الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجاز لا يعارض الحقيقة؛ بل ثبوت المجاز بإرادة المتكلم؛ لا بصيغة الكلام، وهي إرادة ناقلة للكلام عن حقيقته، فما لم يظهر الناقل بدليله يثبت حكم الكلام مقطوعًا به بمنزلة النص المطلق يوجب الحكم قطعًا وإن احتمل التغيير بشرط تعلقه به أو قيد بقيده؛ ولكن ذلك ناقل للكلام عن حقيقته، فما لم يظهر كان حكم الكلام ثابتا قطعًا، بخلاف النص في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن النص يوجب الحكم، فأما بقاء الحكم ليس من موجبات النص ولكن ما ثبت؛ فالأصل فيه البقاء حتى يظهر الدليل المزيل، فكان بقاؤه لنوع من استصحاب الحال (1) وعدم الناسخ، وهذا المعدوم غير مقطوع به؛ فلهذا لا يكون بقاء الحكم مقطوعًا به في ذلك الوقت؛ حتى إن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انقطع احتمال النسخ كان الحكم الذي لم يظهر ناسخه باقيًا قطعًا" (2).
•
السبب الخامس: الاستدراك بسبب تفرد المستدرِك بآراء جديدة
.
علم أصول الفقه بحرٌ زاخرٌ يغوص في أعماقه كل عالم بحسب طاقته، وكان لعدد من علماء الأصول آراء جديدة استدركوا فيها على من سبقهم؛ وذلك بسبب اطلاعهم الواسع، واجتهادهم المستمر، واعتمادهم على التحليل العلمي الدقيق الذي كان نتيجته إثراء علم الأصول؛ ومن أمثال هؤلاء:
أولاً: أبو الحسين البصري المعتزلي، فكان يخالف شيخه القاضي
(1) الاستصحاب لغة: استفعال من الصُّحبة؛ وهي: الملازمة. يُنظر: الصحاح (ص: 580)؛ القاموس المحيط (ص: 104) مادة: (صحب).
وفي الاصطلاح: استدامة إثبات ما كان ثابتًا، أو نفي ما كان منفيًا.
وله صور متعددة ذكر علماء الأصول أحكامها، وحرروا فيها محل الوفاق والنزاع.
يُنظر: أصول السرخسي (2/ 223)؛ قواطع الأدلة (3/ 367)؛ شرح مختصر الروضة (3/ 147)؛ تقريب الوصول (ص: 391)؛ البحر المحيط (6/ 20)؛ بديع النظام (2/ 611).
(2)
أصول السرخسي (1/ 138).
عبدالجبار (1) وكبار أئمة الاعتزال، ويتخذ رأيًا جديدًا؛ فمن ذلك مثلاً: قوله في مسألة (النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا؟ ): "اختلف الناس في ذلك؛ فذهب بعض أصحاب أبي حنيفة (2) وبعض أصحاب الشافعي (3) إلى أنه يقتضي فساده. وزعم غيرهم من الفقهاء: لا يقتضيه، وهو مذهب الشيخ أبي الحسن (4)، وأبي عبدالله (5)، وقاضي القضاة (6)، وذكر أنه ظاهر مذهب شيوخنا المتكلمين؛ وأنا أذهب إلى أنه يقتضي فساد المنهي عنه في العبادات دون العقود والإيقاعات"(7).
فهو بهذا اتخذ موقفًا مبايناً للفريقين وأورد أدلته، ثم أورد أدلة الفريقين واستدرك عليها؛ فمن ذلك مثلاً: استدراكه على استدلال القائلين إن النهي يدل على فساد المنهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: «من أدخل في دييننا ما ليس منه فهو رَد» (8)، فقال:
(1) هو: أبو الحسين، عبدالجبار بن أحمد بن عبدالجبار بن أحمد بن خليل الهمداني، شيخ المعتزلة، من كبار فقهاء الشافعية، عمر دهرًا طويلاً؛ حتى ظهر له الأصحاب، وبعد صيته، ورحلت إليه الطلاب، وولى قضاء الري وأعمالها، صنف تصانيف كثيرة، (ت: 415 هـ) بالري، ودفن في داره.
تُنظر ترجمته في: فرق وطبقات المعتزلة (ص: 118)؛ طبقات الفقهاء الشافعية لابن الصلاح (1/ 523)؛ طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/ 97).
(2)
يُنظر: الفصول في الأصول (2/ 171)؛ أصول السرخسي (1/ 97)؛ فواتح الرحموت (1/ 438).
(3)
يُنظر: شرح اللمع (1/ 297)؛ المستصفى (3/ 199)؛ الإحكام للآمدي (2/ 231).
(4)
المراد به أبو الحسن الكرخي. يُنظر: البحر المحيط (2/ 443).
(5)
المراد به أبو عبدالله البصري.
(6)
المراد به القاضي عبدالجبار الهمذاني المعتزلي.
(7)
المعتمد (1/ 170 - 171).
(8)
لم أجده بهذا اللفظ، والمروي عن عائشة رضي الله عنها بلفظ:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ، وبلفظ:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» .
والحديث باللفظ الأول في صحيح البخاري، ك: الصلح، ب: إذا اصْطلَحُوا على صلحِ جوْرٍ فالصلح مردود، (2/ 959/ح: 2550)؛ وصحيح مسلم، ك: الأقضية، ب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، (3/ 1343/ح: 1718).
والحديث باللفظ الثاني ذكره البخاري في صحيحه معلقًا، ك: الاعتصام، ب: إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود
…
، (6/ 2675)، ك: البيوع، ب: النجس
…
، (2/ 753)؛ صحيح مسلم، ك: الأقضية، ب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، (3/ 1343/ح: 1718).
"واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أدخل في دييننا ما ليس منه فهو رَد» . قالوا: والمنهي عنه ليس من الدين، فيجب كونه مردودًا، ولو كان مجزئًا ثبتت أحكامه لما كان مردودًا!
والجواب: أن الإنسان إنما يكون مُدخلاً للفعل في الدين إذا اعتقد أنه من الدين، ألا ترى أن الزاني وفاعل المباح لا يكون مُدخلاً للزنا والفعل المباح في الدين، فليس يخلو إما أن يعنوا أن الفاعل لما نُهي عنه مُدخل للفعل في الدين، أو مدخل لأحكامه في الدين، فإن أرادوا الأول (1) لم يثبت؛ لأن المصلي في الدار المغصوبة لا يعتقد أن ذلك في الدين. وإنما يقول: إنه يسقط به الفرض، وكذلك المطلق في حال الحيض لا يعتقد أن ذلك من الدين؛ إذ اعتقد أن ذلك بدعة.
وإن أرادوا الوجه الثاني (2) لم يُسلّم الخصم أن ذلك من الدين" (3).
ويستمر مع هذا الفريق في نقاش هذا الاستدلال، ثم ينتقل إلى استدراك أدلة الفريق الآخر القائلين بأن النهي لا يدل على فساد المنهي عنه، واخترتُ من ذلك استدراكه على قولهم: "إن لفظ (النهي) لغوي، و (فساد العبادة) شرعي، فلا يجوز أن يكون موضوعًا له.
والجواب: أنّا لا نقول: إنه موضوع للفساد فيلزم ما ذكروه، وإن علمنا عنده على التدريج المذكور، كما يقولون: إن الأمر وضع للندب على التدريج.
(1) وهو: أن الفاعل لما نُهي عنه مُدخل للفعل في الدين.
(2)
وهو: أن الفاعل لما نُهي عنه مُدخل لأحكامه في الدين.
(3)
المعتمد (1/ 174).
ولو قلنا: إنه موضوع للفساد لم يبطل بما ذكروه؛ لأن فساد الفعل هو: انتفاء الأغراض المقصودة بالفعل عن الفعل، أو وجوب إعادته على قول قاضي القضاة، وذلك معقول قبل الشرع، فلا يمتنع أن يوضع النهي له، كما وضعوا له أن هذا الفعل يجب إعادته، فإن الأغراض لا تتعلق به مع أن هذه ألفاظ لغوية" (1).
ثم ذكر مذهبه في النهي في العقود والإيقاعات، وأن ذلك لا يدل على فسادها، وأورد أدلة المخالف له واستدراكه عليه، وأعقب ذلك بذكر استدراك يمكن للمخالف أن يحتج به عليه فقال: "ويمكن للمخالف أن يحتج فيقول: إنكم بفصلكم بين العبادات وبين العقود والإيقاعات قد قلتم ما لم يَقُله أحد؛ لأن الأُمة مُجمعة على التسوية بين الموضعين، فمنهم من سوّى بينهما في دلالة النهي على فسادهما، ومنهم من جمع بينهما في دلالة النهي على نفي فسادهما.
والجواب: أن الذين جمعوا بينهما في نفي دلالة النهي على فسادهما لم يعنوا بالفساد ما عنيناه (2)؛ وإنما أرادوا بالفساد وجوب القضاء بعد خروج الوقت، ولو فصل لهم ما فصلناه لما اختلفوا فيه، ولو خالفوا لم يكن ما قلناه مخالفًا للإجماع؛ لأنه إنما يكون تفرقنا بين الموضعين مخالفة للإجماع إذا نظمت الموضعين طريقة واحدة، وقد بينا أن ليس ينظمها طريقة واحدة" (3).
ثانيًا: إمام الحرمين الجويني؛ حيث خالف الإمام الشافعي في البرهان في خمس وعشرين مسألة (4)، وبلغ عدد مخالفته لأبي الحسن الأشعري ثلاث
(1) المعتمد (1/ 176).
(2)
معنى الفاسد عنده: عدم حصول الغرض المقصود بالفعل، وإنما يكون ذلك بعدم استيفاء الفعل شرائطه التي يقف عليها حصول الغرض المقصود به. يُنظر: المعتمد (1/ 171).
(3)
المعتمد (1/ 177 - 178).
(4)
يُنظر فِهرس المسائل التي خالف فيها إمام الحرمين الشافعي في البرهان (2/ 1443 - 1444). ويوجد رسالة علمية بعنوان: (المسائل الأصولية التي خالف فيها الجويني الإمام الشافعي في كتاب البرهان) رسالة ماجستير تخصص أصول الفقه بجامعة أم القرى.
مسائل (1)، وأما مخالفته للقاضي الباقلاني فكانت في إحدى وأربعين مسألة (2). (3)
وكان من طريقته في اختيار ما يراه صوابًا: أنه يعرض الأقوال في المسألة، ثم يخترع قولاً وسطًا قد استفاده من الآراء التي عرضها، قال في بعض المواطن: "والمسلك الحق عندي في ذلك، الجامع لمحاسن المسالك، الناقض لمساويها، أن نقول
…
" (4). وقال في موطن آخر: "فلينظر الناظر كيف لقطنا من كل مسلك خياره" (5).
وحيث إن هذا البحث ليس مجال استقصاء لكل اجتهادات إمام الحرمين؛ وإنما القصد عرض نموذج لاجتهاده الذي استدرك به على السابقين؛ فأكتفي بمسألة (إنكار راوي الأصل رواية الفرع (6)).
(1) يُنظر: فِهرس المسائل التي خالف فيها إمام الحرمين الأشعري في البرهان (2/ 1445).
(2)
يُنظر: فِهرس المسائل التي خالف فيها إمام الحرمين القاضي الباقلاني في البرهان (2/ 1447 - 1449).
(3)
يُنظر: الفكر الأصولي (ص: 311 - 316).
(4)
البرهان (1/ 91).
(5)
المرجع السابق (1/ 496).
(6)
ومثال المسألة: ما رواه سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» . ثم روي أن ابن جريح سأل الزهري عن هذا الحديث فلم يعرفه. يُنظر: أصول البزودي مع شرحه كشف الأسرار للبخاري (3/ 129 - 130)؛ أصول السرخسي (2/ 3)؛ تخريج الفروع على الأصول (ص: 225).
-والحديث في مسند الإمام أحمد (6/ 66/ح: 24417)(6/ 165/ح: 25365)؛ سنن أبي داود، ك: النكاح، ب: في الولي، (2/ 229/ح: 2083)؛ سنن الترمذي، ك: النكاح، ب: ما جاء لا نِكاحَ إلا بِولِيٍّ، (3/ 407/ح: 1101)؛ سنن النسائي الكبرى، ك: النكاح، ب: الثيب تجعل أمرها لغير وليها، (3/ 285/ح: 5394)؛ المستدرك على الصحيحين (2/ 182/ح: 2706).
قال الترمذي: "هذا حديث حسن". يُنظر: سنن الترمذي (3/ 407)، وقال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين) يُنظر: المستدرك على الصحيحين (2/ 182). وقال الألباني: "صحيح". يُنظر: إرواء الغليل (6/ 243). ويُنظر كذلك: نصب الراية (3/ 195).-
فالذي ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة وطوائف من المحدثين: أن ذلك يوهي الحديث، ويمنع العمل به. (1)
وأطلق الشافعي القول بقبول الحديث وإيجاب العمل به.
وذكر القاضي (2) في ذلك تفصيلاً ونزل مطلق كلام الشافعي رحمه الله عليه فقال: إن قال الشيخ المرجوع إليه: كذب فلان الراوي عني، أو قال: غلط وما رويت له قط ما ذكر؛ فإذا جزم الرد عليه أوجب ذلك سقوط تلك الرواية.
فإن رد الشيخ قوله ولم يثبت الرد على الراوي عنه؛ ولكنه قال: لست أذكر هذه الرواية؛ فهذا يتضمن ردًّا للرواية إذا كان الراوي عن الشيخ موثوقًا به" (3).
ثم ذكر في آخر المسألة قوله: "وهذا إذا لم يصرح الشيخ بالرد، فأما إذا كذبه، أو قطع بنسبته إلى الغلط؛ فقد يظهر انخرام الثقة في هذه الحالة.
وادعى القاضي على الشافعي أنه قال: ترد الرواية في مثل هذه الصورة.
والذي أختاره فيها: أن ينزل قول الشيخ القاطع بتكذيب الراوي عنه مع رواية الثقة العدل عنه منزلة خبرين متعارضين على التناقض، فإذا اتفق ذلك فقد يقتضي الحال سقوط الاحتجاج بالروايتين، وقد يقتضي ترجيح رواية على رواية بمزيد العدالة في إحدى الروايتين، أو غير ذلك من وجوه الترجيح، فلا فرق بين ذلك وبين تعارض
(1) ما ذكره الجويني عن الحنفية هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، أما محمد بن الحسن فكان يوافق الشافعي. يُنظر: أصول البزودي مع شرحه كشف الأسرار للبخاري (3/ 124 - 131)؛ أصول السرخسي (2/ 3).
(2)
أي الباقلاني، يُنظر هذا التفصيل في التلخيص (2/ 392).
(3)
البرهان (1/ 650 - 651).
قولين من شيخ وراوٍ عنه" (1).
ثالثًا: حجة الإسلام الإمام الغزالي، وأذكر لتفرده المثال التالي:
"مسألة: الاسم المشترك بين مسميين لا يمكن دعوى العموم فيه عندنا، خلافًا للقاضي (2) والشافعي (3)؛ لأن المشترك لم يوضع للجميع.
مثاله: (القرء) للطهر والحيض، و (الجارية) للسفينة والأمة، و (المشتري) للكوكب السعد وقابل البيع.
والعرب ما وضعت هذه الألفاظ وضعًا يستعمل في مسمياتها إلا على سبيل البدل، أما على سبيل الجمع فلا.
نعم نسبة المشترك إلى مسمياته متشابهة، ونسبة العموم إلى آحاد المسميات متشابهة؛ لكن تشابه نسبة [العموم في الدلالة، وتشابه نسبة المشترك والمجمل في الصلوح لأن يراد به كل واحد على سبيل البدل](4)، وتشابه نسبة المفهوم في السكوت عن الجميع؛ لا في الدلالة، وتشابه نسبة الفعل في إمكان وقوعه على كل وجه؛ إذ الصلاة المعينة إذا تلقيت من فعل النبي عليه السلام أمكن أن تكون فرضًا، ونفلاً، وأداءً، وقضاءً، وظهرًا، وعصرًا، والإمكان شامل بالإضافة إلى عِلمنا، أما الواقع في نفسه وفي علم الله تعالى واحد متعين لا يحتمل غيره.
(1) البرهان (1/ 655).
(2)
لم أقف على قوله في مختصر التقريب ولا في التلخيص، ونقل عنه الجويني في البرهان أنه عظم النكير على من يرى الحمل على الحقيقة والمجاز جميعًا. يُنظر: البرهان (1/ 344). ونقل عنه الرازي والآمدي ما ذكره الغزالي بالقول بعموم المشترك، يُنظر: المحصول (1/ 268)؛ الإحكام للآمدي (2/ 297).
(3)
يُنظر: البرهان (1/ 344)؛ المحصول (1/ 268)؛ الإحكام للآمدي (2/ 297).
(4)
في نسخة بولاق (2/ 72)[كل واحد من آحاد العموم على الجمع، ونسبة كل واحد من آحاد المشترك على البدل].
فهذه أنواع التشابه، والوهم سابق إلى التسوية بين المتشابهات، وأنواع هذا التشابه متشابهة من وجه.
فربما يسبق إلى بعض الأوهام أن العموم كان دليلاً لتشابه نسبة اللفظ إلى المسميات، والتشابه ههنا موجود، فيثبت حكم العموم، وهو غفلة عن تفصيل هذا التشابه، وإن تشابه نسبة العموم إلى مسمياته في دلالته على الجميع بخلاف هذه الأنواع.
احتج القاضي: بأنه لو ذكر اللفظ مرتين وأراد في كل مرة معنى آخر جاز، فأي بُعْدٍ في أن يقتصر على مرة واحدة ويريد به كلا المعنيين مع صلاح اللفظ للكل، بخلاف ما إذا قصد بلفظ (المؤمنين) الدلالة على المؤمنين والمشركين جميعًا؛ فإن لفظ (المؤمنين) لا يصلح للمشركين بخلاف اللفظ المشترك.
فنقول: إن قصد باللفظ الدلالة على المعنيين جميعًا بالمرة الواحدة فهذا ممكن؛ لكن يكون قد خالف الوضع؛ كما في لفظ (المؤمنين)؛ فإن العرب وضعت اسم (العين) للذهب والعضو الباصر على سبيل البدل؛ لا على سبيل الجمع.
فإن قيل: اللفظ الذي هو حقيقة في شيء مجاز في غيره هل يطلق لإرادة معنييه جميعًا؛ مثل: (النكاح) للوطء والعقد، و (اللمس) للجس وللوطء؛ حتى يحمل قوله:{وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] على وطء الأب وعقده جميعًا، وقوله تعالى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43/ المائدة: 6] على الوطء والمس جميعًا؟
قلنا: هذا عندنا كاللفظ المشترك وإن كان التعميم فيه أقرب قليلاً.
وقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال: أحمل آية اللمس على المس والوطء جميعًا. (1)
(1) مذهب الشافعي المذكور في الأم وأحكام القرآن: حمل الملامسة في الآية على اللمس باليد والقبلة دون الجماع. يُنظر: الأم (1/ 15)؛ أحكام القرآن للشافعي (1/ 46). وذكر الجويني في البرهان أن ظاهر اختيار الشافعي حمل المشترك على جميع معانيه؛ وذلك لأنه قال في مفاوضة جرت له في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43/ المائدة: 6]، فقيل له: قد يراد بالملامسة المواقعة. قال: هي محمولة على اللمس باليد حقيقة، وعلى الوقاع مجازًا. يُنظر: البرهان (1/ 343 - 344).
وإنما قلنا: إن هذا أقرب لأن المس مقدمة الوطء، والنكاح أيضًا يراد للوطء، فهو مقدمته، ولأجله استعير للعقد اسم (النكاح)، الذي وضعه للوطء، واستعير للوطء اسم (اللمس)، فلتعلق أحدهما بالآخر ربما لا يبعد أن يقصدا جميعًا باللفظ المذكور مرة واحدة؛ لكن الأظهر عندنا: أن ذلك أيضًا على خلاف عادة العرب" (1).
فهو بهذا يتخذ موقفًا مخالفًا للشافعي والباقلاني في قولهم بالعموم في الاسم المشترك.
(1) المستصفى (3/ 290 - 292).