الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
السبب الثامن: التصحيف في النسخ
.
من أسباب الوقوع في الخطأ: الاعتماد على نسخ مصحفة بسبب عيوب النظر، أو سبق القلم. وأقرر الخطأ بهذا السبب بالأمثلة التالية:
• المثال الأول:
قال الرازي في (التقسيم الثالث للفظ المفرد): "وأما إذا كان اللَّفظ موضوعًا للمعنيين جميعًا، فإمَّا أن تكون إرادة ذلك اللفظ لهما على السويَّة، أو لا تكون على السويَّة، فإن كانت على السويَّة سُمِّيت اللَّفظة بالنسبة إليهما معًا (مُشتركًا)، وبالنسبة إلى كل واحد منهما (مجملاً)؛ لأن كون اللَّفظِ موضوعًا لهذا وحده ولذاك وحده معلوم؛ فكان مشتركًا من هذا الوجه"(1).
فذكر القرافي استدراكًا على ما جاء في بعض النسخ من خطأ فقال: "تنبيه: وقع في بعض النسخ: يسمى (مشتركًا) بالنسبة إلى كل واحد منهما، و (مجملاً) بالنسبة إليهما)، والصحيح: (مشتركًا) بالنسبة إليهما، و (مجملاً) بالنسبة إلى كل واحد منهما؛ لأن الشركة من الأمور النسبية، فلا يصدق على الدار أنها مشتركة بالنسبة إلى زيد وحده؛ بل لا بد من آخر معه في تلك الدار، والإجمال يرجع إلى عدم الفهم، وعدم الفهم يمكن نسبته إلى واحد فيقال: زيد لم يفهم من اللَّفظ؛ فلذلك تعينت النسبة للشركة، والإفراد بقولك: لكل واحد منهما الإجمال"(2).
• المثال الثاني:
قال أبو عبدالله الأصفهاني في مسألة: (إثبات الحدود والكفارات (3)
(1) المحصول (1/ 229 - 230).
(2)
نفائس الأصول (2/ 610).
(3)
الكفارات: جمع كفارة؛ وهي في اللغة: الخصلة التي من شأنها أن تُكَفِّرَ الخطيئة، (أي تمحوها وتسترها). يُنظر: لسان العرب (13/ 87) مادة: (كفر).
شرعًا: ما وجب على الجاني جبراً لما وقع منه، وزجراً عن مثله. التَّعاريف (ص: 606).
والرخص (1) بالقياس): "واعلم أنه قال: وجدت في جملة النسخ (شهود الزنا)، وهو تصحيف من الناسخ (2)، والقائل معذور؛ حيث لم يجد ما وصل إليه من النسخ إلا كما ذكره، ونحن وجدنا النسخة الصحيحة، وصورته: (شهود الزوايا) (3) "(4).
• المثال الثالث:
ما ذكره الإسنوي في مسألة (ترجيح الأخبار بوقت الرواية): "وقد وقع كذلك في نسخة بعض الشارحين (5) فشرحه، ثم استدرك عليه: بأن هذا ترجيح بوقت التحَمُّل، وكلامه (6) في الترجيح بوقت الرواية. والنسخة التي وقعت لهذا الشارح غلط"(7).
(1) الرخصة لغة: التسهيل في الأمر والتيسير. يُنظر: المصباح المنير (1/ 223)؛ القاموس المحيط (ص: 620)، مادة:(رخص).
اصطلاحًا: الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر هو المشقة والحرج. يُنظر: منهاج الوصول - مطبوع مع الإبهاج - (2/ 218)؛ التمهيد للإسنوي (ص: 60) وقريب منه في القواعد والفوائد (ص: 99) .. ويُنظر تعريفات أخرى للرخصة في تقريب الأصول (ص: 237)؛ روضة الناظر (1/ 189)؛ التوضيح شرح التنقيح للمحبوبي (2/ 277 - 278).
(2)
يُنظر: هامش (2) من تحقيق المحصول (5/ 350).
(3)
المراد بشهود الزوايا: أن يشهد أربعة على أنه زنى بها؛ ولكن يشهد كل شاهد على أنه زنى بها في زاوية معينة من الدار، ويشهد آخر أنه زنى بها في زاوية أخرى، ويشهد الثالث على الزنى في زاوية أخرى، وكذلك الشاهد الرابع. يُنظر: الكاشف على المحصول (6/ 610).
(4)
الكاشف عن المحصول (6/ 610).
(5)
أي الشارحين لمتن " منهاج الوصول " للبيضاوي.
(6)
أي البيضاوي.
(7)
نهاية السول (2/ 992).
وقال أيضًا عند شرحه لقول البيضاوي في ترجيح الأقيسة: "وهي بوجوه: الأول: بحسب العلة، فترجح المظنة، ثم الحكمة، ثم الوصف العدمي ....
فقال الإسنوي: وفي بعض النسخ زيادة (الإضافي) بين الحكمة والعدمي، فقال: ثم الحكمة، ثم الوصف الإضافي، ثم العدمي.
وهذه النسخة مخالفة لأكثر النسخ التي اعتمد عليها الشارحون، ومخالفة لما في المحصول (1)؛ فإن المذكور فيه ما ذكرناه أولاً" (2).
كما ذكر في هذه المسألة قوله: "وقد وقع في بعض نسخ الكتاب هنا تغيير من النساخ"(3).
• المثال الرابع:
قال البيضاوي في مسألة (إعمال المشترك (4) في جميع مفهوماته): "
…
جوز
(1) والذي في المحصول تقديم الوصف العدمي على الإضافي، ونصه:" الحكم الشرعي إما أن يكون معلَّلاً بالوصف الحقيقي، أو بالحكمة، أو بالحاجة، أو بالوصف العدمي، أو بالوصف الإضافي، أو بالوصف التقديري، أو بالحكم الشرعي ". المحصول (5/ 444).
وقال ابن السبكي في شرح المنهاج: " قوله: (ثم الوصف الإضافي) اعلم أن هذا ساقط في بعض النسخ، ولاسقاطه وجه وجيه؛ لدخوله تحت العدمي، إذ الإضافات من الأمور العدمية، وقد قررنا أن التعليل بها مرجوح. ولإثباته وجه من جهة أنه مختلف في كونه وجوديًا، فيكون مرجوحًا بالنسبة إلى المتفق على كونه وجوديًا ". يُنظر: الإبهاج (7/ 2835).
(2)
نهاية السول (2/ 1012).
(3)
المرجع السابق (2/ 1013).
(4)
المشترك: لفظ كلي يطلق على معانٍ متعددة وضع اللفظ لكل منها وضعًا خاصًا؛ مثاله: "قُرء" فهي تطلق في اللغة على الحيض، وتطلق أيضًا على الطهر. و"عين" فهي موضوعة لعدة معان في اللغة؛ فمن معانيها: الحاسة التي يكون الإبصار بها، ومن معانيها: الشمس، والذهب، ونبع الماء، وذات الشيء. يُنظر: شرح الأخضري على سلمه (ص: 27)؛ آداب البحث والمناظرة (ص: 31)؛ ضوابط المعرفة (ص: 53). وكذلك يُنظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي (ص: 29)؛ شرح الكوكب المنير (1/ 137).
الشافعي والقاضيان (1) وأبو علي (2) إعمال المشترك في جميع مفهوماته غير المتضادة، ومنعه أبو هاشم والكرخي والبصري (3) والإمام.
لنا: الوقوع في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، والصلاة من الله مغفرة، ومن غيره استغفار" (4).
فذكر التاج السبكي في شرحه: "واعلم أنه وقع في بعض نسخ المنهاج: (والصلاة من الله مغفرة) -كما أوردناه-، وهو الذي أورده الغزالي (5)، وفي بعضها:(رحمة). وكذلك ذكر الإمام (6). والتعبير (بمغفرة) أحسن؛ لأن الصلاة في اللغة: الدعاء بخير، وهو محال من الله تعالى، فحمل على المغفرة. وأما حمله على (الرحمة) فغير ممكن؛ لأن حقيقة (الرحمة): رقة القلب، وهي مستحيلة في حق الله تعالى، ولا يطلب عليه إلا مجازًا (7)، ومن فسر الصلاة (بالرحمة) فرارًا من تفسيرها بالدعاء وقع في هذا
(1) أبو بكر الباقلاني وعبدالجبار الهمذاني.
(2)
هو: أبو علي، محمد بن عبدالوهاب بن سلام الجبائي البصري، من شيوخ المعتزلة، وإليه تنسب فرقة الجبائية. من مصنفاته:"تفسير القرآن"و"متشابه القرآن"، (ت: 303 هـ).
تُنظر ترجمته في: فرق وطبقات المعتزلة (ص: 85)؛ وفيات الأعيان (3/ 398)؛ البداية والنهاية (11/ 125).
(3)
هو: أبو الحسين البصري، ذكر هذا ابن السبكي (3/ 655)، والإسنوي فقال: "والبصري: أي أبو الحسين، كما قاله في المحصول،
…
". يُنظر: المحصول (1/ 269)؛ نهاية السول (1/ 262). ويُنظر قول أبي الحسين في المعتمد (1/ 300 - 301).
(4)
يُنظر: منهاج الوصول - مطبوع مع الإبهاج- (3/ 652، 662).
(5)
المستصفى (3/ 293).
(6)
المحصول (1/ 271).
(7)
هذا الكلام بناء على عقيدة الأشاعرة الفاسدة في صفات الله تعالى؛ حيث لم يثبتوا لله تعالى إلا سبع صفات يسمونها "صفات المعاني"؛ وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر. وأما صفات الله تعالى الفعلية؛ كالنزول والاستواء والرضى والرحمة والغضب؛ فأنكروها، وعللوا إنكارهم لصفة الرحمة: بأن (الرحمة) رقة وضعف، وهذا لا يليق بالله تنزيهًا له تعالى، وقالوا: المراد بالرحمة: إرادة الإحسان، أو الإحسان نفسه، أي: إما النعم، أو إرادة النعم. أما أهل السنة والجماعة فأمنوا بكل ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فنفوا عنه كل ما نفاه، وأثبتوا له كل ما أثبته، بلا تأويلات باطلة، ومن ذلك: إثباتهم صفة (الرحمة) له سبحانه وتعالى بما يليق بجلاله. يُنظر: تفسير المنار (1/ 64 - 65)؛ شرح العقيدة الواسطية للشيخ ابن عثيمين (1/ 248 - 259)؛ فرق معاصرة (3/ 1218 - 1224).
الخطأ العظيم
…
" (1).
• المثال الخامس:
قال أَمِيرُ بَادْشَاه (2) في (فصل في بيان عوارض الأهلية): " (وأما النسيان) وهو: (عدم الاستحضار) للشيء (في وقت حاجته) أي الحاجة إلى استحضاره (فشمل) هذا التعريف (النسيان عند الحكماء والسهو) هكذا وجدنا عبارة المتن (3) في نسخة الشارح (4)، والنسخة التي اعتمادنا عليها غالبًا؛ غير أنه كانت فيها الواو قبل السهو أولًا فمحيت، والصواب إثباتها؛ لأن السهو على تقدير عدم واو العطف شامل للنسيان عند الحكماء وهو غير صحيح؛ لأن النسيان عندهم: زوال الصورة عن المدركة والحافظة، فيحتاج في حصولها إلى سبب جديد.
والسهو عندهم: زوالها عن المدركة مع بقائها في الحافظة. وقيل: النسيان: عدم ذكر ما كان مذكورًا. والسهو: غفلة عما كان مذكورًا وما لم يكن مذكورًا. اللهم إلا أن
(1) يُنظر: الإبهاج (3/ 663 - 664).
(2)
هو: محمد أمين بن محمود البخاري، المعروف بـ (أمير بادشاه)، الفقيه الحنفي، المفسر، الأصولي، من أهل بخارى، كان نزيلاً بمكة. من مصنفاته:"تيسير التحرير"، و " تفسير سورة الفتح"، و" رسالة في الحج، في أن الحج المبرور يكفر الذنوب"، (ت: 972) تقريبًا.
تُنظر ترجمته في: كشف الظنون (1/ 358)؛ ومعجم المؤلفين (3/ 148)؛ الأعلام (6/ 41).
(3)
أي كتاب التحرير لابن الهمام. يُنظر: التحرير (ص: 273).
(4)
المراد به: ابن أمير حاج صاحب كتاب " التقرير والتحبير ". يُنظر: التقرير والتحبير (2/ 236).
يكون ذكر السهو بعد النسيان على سبيل التعداد، ولا يخفى ما فيه؛ لأن اللغة لا تفرق بين النسيان والسهو؛ يعني أن النسيان المبحوث عنه في هذا المقام الذي يترتب عليه الأحكام الآتية هو المذكور في السنة، وقد استعمل هناك في المعنى اللغوي، واللغة لا تفرق بينهما" (1).
• تنبيه: لا يمتنع اجتماع أكثر من سبب للخطأ، ولعلك فطنت لذلك في بعض الأمثلة السابقة، وأقرره بمثال توضيحي:
قال ابن السبكي في مسألة (الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أو المرة؟ ): "ونقل بعض الشارحين تبعًا للأصفهاني في شرح المحصول (2) عن الآمدي أنه قال: (وإليه (3) ميل إمام الحرمين والواقفية). ثم خَطَّأ هذا الشارحُ الآمدي: بأن إمام الحرمين إنما يرى الوقف، ولا يَقضي في الزيادة بالنفي ولا إثبات.
واعلم أن الآمدي لم ينقل في الإحكام عن إمام الحرمين إلا الوقف كما هو الواقع، وهذه عبارة الآمدي:(ومنهم (4) من نفى احتمال التكرار، وهو اختيار أبي الحسن البصري وكثير من الأصوليين. ومنهم من توقف في الزيادة ولم يقضِ فيها بنفي ولا إثبات، وإليه مال إمام الحرمين (5) والواقفية). انتهى.
والظاهر أن نسخة الأصفهاني وكذلك الشارح من الأحكام سقيمة سقط منها
(1) تيسير التحرير (2/ 263 - 264).
(2)
يُنظر: الكاشف عن المحصول (3/ 288).
(3)
فتكون عبارة النسخة السقيمة: (وذهب آخرون إلى أنه للمرة الواحدة، ومحتمل التكرار، ومنهم من نفى احتمال التكرار، وهو اختيار أبي الحسن البصري وكثير من الأصوليين، [
…
] وإليه ميل إمام الحرمين والواقفية). [
…
] إشارة إلى مكان السقط في النسخة.
(4)
أي من القائلين بدلالة الأمر للمرة الواحدة؛ إذ عبارة الآمدي: "
…
وذهب آخرون إلى أنه للمرة الواحدة، ومحتمل للتكرار، ومنهم من نفى احتمال التكرار
…
" الأحكام للآمدي (2/ 190 - 191).
(5)
يُنظر: البرهان (1/ 229).
من قوله: (ومنهم) إلى قوله: (وإليه)، وهذه النسخة التي عندي صحيحة مقروءة على الآمدي وعليها خطه" (1).
• بيان الاستدراك:
هذا الاستدراك من ابن السبكي كان لتصحيح الخطأ، وأسبابه متعددة؛ وهي:
- السبب الأول للوقوع في الخطأ: أن يفهم من كلام العالم ما لم يرده، أو ينقل عنه ما لم يقله (2)؛ حيث فهم الأصفهاني من كلام الآمدي ما لم يرده، ونقل عنه ما لم يقله.
- السبب الثاني للوقوع في الخطأ: النقل من مصادر غير أصلية (3)، فالشارح نقل عبارة الآمدي من كتاب الأصفهاني دون الرجوع لكتاب الإحكام.
- السبب الثالث للوقوع في الخطأ: تصحيف النسخ (4)، فرداءة النسخة عند الأصفهاني والشارح والتي بها سقط من كلام الآمدي كانت السبب الظاهر في هذا الخطأ كما ذكره ابن السبكي.
(1) الإبهاج (4/ 1096 - 1097).
(2)
وهو السبب الرابع من أسباب الوقوع في الخطأ.
(3)
وهو السبب الأول من أسباب الوقع في الخطأ.
(4)
وهذا السبب الثامن من أسباب الوقوع في الخطأ.