الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المطلب الأول
استدراك الأصولي على نفسه، وتطبيقاته
وذلك بأن يكون للأصولي مصنفان فأكثر، فيذكر في أحدهما قولًا مخالفًا لما في المصنف الآخر، فيعلم أن قوله في المصنف المتأخر مستدرك على قوله الأول.
ومما سبق يمكن حد استدراك الأصولي على نفسه بأنه: تعقيب أصولي على لفظ أو معنى له سابق بما يخالفه في نفسه.
وشرح التعريف واضح مما سبق في حد الاستدراك.
واستدراك الأصولي على نفسه يدل على علو شأنه في العلم والدين.
ووجه الدلالة على علو شأنه في العلم: أنه يعرف به أنه كان طول عمره مشتغلاً بالطلب والبحث والتنقيب.
وأما في الدين: فلأنه يدل على أنه متى لاح له الحق أخذ به، ولم يتعصب لقوله الأول. (1)
وأقرر ذلك بالأمثلة التالية:
• المثال الأول:
الإمام الشيرازي له عدد من المصنفات، ومن المصنفات الأصولية: التبصرة واللمع وشرحه، والمطلع على هذه الكتب يجد الشيرازي يذكر رأيًا في التبصرة مخالفًا له في شرح اللمع، فيُعلم أن ما قرره في اللمع وشرحه هو ما استقر عليه؛ لأنه صنفه بعد التبصرة (2)، وعليه أقرر أنَّ ما في اللمع وشرحه استدراك للمخالف له في التبصرة.
(1) يُنظر: المحصول (5/ 394 - 395)؛ نهاية السول (2/ 969).
(2)
صرح الشيرازي في مقدمة اللمع أنه صنفه بعد التبصرة، يُنظر: اللمع (ص: 27)؛ الإمام الشيرازي: حياته وآراؤه الأصولية (ص: 173، 187، 198)؛ مقدمة تحقيق اللمع (ص: 14).
ولذلك أمثلة؛ منها:
• المثال الأول:
قال الشيرازي في التبصرة (1): "الوضوء والصلاة والزكاة والحج، أسماء منقولة من اللغة إلى معانٍ وأحكام شرعية، إذا أطلقت حملت على تلك الأحكام والمعاني.
ومن أصحابنا من قال: إنه لم ينقل شيء من ذلك عما وضع له اللفظ في اللغة؛ وإنما ورد الشرع بشرائط وأحكام مضافة إلى ما وضع له اللفظ في اللغة. وهو قول الأشعرية.
لنا:
…
".
وقال في شرح اللمع (2): "وأما إثبات الاسم من جهة عرف الشرع فهو أن يكون اللفظ في اللغة موضوعًا لمعنى ورود الشرع به في غيره وكثر استعماله فيه؛ حتى صار لا يعقل من إطلاقه إلا المعنى الذي أريد به في الشرع
…
فاختلف الناس في هذه الألفاظ: فذهب أكثرهم إلى أنها منقولة من اللغة إلى الشرع، وهو مذهب المعتزلة، ومن أصحابنا من قال:(الأسماء كلها مبقاة على موضوعاتها في اللغة لم يُنقل شيء منها إلى الشرع). وهو قول أهل الحق ومذهب أهل السنة
…
وقد نصرت في التبصرة أن الأسماء منقولة
…
".
• المثال الثاني:
الإمام الجويني صنف في أول حياته العلمية كتاب التلخيص في أصول الفقه لخص فيه آراء شيخه الباقلاني، ثم صنف البرهان في أصول الفقه والورقات في علم أصول الفقه، والمطلع على هذه الكتب يجد له آراءً في البرهان والورقات مخالفة لما في التلخيص، فيُعلم أن ما في البرهان والورقات مستدرك على المخالف لهما في التلخيص.
(1)(ص: 109 - 110).
(2)
(1/ 181 - 185).
ومن ذلك قوله في مسألة (دلالة الأمر المجردة عن القرائن) في التلخيص (1): "وأما العبارة الدالة على المعنى القائم بالنفس؛ نحو قول القائل: (افعل)؛ فمترددة بين الدلالة على الوجوب، والندب، والإباحة، والتهديد، فيتوقف فيها حتى يثبت بقيود المقال أو قرائن الحال تخصصها ببعض المقتضيات، فهذا ما نرتضيه من المذهب".
وهو في هذا يوافق شيخه الباقلاني (2).
وقال في البرهان (3) بعد ما ذكر قول القاضي ورده: "وقد تعين الآن أن نبوح بالحق ونقول: (افعل) طلب محض، لا مساغ فيه لتقدير الترك، فهذا مقتضى اللفظ المجرد عن القرائن".
ثم قال: "وأنا أبني على منتهى الكلام شيئًا يُقَرّبُ ما اخترته من مذهب الشافعي رحمه الله فأقول: ثبت في وضع الشرع أن التمحيض في الطلب متوعد على تركه، وكل ما كان كذلك لا يكون إلا واجبًا، وهذا منتهى المسألة وبالله التوفيق".
وفي الورقات (4) قال: "والأمر: استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب. والصيغة الدالة عليه (افعل)، وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه (5) ".
• المثال الثالث:
الإمام الغزالي صنف المنخول من تعليقات الأصول في بداية حياته العلمية، وكان يقرر في مسائله آراء شيخه إمام الحرمين الجويني (6)، ثم صنف المستصفى
(1)(1/ 261 - 262).
(2)
مختصر التقريب والإرشاد (2/ 27).
(3)
(1/ 212 - 223).
(4)
(ص: 19).
(5)
أي على الوجوب. يُنظر: شرح الورقات للمحلي (ص: 58).
(6)
وذكر ذلك في آخر كتابه فقال: "هذا تمام القول في الكتاب، وهو تمام المنخول من تعليق الأصول بعد حذف الفضول، وتحقيق كل مسألة بماهية العقول، مع الإقلاع عن التطويل، والتزام ما فيه شفاء الغليل، والاقتصار على ما ذكره إمام الحرمين رحمه الله في تعاليقه من غير تبديل وتزييد في المعنى وتعليل، سوى تكلف في تهذب كل كتاب، بتقسيم فصول، وتبويب أبواب؛ رومًا لتسهيل المطالعة عند مسيس الحاجة إلى المراجعة". المنخول (ص 504).
من علم الأصول في آخر حياته العلمية، وقد خالف فيه كثيرًا من آرائه التي قررها في المنخول (1)، وأذكر لذلك مثال: ترجيح العلة الناقلة أو المقررة (2) إذا وردتا على حكم واحد، فاختار الغزالي في المنخول تقديم العلة المقررة، فقال بعد إفساده للقول المخالف: "تقديم العلة الناقلة على العلة المستصحبة كما يقدم الراوي الناقل على المستصحب، وهذا فاسد؛ فإنا نظن أن الناقل أثبت في الرواية من المستصحب، ولا نتهمه في العلة، فلتقدم المستصحبة.
ثم يحتمل أن يقضي بالتعارض، ويتمسك بالاستصحاب استقلالاً.
ويحتمل أن يقال: هو ساقط في معارضته القياس، فلا يصلح إلا الترجيح" (3).
وما قرره في المنخول هو مذهب شيخه إمام الحرمين (4).
ونجده في المستصفى (5) اختار تقديم العلة الناقلة فقال: "وترجيح الناقلة
(1) للزيادة في هذا الجانب الاطلاع على رسالة الأستاذة أريج الجابري بعنوان: "المسائل الأصولية التي رجحها الإمام الغزالي في المستصفى مخالفًا ترجيحه لها في المنخول جمعًا ودراسة " رسالة ماجستير بجامعة أم القرى.
(2)
المراد بالعلة الناقلة: أي الرافعة لحكم الأصل والبراءة. وأما العلة المقررة: فهي المبقية لحكم الأصل والبراءة. يُنظر: البحر المحيط (6/ 191). ويُنظر هذا المعنى في نهاية السول (2/ 1000) عند حديثه عن الخبر الناقل والخبر المقرر.
ويمكن تمثيل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لطلق بن علي عندما سأله عن مس الذكر: «هل هو إلا بضعة منك؟ ! » ، فعلة عدم انتقاض الوضوء في الحديث هي: مس عضو لعضو من إنسان واحد لا يؤثر. وهذه العلة مبقية لحكم الأصل في عدم وجوب الوضوء. مع قوله صلى الله عليه وسلم: «من مس ذكره فليتوضأ» فعلة انتقاض الوضوء في الحديث هي: مس الذكر، وهذه العلة ناقلة لحكم الأصل - البراءة الأصلية -. والحديثان سبق تخريجهما في (ص: 259).
(3)
المنخول (ص: 448).
(4)
البرهان (2/ 1290).
(5)
(4/ 191).
عن حكم العقل على المقررة لأن الناقلة أثبتت حكمًا شرعيًا، والمقرر [ما](1) أثبت شيئًا
…
".
• المثال الخامس:
الرازي له في الأصول المحصول والمعالم، وقد اختلف قوله في المحصول عن المعالم في مسألة (تخصيص العموم بالقياس)؛ حيث قال في المحصول (2): "يجوز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس
…
لنا أن العموم والقياس
…
".
وقال في المعالم (3): "قال الأكثرون: تخصيص عموم القرآن بالقياس جائز، والمختار عندنا: أنه لا يجوز".
وقد علمنا أن المعالم صنفه بعد المحصول (4)، وبالتالي ما جاء في المعالم فهو استدراك على المحصول.
قال الزركشي: "يجوز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس عند الأئمة الأربعة
…
واختاره الإمام فخر الدين في المحصول؛ ولذلك استدل على ترجيحه حيث قال: لنا أن العموم والقياس
…
إلخ؛ لكنه اختار في المعالم المنع، وأطنب في نصرته، وهذا الكتاب موضوع لاختياراته، بخلاف المحصول فإنه موضوع لنقل المذهب، وتحرير الأدلة
…
" (5).
(1) ما بين المعقوفين من نسخة المطبعة الأميرية ببولاق مصر (2/ 405).
(2)
(6/ 96 - 102).
(3)
(2/ 381).
(4)
حيث أشار في المعالم إلى كتابه المحصول. يُنظر: مقدمة تحقيق شرح المعالم (1/ 49).
(5)
البحر المحيط (3/ 369 - 370).