية الإجماع الثابت بنقل الواحد: إن الإجماع أصل من أصول الفقه، فلو ثبت بالدليلين المذكورين - قياس الأولى والحديث - لزم إثبات الأصل بالظاهر، واللازم باطل، فبطل الملزوم. يُنظر: بيان المختصر (1/ 615)؛ رفع الحاجب (2/ 265).
(5)
يقصد به دليل القياس الذي استدل به؛ لأنه قياس بطريق الأولى، فلا يكون إثبات الإجماع المنقول بنقل الواحد بدليل قياس الأولى إثباتًا للأصل بالظاهر، وحينئذ تكون الملازمة ممنوعة. يُنظر: بيان المختصر (1/ 615)؛ رفع الحاجب (2/ 265).
على اشتراط القطع (1)، والمُعترِضُ مُستَظهِرٌ من الجانبين" (2).
قال ابن السبكي في شرحه: "ثم ذكر الآمدي عبارة ناشئة عن عدم اختياره في المسألة شيئًا فقال: (والظهور في هذه المسألة للمعترض من الجانبين دون المستدل فيها)(3).
أي: من انتهض مستدلًّا فيها لنفي أو إثبات ظهر عليه المعترض؛ وذلك لتجاذب أطرافها.
وقد نَبَا القلم بالمصنف (4) فتبعه، وقال:"والمعترض مستظهر من الجانبين" فيمنع دليل المثبت ويقول: لا أسلم أن كل دليل ظني يجب العمل به، ودليل النافي ويقول: لا أسلم امتناع إثبات الأصول العملية بالظواهر ونحو ذلك من المسوغ. وهذا لا ينبغي للمصنف؛ فإنه اختار أحد القولين (5)، فكيف يعترف باستظهار المعترض؟ " (6).
(1) المراد بالثاني: أي الدليل الثاني للقائلين بحجية الإجماع المنقول بنقل الواحد؛ وهو الحديث: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ» ، فمن اشترط القطع في الأصول الشرعية؛ منع إثبات الأصل بالظاهر، وبالتالي منع إثبات الإجماع بالحديث المذكور، ومن لم يشترط القطع في أدلة الأصول؛ لم يمنع ثبوت الإجماع المنقول بنقل الواحد بهذا الحديث. يُنظر: بيان المختصر (1/ 616).
(2)
يُنظر: مختصر ابن الحاجب (1/ 502 - 504). ويُنظر: نسخة المختصر مع رفع الحاجب (2/ 262 - 266).
(3)
يُنظر: الإحكام للآمدي (1/ 368).
(4)
أي: ابن الحاجب.
(5)
حيث اختار القول المثبت فقال بحجية الإجماع المنعقد بخبر الواحد.
(6)
يُنظر: رفع الحاجب (2/ 266).