الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المبحث الرابع
استمداد الاستدراك الأصولي
أولى العلماء عنايتهم ببيان العلوم التي يستمد منها كل علم؛ وذلك لصحة إسناده عند روم تحقيقه إليه. (1)
والعلوم التي يستمد منها "الاستدراك الأصولي" بحسب النظر في طبيعته واستقراء ما تيسر الوقوف عليه علوم شتى؛ وهي: علم الكلام، واللغة العربية، وأصول الفقه، والأحكام الشرعية، وعلوم القرآن، وعلوم الحديث، وعلم الجدل، وعلم المنطق.
*
أولاً: استمداده من علم الكلام
(2).
ويمكن إبرازه من جهتين:
الجهة الأولى: أن علم أصول الفقه مادة الاستدراك الأصولي، وقد أُقحم فيه مسائل من علم الكلام غَصَّتْ بها الكتب الأصولية وشَرِقَتْ؛ ومن أمثال هذه المسائل: مسألة الحاكم، والتحسين والتقبيح العقليين، وشكر المنعم، وحكم الأفعال قبل ورود الشرع، والتكليف بما لا يطاق، وتكليف المعدوم، والمجتهد يخطئ ويصيب،
(1) الإحكام للآمدي (1/ 19).
(2)
علم الكلام: علمٌ يتضمن الحِجَاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف والسنة. مقدمة ابن خلدون (ص: 458). وقريب منه في مفتاح السعادة (2/ 132). وفي حقيقة الأمر أن مصطلح (علم الكلام) يطلق على معنين:
الأول: استمداد العقائد من طرائق اليونان ومن وافقهم؛ وهذا مذموم.
الثاني: اطلاقه على علوم العقائد بالإجمال، وبالتالي يشمل العقيدة المستمدة من الكتاب والسنة، وهذا ممدوح.
وشرط الإرادة في الأمر، ونحو ذلك (1).
الجهة الثانية: لا يخفى عليك أن كثيرًا من الذين كتبوا في علم أصول الفقه كانت لهم مصنفات في علم الكلام؛ كالباقلاني (2) له في أصول الفقه كتاب "التقريب والإرشاد"، وله في علم الكلام "الانتصار"(3) وغيره. والجويني له في الأصول "البرهان"، و"التلخيص"، و"الورقات"، وله في علم الكلام "الشامل"(4)، و"الإرشاد"(5)، و"لمع الأدلة"(6)، و"العقيدة النظامية"(7).
(1) وينصح في هذا المجال بالاطلاع على كتاب المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين للدكتور محمد العروسي، ومسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه عرض ونقد على ضوء الكتاب والسنة للدكتور خالد عبداللطيف محمد نور.
(2)
هو: أبو بكر، محمد بن الطيب بن محمد الباقلاني، من كبار المتكلمين، يلقب بـ (القاضي) و (شيخ السنة) و (لسان الأمة)، أصولي فقيه، من أتباع أبي الحسن الأشعري في المرحلة الثانية، شيخ الأشاعرة في زمانه، ووقد اختلفوا في مذهبه في الفروع؛ فقيل: شافعي، وقيل: مالكي. كان في غاية الذكاء والفطنة. من أبرز تلاميذه: إمام الحرمين الجويني. من مصنفاته: "التقريب والإرشاد"، " إعجاز القرآن"، " مناقب الأئمة"، (ت: 403 هـ) في بغداد.
تُنظر ترجمته في: تاريخ بغداد (5/ 379)؛ البداية والنهاية (11/ 350)؛ الدبياج المذهب (2/ 211)
(3)
لم يضف حاجي خليفة وإسماعيل باشا معلومة زائدة عن اسم الكتاب والمصنف. يُنظر: كشف الظنون (1/ 173)؛ هدية العارفين (6/ 59).
(4)
الشامل في أصول الدين: خمس مجلدات لإمام الحرمين عبدالملك بن عبدالله الجويني، (ت: 478 هـ). يُنظر: كشف الظنون (2/ 1024)؛ هدية العارفين (5/ 626).
(5)
الإرشاد في علم الكلام: للإمام أبي المعالي عبدالملك بن عبدالله الجويني، الشهير بإمام الحرمين، (ت: 478 هـ). شرحه تلميذه أبو القاسم سلمان بن سليمان بن ناصر الأنصاري، (ت: 512 هـ). يُنظر: كشف الظنون (1/ 68)؛ هدية العارفين (5/ 626).
(6)
لمع الأدلة: للإمام عبدالملك بن عبدالله الجويني، المعروف بإمام الحرمين، (ت: 478 هـ)، أوله:(الحمد لله القادر العليم الفاطر الحكيم) إلخ، وهو مختصر على فصول. يُنظر: كشف الظنون (2/ 1561).
(7)
لم يضف حاجي خليفة وإسماعيل باشا معلومة زائدة عن اسم الكتاب والمصنف. يُنظر: كشف الظنون (2/ 1159)؛ هدية العارفين (5/ 626).
والبزدوي (1) له مصنف في أصول الفقه (2)، وفي أصول الدين (3). والغزالي له في الأصول "المستصفى"، و"المنخول"، وله في علم الكلام "الاقتصاد"(4) وغيره. والرازي له في أصول الفقه "المحصول"، و"المعالم"، وله في علم الكلام "نهاية العقول في دراية الأصول"(5)، و"المطالب العالية"(6) وغيرها. والآمدي له في أصول الفقه "الإحكام في أصول الأحكام"، وله في علم الكلام "أبكار
(1) هو: أبو الحسن، علي بن محمد بن الحسين بن عبدالكريم البزدوي، فخر الإسلام، أبو العسر، من كبار فقهاء وأصوليي الحنفية. من مصنفاته:"تفسير القرآن"، و" شرح الجامع الصغير"، و" كنز الوصول"، (ت: 482 هـ).
تُنظر ترجمته في: الجواهر المضيئة (2/ 997)؛ تاج التراجم (ص: 205 - 206)؛ الفوائد البهية (ص: 24).
(2)
واسمه " كنز الوصول إلى معرفة الأصول " الشهير بـ" أصول البزدوي"، وهو كتاب عظيم، وعليه شروح كثيرة؛ من أشهرها:"كشف الأسرار لعبدالعزيز البخاري". يُنظر: كشف الظنون (1/ 112)؛ إيضاح المكنون (4/ 388)؛ معجم المؤلفين (7/ 192)؛ تاريخ الأدب العربي (6/ 660 - 661).
(3)
واسمه " الميسَّرُ في الكلام " ذكره بروكلمان في تاريخ الأدب العربي (6/ 662)، وذكر وجود نسخة منه في جامعة الملك سعود بالرياض (2578)، وفي مكتبة ولي الدين بإستانبول برقم (1454)، وفي رأمبور أول (323 رقم: 312).
(4)
الاقتصاد في الاعتقاد: للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، (ت: 505 هـ). يُنظر: كشف الظنون (1/ 135).
(5)
نهاية العقول في دراية الأصول- يعنى أصول الدين-: للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي، (ت: 606 هـ)، رتبه على عشرين أصلاً، وأول الكتاب:"أما بعد حمدًا لله على تسابق آلائه، وتلاحق نعمائه " إلخ. يُنظر: كشف الظنون (2/ 1988).
والكتاب مخطوط، له نسخ خطية في خزانات كثيرة؛ منها دار الكتب المصرية برقم (748) علم الكلام.
(6)
المطالب العالية (في الكلام): للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي، (ت: 606)، وشرحه: عبدالرحمن المعروف بحلبي زادة. يُنظر: كشف الظنون (2/ 1714).
الأفكار (1)"، و"غاية المرام" (2). والبيضاوي له في أصول الفقه "منهاج الوصول إلى علم الأصول"، وله في علم الكلام "طوالع الأنوار" (3) وغيره. والإيجي (4) له في أصول الفقه "شرح مختصر ابن الحاجب"، وله في علم الكلام "المواقف" (5) وغيره. والتفتازاني (6) له في أصول الفقه "التلويح إلى كشف حقائق التنقيح"، و"حاشية
(1) رتبه على ثمان قواعد متضمنة جميع مسائل الأصول؛ وهي:
1 -
العلم، 2 - النظر، 3 - الموصل إلى المطلوب، 4 - انقسام المعلوم، 5 - النبوات، 6 - المعاد، 7 - الأسماء، 8 - الإمامة. ثم اختصره في رموز الكنوز. يُنظر: كشف الظنون (1/ 4).
(2)
غاية المرام في علم الكلام، للإمام سيف الدين الآمدي، (ت: 631)، أوله:"الحمد لله الذي زلزل بما أظهر من صنعته " إلخ، ورتبه على ثمانية قوانين. يُنظر: كشف الظنون (2/ 1193).
(3)
طوالع الأنوار (مختصر في الكلام): للقاضي عبدالله بن عمر البيضاوي، (ت: 685)، أوله:"الحمد لمن وجب وجوده "إلخ، وهو متن متين، اعتنى العلماء في شأنه، فصنف عليه أبو الثناء شمس الدين محمود بن عبدالرحمن الأصفهانى (ت: 749 هـ)، شرحًا نافعًا. يُنظر: كشف الظنون (2/ 1116).
(4)
هو: أبو الفضل، عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالغفار الإيجي - نسبة إلى إيج بفارس-، عضد الدولة، قاضي قضاة الشرق، وشيخ العلماء بتلك البلاد، عالم بالأصول والمعاني والعربية، إمام في علوم متعددة، محقق مدقق، وكان صاحب ثروة وجود وإكرام للوافدين وطلبة العلم، ذا تصانيف مشهورة منها؛ " شرح المختصر لابن الحاجب"، و" المواقف"، و" الجواهر" وكلاهما في الكلام، (ت: 756 هـ) في السجن.
تُنظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى (10/ 46)؛ طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (3/ 27)؛ بغية الوعاة (2/ 75).
(5)
المواقف في علم الكلام: للعلامة عضد الدين عبدالرحمن بن أحمد الإيجي، القاضي، (ت: 756 هـ)، ألفه لغياث الدين وزير خدابنده، وهو كتاب جليل القدر، رفيع الشأن، اعتنى به الفضلاء، فشرحه عدد؛ منهم: السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني، (ت: 816 هـ). يُنظر: كشف الظنون (2/ 1891).
(6)
هو: مسعود بن عمر بن عبدالله التفتازاني، سعد الدين، العلامة الشافعي، برع في الأصول، والتفسير، والنحو، والأدب، وعلم الكلام، والمنطق. له مصنفات مشهورة منها؛ " التلويح في كشف حقائق التنقيح " في أصول الفقه، "تهذيب المنطق"، "مقاصد الطالبين"، (ت: 791 هـ)، وقيل:(793 هـ) بسمرقند.
تُنظر ترجمته في: شذرات الذهب (6/ 319)؛ الدرر الكامنة (6/ 112)؛ الفتح المبين للمراغي (2/ 206).
على شرح العضد الإيجي"، وله في علم الكلام "المقاصد" (1) وغيره. والأمثلة كثيرة، وفيما ذكر كفاية (2)، "والفطام عن المألوف شديد" (3)؛ لذلك تجدهم يكثرون من العزو إلى كتبهم الكلامية أو إلى علم الكلام عمومًا أثناء بحث المسألة الأصولية (4)، فنشأت كثير من المصنفات الأصولية التي بين أيدينا في جحور المتكلمين، وبين أكنافهم، فصبغت بنزعات أشعرية (5) وماتردية (6) ومعتزلية (7)، فيدور النزاع بين هذه الفرق، وتكثر الاستدراكات، مما ألقى بظلاله على الصياغة الأصولية، فصيغت بحروفهم،
(1) المقاصد في علم الكلام: للعلامة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، (ت: 791 هـ)، أوله:"حمدًا لمن تفوح نفحات الإمكان " إلخ، رتبه على ستة مقاصد، وفرغ من تأليفه سنة (784 هـ)، وقد شرحها الفضلاء، وعليها حاشية لعلي القاري في مجلد. يُنظر: كشف الظنون (2/ 1780).
(2)
يُنظر: مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه (ص: 48 - 49).
(3)
مقولة الغزالي في المستصفى (1/ 28).
(4)
يُنظر مثلاً: الإمام الباقلاني في مختصر التقريب والإرشاد (1/ 246)؛ والجويني في البرهان (1/ 270)؛ والرازي في المحصول (3/ 228)(4/ 257، 279)(6/ 17، 93، 110)؛ والآمدي في الإحكام (1/ 25 - 26، 77).
(5)
الأشاعرة: فرقة نسبت إلى أبي الحسن الأشعري في مرحلته الثانية، ويُسمون " السبعية "؛ لأنهم يثبتون لله تعالى سبع صفات، ويؤولون ما عداها. ومن العجيب أن أبا الحسن رجع في الجملة عن هذا المذهب في حين بقي أتباعه عليه. يُنظر: الملل والنحل (1/ 74)؛ فرق معاصرة (3/ 1205).
(6)
الماتردية: فرقة تنسب إلى أبي منصور الماتريدي- نسبة إلى ما تريد من بلدان سمرقند -، نفت الماتريدية جميع الصفات الخبرية الثابتة بالكتاب والسنة، واكتفوا بثمان صفات، هي: الحياة، القدرة، العلم، الإرادة، السمع، البصر، الكلام، التكوين. يُنظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب (1/ 95)؛ فرق معاصرة (3/ 1227) ..
(7)
المعتزلة: فرقة ظهرت في أواخر العصر الأموي، جاءت في بدايتها بفكرتين مبتدعتين: الأولى: القول بأن الإنسان يخلق أفعاله بنفسه. الثانية: القول بأن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنًا ولا كافرًا؛ بل هو بمنزلة بين المنزلتين. وسبب تسميتهم بالمعتزلة: أن واصل بن عطاء اعتزل مجلس الحسن البصري، فقال الحسن: اعتزلنا واصل. يُنظر: الملل والنحل (1/ 431)؛ الفرق بين الفرق (ص: 93)؛ الموسوعة الميسرة في الأديان (1/ 64).
ونوقشت بحبرهم؛ حتى نُسب جزء من هذا العلم إليهم، فقيل: طريقة المتكلمين (1).
يقول الإمام الغزالي موضحًا سبب إقحام مواضيع من علم الكلام في علم الأصول: "وإنما أكثر فيه المتكلمون من الأصوليين؛ لغلبة الكلام على طبائعهم، فحملهم حُبُّ صناعتهم على خَلْطِه بهذه الصنعة"(2).
وأذكر لك من كلام الأصوليين ما يقرر وجود مسائل من علم الكلام:
قال الرازي في ختام مسألة (عصمة الأنبياء): "وقد سيقت هذه المسألة في علم الكلام ومن أراد الاستقصاء فعليه بكتابنا في عصمة الأنبياء (3)، والله أعلم"(4).
وذكر الآمدي في مسألة (حد الأمر): "وليقنع بهذا هاهنا عما استقصيناه من الوجوه الكثيرة في علم الكلام"(5).
(1) والأصوب أن يقال في هذه الطريقة: طريقة الجمهور؛ لأن ممن كتب على هذه الطريقة من يُنابذ علم الكلام؛ كالإمام السمعاني رحمه الله؛ بل وصف المتكلمين بالأجانب؛ إذ قال في مقدمة كتابه القواطع: "وما زلت طول أيامي أطالع تصانيف الأصحاب في هذا الباب وتصانيف غيرهم، فرأيت أكثرهم قد قنع بظاهر من الكلام، ورائق من العبارة، لم يداخل حقيقة الأصول على ما يوافق معاني الفقه، وقد رأيت بعضهم أوغل وحلل وداخل غير أنه حاد عن محجة الفقهاء في كثير من المسائل، وسلك طريق المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه؛ بل لا قبيل لهم فيه ولا دبير، ولا نقير ولا قطمير، .... " قواطع الأدلة (1/ 6). وفي هذا يقول الدكتور موسى القرني: "إن علم الكلام الذي يُنسب إليه المتكلمون علم مذموم عند السلف، وهو شعار لمن ترك الاستدلال بالكتاب والسنة، ومال إلى أقوال الفلاسفة وقواعد المنطقيين، فإطلاق هذه التسمية على من عدا الأحناف من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم إطلاق يحمل في لفظه ما يقتضي رفضه، ويدل معناه على ما يستوجب نقضه". مرتقى الوصول إلى تاريخ علم الأصول (ص: 37).
(2)
المستصفى (1/ 27).
(3)
قال حاجي خليفة: "عصمة الأنبياء لفخر الدين الرازي، أوله: الحمد لله المتعالي بجلال أحديته عن مسارح الخواطر إلخ، وهو مختصر مرتب على فصول". يُنظر: كشف الظنون (2/ 1141).
(4)
يُنظر: المحصول (3/ 228).
(5)
يُنظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (2/ 171). وكثير ما يُحيل إلى كتابه " أبكار الأفكار".