الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
ثانيًا: استدراك الأصولي على موافق له في المذهب الفقهي:
• المثال الأول:
قال السرخسي في تعريف العام: "وأما العام: كل لفظ ينتظم جمعًا من الأسماء لفظًا أو معنى. ونعني بالأسماء هنا: المسميات. قولنا: لفظًا أو معنى: هو تفسير للانتظام؛ أي ينتظم جمعًا من الأسماء لفظًا مرة كقولنا: زيدون، ومعنى مرة تارة كقولنا: مَنْ وَمَا وما أشبههما
…
وذكر أبو بكر الجَصَّاص رحمه الله أن العام: ما ينتظم جمعًا من الأسماء أو المعاني (1). وهذا غلط منه؛ فإن تعدد المعاني لا يكون إلا بعد التغاير والاختلاف، وعند ذلك اللفظ الواحد لا ينتظمها؛ وإنما يحتمل أن يكون كل واحد منها مرادًا باللفظ، وهذا يكون مشتركًا لا عامًا، ولا عموم للمشترك عندنا (2). وقد نص الجصاص في كتابه على أن المذهب في المشترك أنه لا عموم له (3)، فعرفنا أن هذا سهو منه في العبارة أو مؤول، ومراده: أن المعنى الواحد باعتبار أنه يعم المحال يسمى مجازًا؛ فإنه يقال: مطر عام؛ لأنه عم الأمكنة، وهو في الحقيقة معنى واحد؛ ولكن لتعدد المحال الذي تناوله سماه معاني، ولكن هذا إنما يستقيم إذ قال: ما ينتظم جمعًا من الأسامي والمعاني. قال رضي الله عنه: وهكذا رأيته في بعض النسخ من كتابه. فأما قوله (أو المعاني) فهو سهو منه، وذكر أن إطلاق لفظ (العموم) حقيقة في المعاني والأحكام؛ كما هو في الأسماء والألفاظ، ويقال: عمهم الخوف وعمهم الخصب باعتبار المعنى من غير أن يكون هناك لفظ، وهذا غلط أيضًا؛ فإن المذهب أنه لا عموم للمعاني حقيقة وإن كان يوصف به مجازًا" (4).
(1) لم أقف على هذا في كتاب الفصول في الأصول، لعله في الجزء المفقود.
(2)
يُنظر: أصول البزدوي مع كشف الأسرار للبخاري (1/ 105 - 106)؛ المنار مع شرحه كشف الأسرار للنسفي (1/ 202)؛ فواتح الرحموت (1/ 201).
(3)
لم أقف على هذا في كتاب الفصول في الأصول، لعله في الجزء المفقود.
(4)
أصول السرخسي (1/ 125)، وقريب منه في أصول البزدوي -مطبوع مع كشف الأسرار- (1/ 94 - 101).
• بيان الاستدراك:
استدرك السرخسي على الجصاص تعريفه للعام بقوله: (ما ينتظم جمعًا من الأسماء أو المعاني) بأن قوله: (أو المعاني) غلط؛ لأن تعدد المعاني حقيقة لا يكون بتعدد أفرادها في الخارج؛ بل بتعددها في الذهن، وذلك لا يكون إلا عند اختلافها، فإذا رأيت إنسانًا وثبت في ذهنك معناه، ثم رأيت آخر وآخر؛ لا يثبت معنى آخر في ذهنك، فمعنى الإنسان عام في الذهن لجميع الناس وإن كان إنسانية زيد في الخارج غير إنسانية عمرو وخالد؛ ولكن إذا رأيت أسدًا أو ذئبًا أو فرسًا أو غيرها يثبت معنى آخر في ذهنك غير المعنى الأول، فثبت أن تعدد المعاني إنما يكون عند اختلافها، وذلك بتعدد أفرادها في الذهن، وحينئذ لا يتناولها لفظ واحد على سبيل الشمول كما هو في العام؛ وإنما يتناولها اللفظ على سبيل البدل، وذلك يسمى (مشتركًا)، والمشترك لا عموم له عند الحنفية.
وبما أن الجصاص نص في كتابه على أن المشترك لا عموم له عند الحنفية (1) فيكون قوله: (أو المعاني) سهوًا منه في العبارة أو مؤولاً، وتأويله: أن يحمل كلامه على المجاز لا الحقيقة، فيكون مراده: أن المعنى الواحد باعتبار أنه يعم المحال يسمى مجازًا؛ فإنه يقال: مطر عام؛ لأنه عم الأمكنة، وكلفظ (الإنسان) مثلاً فإنه لا يتناول الأشخاص الداخلة تحته إلا بمعنى الإنسان، ثم ذلك المعنى لما كان متعددًا في الخارج فإن إنسانية زيد في الخارج غير إنسانية عمرو وخالد، وإن كان متحدًا حقيقة سماه معاني مجازًا. وهذا التأويل إنما يصح لو قال الجصاص في تعريف العام: ما ينتظم جمعًا من الأسامي والمعاني، (بالواو) بدل (أو)؛ وذلك لأن (الواو) لمطلق الجمع؛ فيصح هذا التأويل، ويصير تقدير كلامه: العام: ما يتناول جمعًا من المسميات مع المعنى الذي به صارت متفقة، ولكنه سماه معاني مجازًا، وهذا هو تفسير العام عند الحنفية،
(1) لم أقف على هذا في كتاب الفصول في الأصول، لعله في الجزء المفقود.
وقد وجد السرخسي في بعض النسخ من كتاب الجصاص العبارة بالواو. (1)
• المثال الثاني:
قال السمعاني عند حديثه عن معاني الحروف في معنى حرف (الواو): "وقد رأيت بعض أصحابنا (2) ادعى على أصحاب أبي حنيفة أنهم يدعون أنَّ (الواو) للجمع على سبيل الاقتران (3)، وأخذ يرد عليه كما رد على من زعم أنها للترتيب والتوالي من أصحابنا.
وليس ما ادعاه مذهب أحد من أصحاب أبي حنيفة؛ وإنما يدعون أن (الواو) للجمع من غير تعرض لاقتران وترتيب، فلا معنى للرد (4) " (5).
وهذا الاستدراك استدركه العلاء البخاري أيضًا على بعض أصحاب أبي حنيفة حيث ظنوا أن (الواو) في مذهبهم للمقارنة فقال: "قوله: (وهي عندنا لمطلق العطف) أي مطلق الجمع من غير تعرض لمقارنة كما زعمه بعض أصحابنا على قول أبي يوسف ومحمد، ولا ترتيب كما زعمه ذلك البعض على أصل أبي حنيفة"(6).
(1) يُنظر: كشف الأسرار للبخاري (1/ 100 - 101) بتصرف.
(2)
ذكر محقق القواطع أن المقصود به الجويني، وكلامه في البرهان (1/ 181 - 183) يفيد ذلك.
(3)
المرد به: الاقتران في الزمان. يُنظر: كشف الأسرار للبخاري (2/ 203)؛ فتح الغفار (ص: 177).
(4)
يُنظر مذهب الحنفية في: أصول السرخسي (1/ 200 - 207)؛ المنار للنسفي مع فتح الغفار (ص: 177).
(5)
القواطع (1/ 53).
(6)
كشف الأسرار للبخاري (2/ 202).