الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
سادسًا: الاستدراك بقادح (الكسر):
المراد بقادح الكسر: عُرِّفَ عند علماء الأصول بتعريفين:
الأول: وجود الحكمة المقصودة من شرع الحكم مع تخلف الحكم عنها. (1)
مثال الكسر على هذا التعريف: أن يقول المستدل الحنفي: يجوز للمسافر العاصي الترخص بسفره قياسًا على المسافر غير العاصي، والسبب: المشقة الموجودة في السفر. فيقول المعترض: الحكمة التي ذكرتها -وهي المشقة- منقوضة بمشقة الحمالين وأصحاب الصنائع الشاقة في الحضر؛ فإنهم يجدون المشقة ولا رخصة لهم. (2)
والثاني- وهو الذي عليه أكثر علماء الأصول-: إسقاط وصف من أوصاف العلة المركبة وإخراجه عن الاعتبار بشرط أن يكون المحذوف مما لا يمكن اعتباره في حدِّ العلة، فهو نقض يرد على المعنى. (3)
ومثال الكسر على هذا التعريف: أن يقول المستدل الشافعي على وجوب أداء صلاة الخوف: صلاة يجب قضاؤها إذا لم تُفعل، فيجب أداؤها قياسًا على صلاة الأمن. فيقول المعترض: كونها صلاة لا تأثير له؛ إنما المؤثر وجوب القضاء، وهو منقوض بصوم الحائض؛ فإنه يجب قضاؤه ولا يجب أداؤه؛ بل يحرم. (4)
والكسر بالمعنى الثاني يسمى عند الأصوليين أصحاب التعريف الأول بـ"النقض المكسور"(5).
(1) يُنظر: الإحكام للآمدي (3/ 288)؛ شرح مختصر روضة الناظر (3/ 510)؛ تيسير التحرير (4/ 20)؛ نثر الورود (2/ 521).
(2)
يُنظر: الإحكام للآمدي (3/ 288)؛ شرح مختصر الروضة (3/ 510)؛ البحر المحيط (5/ 279).
(3)
يُنظر: المحصول (5/ 259)؛ المسودة (ص: 287)؛ البحر المحيط (5/ 278)؛ نثر الورود (2/ 521).
(4)
يُنظر: المحصول (5/ 259).
(5)
يُنظر: الإحكام (3/ 292)؛ شرح الكوكب المنير (4/ 64)؛ تيسير التحرير (4/ 22).
ووجه كونه قادحًا على المعنى الثاني (1): أن فيه إسقاط بعض أجزاء العلة ونقض الجزء الآخر، وإذا بطلت العلة بطل القياس.
• المثال الأول:
قال الشيرازي في مسألة (ترجيح العلة لقلة أوصافها): "إذا كانت إحدى العلتين أقل أوصافًا من الأخرى؛ فالقليلة الأوصاف أولى (2).
ومن أصحابنا من قال: هما سواء ....
واحتج المخالف بأن ذات الأوصاف وذات الوصف الواحد سواء في إثبات الحكم، فكانتا سواء عند التعارض.
قلنا: ينكسر بالخبر والقياس؛ فإنهما يتساويان في إثبات الحكم، ثم يقدم الخبر على القياس عند التعارض" (3).
• بيان الاستدراك:
اختار الشيرازي تقديم العلة الأقل وصفاً من الأخرى.
واستدل الخصم القائل بالتسويه بينهما: أن العلتين إذا تساوتا في إثبات الحكم دل ذلك على تساويهما عند التعارض.
(1) أما على المعنى الأول (تخلف الحكم عن حكمته) فقال الجمهور: إن هذا الكسر غير قادحٍ للعلة؛ لأنه غير واردٍ عليها، والقدح بهذا المعنى يتوجه على أساس القائلين بالتعليل بالحكمة. يُنظر: الإحكام للآمدي (3/ 228)؛ شرح مختصر الروضة (3/ 511)؛ نثر الورود (2/ 521).
(2)
ضرب لها مثالاً في شرح اللمع فقال: "مثل علتنا في إزالة النجاسة: أنه مائع لا يرفع الحدث؛ فلا يزيل النجس. وعلتهم: ما ئع طاهر مزيل للعين". والضمير في (علتهم) على الحنفية. يُنظر: شرح اللمع (2/ 957).
ويُنظر المسألة في كتب الفقه: الحاوي (1/ 45)؛ المبسوط (1/ 96).
(3)
التبصرة (ص: 302).
فاستدرك عليه الشيرازي بقادح الكسر، إذا تساوتا في إثبات الحكم فهذا ليس دليلاً على تساويهما عند التعارض، فقولك بأنهما (سواء في إثبات الحكم) ينكسر بالخبر والقياس؛ إذ إنهما يتساويان في إثبات الحكم، ثم عند التعارض لا يتساويان؛ بل يقدم الخبر على القياس.
• المثال الثاني:
قال ابن رشد في مسألة (العمل بخبر الواحد): "فأما قول الله عز وجل: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122]؛ فرأى بعضهم أنها قاطعة في العمل بأخبار الآحاد؛ إذ الطائفة تقع على النفر اليسير الذين لا يحصل اليقين بقولهم.
وأبو حامد يرى أنها ليست بقاطعة إلا في وجوب الإنذار، قال: وليس يلزم من وجوبه عليهم وجوب العمل به كما يجب على الشاهد الواحد؛ إذ الشهادة لا يعمل بها، قال: وبمثل هذا الاعتراض يضعف التمسك بقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159]، وبقوله صلى الله عليه وسلم:«نضَّرَ اللهُ امرءاً سَمعَ مقالتي فوَعَاهَا وَأدَّاهَا كَمَا سَمِعهَا» (1) الحديث (2) " (3).
فاستدرك ابن رشد على الغزالي بقوله: "وهذا القول منه لا معنى له؛ لأنه ما فائدة وجوب الإنذار إذا لم يجب العمل بنقلهم؟ ! وليس يشبه هذا الشاهد؛ فإنه إنما وجب عليه أداء الشهادة رجاء أن يأتي من عنده مثل شهادته فيقع العمل بها، اللهم إلا أن يقول القائل: عسى إن وجد الإنذار إنما لزم الآحاد ليتكثروا حتى يقع العلم
(1) أقرب رواية للفظ المذكور ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 80/ح: 16784)(4/ 82/ح: 16800)؛ سنن الترمذي، ك: العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع، (5/ 34/ح: 2658).
(2)
يُنظر: المستصفى (2/ 211 - 212).
(3)
يُنظر: الضروري في أصول الفقه (ص: 72).
الضروري بقولهم؛ لكن هذا ينكسر مما تقدم من أن ذلك كان يؤدي إلى تعطيل أكثر الأحكام. وإنما يشبه أن يظن أن الآية ليست بقاطعة ولا نصًّا في العمل بأخبار الآحاد، من جهة أن (الطائفة) اسم يقع على النفر اليسير والعدد الكثير الذي يمكن أن يقع اليقين بقولهم؛ بدليل قوله:«لا تزَالُ طَائفَةٌ من أمَّتِي» (1) الحديث؛ لكن الآية أظهر في أنه ليس المراد بالطائفة ههنا من يحصل العلم بنقلهم" (2).
• بيان الاستدراك:
ذكر ابن رشد أن بعض العلماء استدل بقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] في حجية العمل بخبر الواحد؛ حيثُ رأى أنها قاطعة في العمل بأخبار الآحاد؛ إذ معنى (الطائفة) يقع على النفر اليسير الذين لا يحصل اليقين بقولهم.
ثم ذكر استدراك الغزالي على الاستدلال بالآية في حجية خبر الواحد؛ حيث يرى أنها ليست بقاطعة في وجوب العمل على المُنذَر عند اتحاد المُنذِر؛ بل هي قاطعة في وجوب الإنذار، وقاس خبر المنذر بشهادة الواحد؛ فكما يجب على الشاهد الواحد إقامة الشهادة ولا يجب العمل بها لوحدها إلا إذا انضم غيرها إليها؛ فكذلك خبر المنذر يجب عليه إقامته ولا يجب العمل به لوحده إلا إذا انضم إليه غيره، فالآية عنده ليست قاطعة في وجوب العمل؛ بل في وجوب الإنذار. وبمثل هذا الاعتراض يضعف التمسك بقوله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}
(1) والحديث في الصحيحين، وتكملته:«لا تزال طَائفَةٌ من أمَّتِي ظَاهرِينَ حتى يَأْتِيَهمْ أَمرُ اللهِ وَهمْ ظَاهِرونَ» ، وهذا لفظ البخاري، يُنظر: صحيح البخاري، ك: الاعتصام بالكتاب والسنة، ب: قول النبي: صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وهم أهل العلم، (6/ 2667/ح: 6881)؛ صحيح مسلم، ك: الإيمان، ب: نزُولِ عيسى بن مريم حاكمًا بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، (1/ 137/ح: 156)؛ ك: الإمارة، ب: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، (3/ 1523 - 1524/ح: 1920، 1923).
(2)
يُنظر: الضروري في أصول الفقه (ص: 72).
[البقرة: 159]، وبقوله صلى الله عليه وسلم:«نضَّرَ اللهُ امرءاً سَمعَ مقالتي فوَعَاهَا وأدَّاهَا كَمَا سَمِعهَا» ؛ فإن الاستدلال بهما لا يدل على قطعية وجوب العمل على المُبلَّغ، بل هي قاطعة في وجوب التبليغ.
فاستدرك ابن رشد على استدرك الغزالي: بأن قوله هذا لا معنى له؛ لأنه لا يبقى فائدة في وجوب الإنذار إذا لم يعمل بنقلهم، وهذا لا يشبه ولا يقاس على الشاهد، فإن الشاهد إنما وجب عليه أداء الشهادة رجاء أن يأتي من عنده مثل شهادته فيُدلي بها، فيقع العمل بشهادتهم.
ثم قدر ابن رشد استدراكًا على قوله بأن يقول القائل: إن خبر المنذر يشبه الشاهد في هذا المعنى الذي ذكرته أيضًا؛ وذلك أن وجوب الإنذار على المُنذِر يلزم الآحاد ليتكثروا على تبليغ الإنذار، بعبارة أخرى: أن وجوب تبليغ الخبر يلزم كل من سمع هذا الخبر تبليغه حتى يقع العلم الضروري.
فأجاب ابن رشد على هذا الاستدراك المقدر بقادح الكسر؛ حيث وجدت الحكمة (وجوب الإنذار حتى يقع العلم الضروي) دون الحكم (عدم وجوب العمل بقول المنذر)، فانتقض قولكم بوجوب قبول خبر الواحد في القضاء بالشهود والأيمان والحكم بالاجتهاد وغيرها من الأحكام؛ حيث وجب التبليغ ووجب العمل به، وسبب انعدام الحكم لأن اعتباره يؤدي إلى تعطيل أكثر الأحكام.
ثم ذكر ابن رشد أن الاستدلال بالآية يمكن أن يُعترض عليه من جهة أخرى؛ وهي أن الآية ليست بقاطعة الدلالة، ولا نصًّا في العمل بأخبار الآحاد؛ وذلك لأن لفظ (الطائفة) يقع على النفر اليسير، ويقع كذلك على العدد الكثير الذي يمكن أن يقع اليقين بقولهم. ودليل أن لفظ (الطائفة) يستخدم في العدد الكثير قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تزَالُ طَائفَةٌ من أمَّتِي» الحديث.
ثم ذكر أن الظاهر المراد بلفظ (الطائفة) ليس من يحصل العلم بنقلهم؛ بل النفر اليسير.