الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المطلب الأول: أمثلة للاستدراكات الواردة
في القرآن الكريم والسنة النبوية
•
أولاً: أمثلة للاستدراكات الواردة في القرآن الكريم
.
بعد التأمل في عدد من الاستدراكات الواردة في القرآن الكريم يمكن تقسيمها إلى قسمين:
القسم الأول: استدراكات بأداة الاستدراك (لكن)
.
القسم الثاني: استدراكات بغير أداة الاستدراك (لكن).
وأمثل لكل قسم فيما يلي.
• القسم الأول: استدراكات بأداة الاستدراك (لكن):
الاستدراك بأداة الاستدراك (لكن) وقع كثيرًا في القرآن الكريم، وهذا نوع من المحسنات البلاغية (1) عند العرب.
قال ابن عاشور (2): "وشأن (لكن) أن تكون جملتها مفيدة معنى يغاير معنى الجملة الواقعة قبلها، ولا تدلّ عليه الجملة السابقة، وذلك هو حقيقة الاستدراك الموضوعةُ له (لكن)، فلا بد من مناسبة بين مضموني الجملتين
…
فلا يحسن أن تقول: ما سافرت ولكنّي مقيم. وأكثر وقوعها بعد جملة منفية؛ لأنّ النّفي معنى واسع، فيكثر أن يحتاج المتكلّم بعده إلى زيادة بيان، فيأتي بالاستدراك. ومن قال: إنّ حقيقة
(1) سبق تعريف الاستدراك عند البلاغيين يُنظر: (ص: 44).
(2)
هو: محمد الطاهر بن عاشور، رئيس المفتين المالكيين بتونس، وشيخ جامع الزيتونة، من مصنفاته:"تفسير التنوير والتحرير"، و" مقاصد الشريعة الإسلامية"، و" الوقف وآثاره في الإسلام"، (ت: 1393 هـ).
تُنظر ترجمته في: شجرة النور الزكية (ص: 392)؛ الأعلام (6/ 174).
الاستدراك هو رفعُ ما يتوَهَّم السّامع ثبوته أو نفيه؛ فإنّما نظر إلى بعض أحوال الاستدراك، أو إلى بعض أغراض وقوعه في الكلام البليغ؛ وليس مرادُهم أنّ حقيقة الاستدراك لا تقوم إلا بذلك" (1).
• أمثلة لورود استدراكات في القرآن الكريم بأداة (لكن):
• الآية الأولى:
قال تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[آل عمران: 67].
• بيان الاستدراك:
" أعلم تعالى براءة إبراهيم من هذه الأديان، وبدأ بانتفاء اليهودية؛ لأن شريعة اليهود أقدم من شريعة النصارى، وكرر بـ (لا) لتأكيد النفي عن كل واحد من الدينين، ثم استدرك ما كان عليه بقوله:(وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا)، ووقعت (لكن) هنا أحسن موقعها؛ إذ هي واقعة بين النقيضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل.
ولما كان الكلام مع اليهود والنصارى؛ كان الاستدراك بعد ذكر الانتفاء عن شريعتهما، ثم نفى على سبيل التكميل للتبرير من سائر الأديان كونه من المشركين -وهم: عبدة الأصنام كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم، وكالمجوس عبدة النار، وكالصابئة عبدة الكواكب-، ولم ينص على تفصيلهم؛ لأن الإشراك يجمعهم" (2).
• الآية الثانية:
قال تعالى في شأن نوح عليه السلام: (قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (60) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61)) [الأعراف: 60 - 61].
(1) يُنظر: التحرير والتنوير (8/ 193).
(2)
تفسير البحر المحيط (2/ 511).
• بيان الاستدراك:
قوله: (لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ) ردّ من نوح عليه السلام على قول الملأ من قومه: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)، والاستدراك الذي في قوله:(وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) لرفع ما توهّموه من أنّه في ضلال حيث خالف دينهم؛ وذلك أن القوم لما أثبتوا له الضلال أرادوا به ترك دين الآباء، فحين نفى الضلالة توهم منه أنه على دين آبائه وترك دعوى الرسالة، فوقع الإخبار بأنه رسول وثابت على الصراط المستقيم استدراكًا لذلك.
وقيل: هو استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في أقصى مراتب الهداية؛ فإن رسالته من رب العالمين مستلزمة له لا محالة؛ كأنه قيل: ليس بي شيء من الضلالة؛ لكني في الغاية القاصية من الهداية. وحاصل ذلك: أن (لكن) حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفيًا وإثباتًا، والتغاير هنا حاصل من حيث المعنى؛ كما في قولك: جاءني زيد لكن عمرًا غاب. وفائدة العدول عن الظاهر: إرادة المبالغة في إثبات الهداية على أقصى ما يمكن، كما نفى الضلالة كذلك، فهذا الاستدراك زيادة على الجواب؛ إذ قوله:(لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ) كان كافيًا فيه، فيكون من الأسلوب الحكيم الوارد على التخلص إلى الدعوة على وجه الترجيع المعنوي؛ لأنه بدأ بالدعوة إلى إثبات التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى، فلما أراد إثبات الرسالة لم يتمكن لما اعترضوا عليه من قولهم:(إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)، فانتهز الفرصة وأدمج مقصوده في الجواب على أحسن وجه؛ حيث أخرجه مخرج الملاطفة والكلام المنصف؛ يعني دعوا نسبة الضلال إلي وانظروا ما هو أهم لكم من متابعة ناصحكم وأمينكم ورسول رب العالمين. (1)
• الآية الثالثة:
قوله تعالى في موقعة بدر: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)[الأنفال: 17].
(1) يُنظر: روح المعاني (8/ 151).
• بيان الاستدراك:
تضمنت الآية إخباراً عن حالة أفعال فعلها المخاطبون كان المقصود إعلامهم بنفي ما يظنونه من أن حصول قتل المشركين يوم بدر كان بأسباب ضَرب سيوف المسلمين، فأنبأهم أن تلك السيوف ما كان يحق لها أن تؤثر ذلك التأثير المصيب بإبطال ذوي شجاعة، وذوي شوكة؛ وإنما كان ضرب سيوف المسلمين صورياً أكرم الله المسلمين بمقارنته فعلَ الله تعالى الخارقَ للعادة، فالمنفي هو الضرب الكائنُ سببَ القتل في العادة، وبذلك كان القتل الحاصل يومئذٍ معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم، وكرامة لأصحابه.
وأصل الخبر المنفي أن يدل على انتفاء صدور المسند عن المسند إليه؛ لا أن يدل على انتفاء وقوع المسند أصلاً؛ فلذلك صح النفي في قوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) مع كون القتل حاصلاً، وإنما المنفي كونه صادراً عن أسبابهم.
ووجه الاستدراك المفاد بـ (لَكِنَّ): أن الخبر نفى أن يكون القتل الواقع صادراً عن المخاطبين، فكانَ السامعُ بحيث يتطلب أكان القتلُ حقيقة أم هو دون القتل، ومَن كان فاعلاً له؟ فاحتيج إلى الاستدراك بقوله:(وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ).
ثم ذكر تأييدًا إلهيًّا آخرَ؛ وهو إشارة إلى ما ذكره المفسرون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حرّض المؤمنين على القتال يوم بدر أتاه جبريل فقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها. فأخذ حفنة من الحَصْبَاء (1) فاستقبل بها المشركين، ثم قال:«شاهت الوجوه» ، ثم نفحهم بها، فلم يبق مشرك إلا أصابه شيء من الحصا في عينيه، فشغل بعينيه، ثم أمر أصحابه فقال:«شُدوا» ، فكانت الهزيمة على المشركين. والمراد بالنفي في قوله:(وَمَا رَمَيْتَ) هو الرمي بمعنى أثره وحصول المقصود منه؛ وليس المراد نفي وقوع الرمي؛
(1) الحصباء: صغار الحجارة. يُنظر: النهاية في غريب الأثر (1/ 393). ويُنظر: لسان العرب (4/ 136)؛ المصباح المنير (1/ 138) مادة: (حصب).
مثل المراد في قوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ)؛ لأن الرمي واقع من يد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن المراد نفي تأثيره؛ فإن المقصود من ذلك الرمي إصابة عيون أهل جيش المشركين، وما كان ذلك بالذي يحصل برمي اليد؛ لأن أثر رمي البشر لا يبلغ أثره مبلغ تلك الرمية، فلما ظهر من أثرها ما عم الجيش كلهم؛ عُلم انتفاء أن تكون تلك الرمية مدفوعة بيد مخلوق؛ ولكنها مدفوعة بقدرة الخالق الخارجة عن الحد المتعارف. (1)
• الآية الرابعة:
قال تعالى حكاية عن موقف بعض الرسل مع قومهم: (قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) [إبراهيم: 10 - 11].
• بيان الاستدراك:
قال ابن عاشور: "قول الرسل: (إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) جواب بطريق القول بالموجَب في علم آداب البحث، وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع ببيان محل الاستدلال غير تام الإنتاج، وفيه إطماع في الموافقة، ثم كرّ على استدلالهم المقصود بالإبطال بتبيين خطئهم. ونظيره قوله تعالى:(يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[المنافقون: 8].
وهذا النوع من القوادح في علم الجدل شديد الوقع على المناظر، فليس قول الرسل:(إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) تقريراً للدليل؛ ولكنه تمهيد لبيان غلط المستدل في الاستنتاج من دليله. ومحل البيان هو الاستدراك في قوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، والمعنى: أن المماثلة في البشرية لا تقتضي المماثلة في زائد عليها، فالبشر كلهم عباد الله والله يمُنّ على من يشاء من عباده بنِعَم لم يعطها غيرهم.
(1) يُنظر: التحرير والتنوير (9/ 293 - 296). ويُنظر: بديع القرآن (ص: 118).
فالاستدراك رفع لما توهموه من كون المماثلة في البشرية مقتضى الاستواء في كل خصلة" (1).
• الآية الخامسة:
قال تعالى حكاية عن محاورة المؤمن والكافر: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا) [الكهف: 37 - 38].
ضرب الله مثل حال الكافرين والمؤمنين كحال رجلين (2)؛ أحدهما: كافرٌ، والآخر: مؤمنٌ.
وذكر تعجب واستنكار المؤمن للكافر بقوله: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا).
وأصل (لَّكِنَّا)(لكن أنا)، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون (لكن)، فاجتمعت النونان، فأدغمت نون (لكن) في النون التي بعدها.
فقوله: (لَّكِنَّا) استدراك لقوله: (أَكَفَرْتَ)، كأنه قال لأخيه: أكفرت بالله! لكني مؤمن موحد؛ كما تقول: زيد غائب لكن عمرو حاضر (3).
فموقع الاستدراك مضادةُ ما بعد (لكن) لما قبلها؛ ولا سيما إذا كان الرجلان أخوين أو خليلين كما قيل؛ فإنه قد يتوهم أن اعتقادهما سواء (4).
(1) التحرير والتنوير (13/ 201).
(2)
وقيل: كانا أخوين في بني إسرائيل. يُنظر: اللباب في علوم الكتاب (12/ 483).
(3)
يُنظر: التفسير الكبير (21/ 108)؛ تفسير البيضاوي (3/ 498).
(4)
يُنظر: التحرير والتنوير (15/ 323).