الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المطلب السابع: الاستدراك الأصولي
على التمثيل، وتطبيقاته
• المثال الأول:
قال الجويني في مسألة (تعقب الاستثناء جملاً معطوفة بعضها على بعض): "وذكر الأصوليون آية القذف مثالاً مفروضًا لإيضاح المذهبين، وترجيح أحدهما على الثاني، وهو قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إلى قوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4 - 5].
رأى الشافعي صرف (إلا) في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} إلى ما أمكن من الجمل المتقدمة، ومنها قوله تعالى:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} .
وخصص أبو حنيفة معنى هذا الاستثناء بنبذ الفسق والتسمية به، فالقذفة فسقة إلا من تاب، فيسقط عنه بظهور التوبة اسم (الفسق)(1) " (2).
ثم قال بعد أن ذكر اختياره في المسألة: "وأما آية القذف فإنها خارجة عن القسمين جميعًا على ما سنوضحه الآن قائلين: قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} حكم في جملة، وقوله تعالى:{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في حكم التعليل لحكم الجملة المتقدمة؛ فإن الشهادة في أمثال هذه المحال بالفسق ترد، فإذا تاب رفعت التوبة علة الرد، وانعطف أثرها على الرد لا محالة، فكأنه تعالى قال:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} لأنهم فاسقون إلا الذين تابوا
…
" (3).
(1) يُنظر: التوضيح شرح التنقيح للمحبوبي (1/ 70 - 72)؛ المنار للنسفي وشرحه فتح الغفار (ص: 332 - 333)؛ تيسير التحرير (1/ 302)؛ مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (1/ 332).
(2)
البرهان (1/ 389 - 390).
(3)
المرجع السابق (1/ 394).
• بيان الاستدراك:
استدرك الإمام الجويني على من سبقه من الأصوليين جعل آية القذف مثالاً لمسألة (تعقب الاستثناء جملاً معطوفة بعضها على بعض)، فالآية خارجة عن محل النزاع.
وتوضيح ذلك: أن الإمام الجويني فرق بين المفردات والجمل، فإذا ورد الاستثناء بعد المفردات فإنه يعود على الجميع، وأما الجمل ففرق بين كون معاني الجملة متفقة أو مختلفة، فإذا كانت المعاني في الجملة متفقة عاد الاستثناء على الجميع، وأما إذا كانت المعاني في الجملة مختلفة اختص الاستثناء بالجملة الأخيرة.
وبهذا التقسيم يتضح أن آية القذف خارجة عن القسمين (1) جميعًا؛ وذلك لأن قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ليس حكمًا في الجملة، بل هو تعليل لحكم الجملة:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} .
• المثال الثاني:
قال الصفي الهندي في مسألة (تخصيص العموم بمذهب الراوي الصحابي): "مثاله: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال: «مَنْ بدَّلَ دِينهُ فَاقتُلُوهُ» (2)، فهذا عام في الرجال والنساء؛ لكن مذهبه أن المرتدة لا تقتل (3)،
(1) القسم الأول: الجمل المتفق معانيها. القسم الثاني: الجمل المختلف معانيها.
(2)
يُنظر: صحيح البخاري، ك: الجهاد والسير، ب: لا يُعَذَّب بعذاب الله، (3/ 1098/ح: 2854). وأخرجه أيضًا في ك: استتابة المرتدين، ب: حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، (6/ 2537/ح: 6524).
(3)
أي مذهب ابن عباس أن المرتدة لا تقتل، وروي في ذلك أثر من طريق أبي حنيفة عن عاصم بن أبي رزين عن ابن عباس قال:(النساء لا يقتلن إذا هن ارتددن عن الإسلام؛ لكن يحبسن، ويدعين إلى الإسلام، ويجبرن عليه). يُنظر: مصنف عبدالرزاق، ك: اللقطة، ب: كفر المرأة بعد الإسلام، (10/ 117)؛ مصنف ابن أبي شيبة، ك: الحدود، ب: في المرتدة ما يصنع بها، (5/ 563/ح: 28994)، ك: السير، ب: ما قالوا في المرتدة عن الإسلام؛ (6/ 442/ح: 32773)، سنن الدارقطني، ك: الحدود والديات، (3/ 118 - 119)؛ سنن البيهقي الكبرى، ك: المرتد، ب: قتل من ارتد عن الإسلام إذا ثبت عليه رجلاً كان أو امرأة، (8/ 203/ح: 16648)، وقال:"والذي روى هذا ليس ممن يثبت أهل الحديث حديثه". وقال الزيلعي: "أسند الدارقطني عن يحيى بن معين قال: كان الثوري يعيب على أبي حنيفة حديثًا كان يرويه ولم يروه غير أبي حنيفة عن عاصم بن أبي رزين". نصب الراية (3/ 458). وقال ابن حجر: "ما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس رفعه: (لا تقتلوا المرأة إذا ارتدت)، قال الدارقطني: "لا يصح؛ وفيه عبدالله بن عيسى وهو كذاب". وذكر ابن حجر الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما في عدم قتل المرتدة، وذكر أنها لا تثبت. يُنظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2/ 136).
فهل يخصص عمومه بمذهبه أو لا؟ .
فعندنا: لا؛ ولهذا تقتل المرتدة (1). وعندهم: نعم؛ ولهذا لا يقتلونها (2).
وقد أورد الإمام (3) رحمه الله لهذا مثالاً: خبر أبي هريرة؛ فإنه روى عنه عليه السلام أنه قال: «إذا ولَغَ الْكلْبُ في إناءِ أحَدِكُمْ فلْيَغْسِلْهُ سبْعَ مرَّاتٍ إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» (4).
ثم إن مذهبه الاكتفاء بالثلاث (5)، فهل يجوز تخصيصه به؛ حتى يجوز الاقتصار
(1) يُنظر: الأم (6/ 180)؛ الإقناع للشربيني (2/ 551)؛ المجموع (18/ 10).
(2)
أي عند الحنفية، حيث ذهبوا إلى أن المرتدة لا تقتل؛ وإنما تحبس، وتطالب بالرجوع إلى الإسلام، وتجبر عليه، وإن لحقت بدار الحرب سبيت واسترقت. يُنظر: المبسوط (10/ 108)؛ البحر الرائق (5/ 139)؛ الفتاوى الهندية (2/ 254).
وقول الحنفية هذا مبني على قولهم في الأصول: إذا عمل الراوي بخلاف ما روى؛ إن كان بعد الرواية فهذا جرح في الرواية ويبطل الاحتجاج بها، وإن كان قبل الرواية لا يجرح فيها، وكذلك إذا لم يعلم التاريخ، وأما إن عمل ببعض محتملاته؛ فإنه رد منه للباقي بطريق التأويل لا يجرح في الرواية، ولا يكون حجة على غيره؛ كما لا يكون اجتهاده حجة على غيره. يُنظر المسألة في: كشف الأسرار للبخاري (3/ 132 - 137)؛ التوضيح بشرح التنقيح للمحبوبي (1/ 33 - 37)؛ تيسير التحرير (3/ 72)؛ فواتح الرحموت (1/ 355).
(3)
أي الرازي في المحصول (3/ 127).
(4)
يُنظر: صحيح البخاري، ك: الوضوء، ب: باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، (1/ 75/ح: 170) مسلم، ك: الطهارة، ب: حكم ولوغ الكلب، (1/ 234/ح: 279).
(5)
أي مذهب أبي هريرة رضي الله عنه، والأثر المروي عنه من طريقين: الأول: عن عبدالوهاب بن الضحاك عن إسماعيل بن عياش عن هشام بن عروة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ الإناء «أنه يغسله ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا» ، وأخرجه من هذا الطريق الدارقطني وقال:"تفرد به عبدالوهاب عن إسماعيل وهو متروك الحديث، وغيره يرويه عن إسماعيل بهذا الإسناد (فاغسلوه سبعًا) وهو الصواب". يُنظر: سنن الدارقطني، ك: الطهارة، ب: ولوغ الكلب في الإناء، (1/ 65).
والطريق الثاني: عن عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة قال: "إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه، ثم اغسله ثلاث مرات". يُنظر: سنن الدارقطني، ك: الطهارة، ب: ولوغ الكلب في الإناء، (1/ 66). قال ابن الجوزي: "هذا الحديث لا يصح
…
وأصل هذا الحديث أنه موقوف". يُنظر: العلل المتناهية (1/ 333)؛ ويُنظر: نصب الراية (1/ 131 - 132).
على الثلاث؟ فعلى الخلاف السابق.
وفي هذا المثال نظر؛ لأن أسماء الأعداد نصوص في مسمياتها، والنص لا يقبل التخصيص؛ إذ لا يجوز إطلاق العشرة وإرادة الخمسة منها، وإنما يقبل الاستثناء وما يجري مجراه، فلا يكون المثال مطابقًا.
نعم قد يحسن إيراد ذلك مثالاً إذا صدرت المسألة هكذا: الراوي الصحابي إذا خالف الحديث، وفعل ما يضاده؛ فالتعويل على الحديث أو على فعله؟ فعلى الخلاف نحو خبر أبي هريرة" (1). (2)
• المثال الثالث:
بنى البيضاوي الخلاف في (عدم التأثير) واعتباره قادحًا أو لا، على أن الحكم الواحد بالشخص هل يجوز تعليله بعلتين مستقلتين؟ وذكر مثالاً على ذلك فقال:
(1) نهاية الوصول (5/ 1732 - 1736).
(2)
وقد نقل استدراكه على مثال الإمام كلٌّ من الإسنوي، وابن السبكي. يُنظر على الترتيب المذكور: نهاية السول (1/ 543)؛ الإبهاج (4/ 1528 - 1531). وقد استدرك ابن السبكي على مثال صفي الدين، وصحح مثال الإمام، وذكر أن الفساد إنما هو في تقرير المثال.
"وذلك جائز في المنصوصة؛ كالإِيْلَاءِ (1)، واللِّعَانِ (2) والقتل، والردة
…
" (3).
فاستدرك عليه ابن السبكي في مثاله فقال: "وقوله: (وذلك) هذا دليل على التفصيل الذي اختاره، وتقريره: أنَّه قد وقع تعليل الواحد بالشخص بعلتين منصوصتين، فدل على جوازه، ودليل وقوعه اللعان والإيلاء؛ فإنهما علتان مستقلتان في تحريم وطء المرأة.
ولك أن تقول: الإيلاء لا تحرم به الزوجة، فلا يصح التمثيل به.
ولا يمكن أن يبدل الإيلاء بالظِّهار (4)؛
لأن الظهار وإن كان محرمًا إلا أنَّه لا
(1) الإيلاء لغة: الحلف والقسم، من آلى: أي أقسم. يُنظر: المصباح المنير (1/ 20)؛ القاموس المحيط (ص: 1260) مادة: (ألي).
وفي الاصطلاح: الحلف على ترك وطء الزَّوجة مُدَّةً مَخصُوصَةً. يُنظر: التَّعريفات (ص: 59)؛ أنيس الفقهاء (ص: 161).
ويُنظر من كتب الفقه: روضة الطالبين (8/ 228)؛ الاختيار تعليل المختار (3/ 167)؛ القوانين الفقهية (ص: 159)؛ منتهى الإرادات مع شرحه (5/ 521).
(2)
اللِّعان لغة: من اللعن؛ وهو الطَّرد والإبعاد. يُنظر: لسان العرب (13/ 208)؛ المصباح المنير (2/ 554) مادة: (لعن).
وفي الشَّرع: عبارة عما يجري بين الزَّوجين من أربع شهادات. وركنه: الشَّهادات الصَّادرة منهما. وشرطه: قيام الزَّوجية. وسببه: قذف الرَّجل امرأته قذفًا يوجب الحد في الأجنبي. يُنظر: أنيس الفقهاء (ص: 163). ويُنظر من كتب الفقه: التلقين (ص: 341)؛ تبيين الحقائق (2/ 261)؛ الإنصاف في معرفة الخلاف (9/ 235)؛ مغني المحتاج (3/ 481).
(3)
يُنظر: المنهاج - مطبوع مع الإبهاج - (6/ 2472).
(4)
وهذا ذكره الإسنوي في تصحيح مثال البيضاوي، يُنظر: نهاية السول (2/ 893).
الظهار لغة: مقابلة الظهر بالظهر، يقال: تظاهر القوم إذا تدابروا، كأنه ولَّى كلُّ واحد منهم ظهره إلى صاحبه إذا كان بينهم عداوة. يُنظر: الصحاح (ص: 661)؛ لسان العرب (9/ 199) مادة: (ظهر).
وشرعًا: قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، مأخوذ من الظهر. يُنظر: طلبة الطلبة (ص: 105)؛ أنيس الفقهاء (ص: 162). ويُنظر من كتب الفقه: العناية على الهداية (4/ 245 - 246)؛ الإقناع للشربيني (2/ 455)؛ كشاف القناع (5/ 368)؛ الفواكه الدواني (2/ 47).
يمكن اجتماعه مع اللعان؛ إذ اللعان يقطع الزوجية، فلا تجتمع علتان على معلول واحد، فينبغي التمسك بالطلاق الرجعي مع الظهار؛ فإنهما علتان في تحريم الوطء، وقد يجتمعان في المرأة، فتكون رجعية ومظاهرًا منها" (1).
(1) الإبهاج (6/ 2475 - 2476).