الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المطلب الرابع: الاستدراك الأصولي
على الاستدلال، وتطبيقاته
مر معنا حد الاستدلال (1)، والمراد بالاستدراك على الاستدلال: تعقيب الاستدلال بما يخالفه في نفسه.
واستدراك الأصولي على الاستدلال من وجهين:
أحدهما: الاستدراك على الاستدلال بالدليل الإجمالي.
ثانيهما: الاستدراك على الاستدلال بالدليل التفصيلي.
• المراد بالاستدراك على الاستدلال بالدليل الإجمالي: التعقيب برد الاستدلال بالدليل الكلي.
فعدم اعتبار الدليل الإجمالي يدل على عدم الاستدلال به، فلو استدرك المستدرِك على المستدرَك عليه في دليله التفصيلي باستدلاله بدليل إجمالي لا يعتمده المستدرَك عليه؛ فاستدراكه مردود عليه؛ لأن من شروط الاستدراك على الخصم: أن يكون الدليل مسلمًا عنده.
وأقرره بالأمثلة التالية:
• المثال الأول:
ما ذكره ابن حزم في فصل (أقسام الأخبار عن الله تعالى) في القسم الثاني من الأخبار ما نقله الواحد عن الواحد؛ حيث ذهب إلى أن هذا القسم إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب العمل به، ووجب العلم بصحته أيضًا. فذكر أدلته في ذلك وأسئلة الخصم؛ ومنها: "وقال بعضهم: أنتم لا تقبلون الواحد في فلس؛
(1) يُنظر (ص: 281) من البحث.
فكيف تقبلونه في إثبات الشرائع؟
قال أبو محمد: هذا السؤال لا يلزمنا؛ لأننا لا نقيس شريعة على شريعة، ولا نتعدى ما جاءت به النصوص وثبت في القرآن والسنن، فصح البرهان كما ذكرنا بقبول خبر الواحد في العبادات والشرائع .... " (1).
• المثال الثاني:
ذكر الباجي في مسألة (دلالة صيغة الأمر المطلقة) دليل الخصم القائلين بحمل الصيغة على الندب بقوله: "أما هم فاحتج من نصر قولهم بأن الندب أقل ما يجب صرف الأمر إليه ليكون أمرًا وقد علم أن الواجب هو ما لحق الوعيد والذم بتركه من حيث هو ترك له على وجه ما، وذلك لا يجب بنفس الأمر؛ وإنما يجب بمعنى يزيد على الأمر، فثبت أن الأمر بمجرده موضوع للندب دون الإيجاب".
فاستدرك عليهم بقوله: "والجواب: أن اللغة إنما تثبت بالنقل؛ لا بالنظر والاستدلال، وهذا استدلال وقياس فلا يثبت به اللغة". (2)
• بيان الاستدراك:
استدرك الباجي على القائلين بحمل صيغة الأمر على الندب بأن استدلالهم مبني على قاعدة إثبات اللغة بالاستدلال والقياس، وهذا الاستدلال لا يلزم المالكية؛ لأنهم لا يجوزون إثبات اللغة بالقياس (3).
(1) الإحكام لابن حزم (1/ 109).
(2)
إحكام الفصول (1/ 205).
(3)
يُنظر: إحكام الفصول (1/ 304)؛ لباب المحصول (2/ 466 - 467)؛ مختصر ابن الحاجب (1/ 258).
• والمراد بالاستدراك على الاستدلال بالدليل التفصيلي: التعقيب برد الاستدلال بالدليل الجزئي.
فجنس الدليل هنا مُسلم به عند المستدرِك والمستدرَك عليه؛ ولكن الخلل في الاستدلال به في الدليل التفصيلي على مسألة أصولية معينة، ويمكن توضيحه بالأمثلة التالية:
• المثال الأول:
ذكر الآمدي من أدلة القائلين بوقوع التعبد بالقياس شرعًا: "وأيضًا قوله تعالى: {إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [إبراهيم: 10]، ووجه الاحتجاج به: أنهم أوردوا ذلك في معرض صدهم عما كان يعبد آباؤهم لما بينهم من المشابهة في البشرية، ولم ينكر عليهم ذلك، وهو عين القياس؛ فكان حجة.
فاستدرك على استدلالهم بالآية: "وهو ضعيف أيضًا لوجهين:
الأول: لا نسلم عدم النكير عليهم؛ فإن الآية إنما خرجت مخرج الإنكار لقولهم ذلك؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11].
الثاني: أنه وإن كان قياسًا وتشبيهاً في الأمور الحقيقية؛ فلا يلزم مثله في الأحكام الشرعية إلا بطريق القياس أيضًا، وهو محل النزاع" (1).
• المثال الثاني:
ذكر الصفي الهندي في مسألة (تخصيص الكتاب بخبر الواحد) من بين أدلة القائلين بعدم جواز التخصيص به: "القياس على النسخ فإنه لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد وفاقًا، والجامع بينهما: رفع المفسدة الناشئة من إلغاء الخاص.
(1) الإحكام للآمدي (4/ 34 - 35).
وجوابه: أنَّا نمنع الحكم أولاً؛ وهذا لأن بعض أهل العلم القائلين بجواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد يجوز نسخه به أيضًا" (1).
• بيان الاستدراك:
فالصفي الهندي عند استدراكه على استدلال الخصم لم يستدرك على استدلالهم بالدليل الكلي وهو القياس؛ وإنما استدرك على استدلالهم بالقياس في تقرير الدليل التفصيلي -تخصيص الكتاب بخبر الواحد-، فأجاب على استدلالهم بالقياس بأن حكم الأصل -لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد- ليس متفقًا عليه؛ بل من القائلين بجواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد يجوز نسخ الكتاب به.
(1) نهاية الوصول (4/ 1642).