الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المطلب الأول
المُستدرَك عليه
وهو الأصولي صاحب القول، أو المعنى الأول في عملية الاستدراك.
ويمكن حده بأنه: المُتعقَّب عليه في لفظه أو معناه الأصولي.
والمُستدرَك عليه له ثلاث حالات:
1 -
مُستدرَك عليه معلومًا في العملية الاستدراكية، فيسميه المستدرِك؛ ومن أمثلة ذلك:
أولاً: استدراك الشُّراح على أصحاب المتون؛ كاستدراك القرافي على الرازي في النفائس (1)، واستدراك الإسنوي على البيضاوي في نهاية السول (2)، واستدراك البَابَرْتِي (3)
على ابن الحاجب في الردود والنقود (4).
(1) جاء في مقدمته: "
…
أضع شرحًا أودعه بيان مشكله، وتقييد مهمله، وتحرير ما اختل من فهرسة مسائله، والأسئلة الواردة على متنه
…
". (1/ 91).
(2)
جاء في مقدمته: "
…
منبهًا فيه على أمور أخرى مهمة: أحدها: ذكر ما يرد عليه من الأسئلة التي لا جواب عنها أو عنها جواب ضعيف. الثاني: التنبيه على ماوقع فيه من الغلط في النقل. الثالث: تبين مذهب الشافعي بخصوصه
…
السابع: التنبيه على كثير مما وقع فيه الشارحون من التقريرات التي ليست مطابقة
…
" نهاية السول (1/ 3 - 5).
(3)
هو: أكمل الدين محمد بن محمد بن محمود بن أحمد الرومي البابرتي الحنفي، الفقيه، الأصولي، الأديب، النحوي، المتكلم، المفسر، عرض عليه القضاء مرارًا فامتنع. من مصنفاته: شرح الهداية المسمى" العناية"، وشرح أصول البزدوي المسمى "التقرير"، وله الحاشية على تفسير الكشاف، (ت: 786 هـ).
تُنظر ترجمته في: النجوم الزاهرة (11/ 302 - 303)؛ تاج التراجم (ص: 276 - 277)؛ الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة (4/ 250).
(4)
جاء في مقدمته: "
…
ومنهم الإمام المختصر المدقق جمال الدين ابن الحاجب، اختصر الإحكام اختصارًا كاد أن يخرجه عن الإفهام، فأغرب به بما أعجب ذوي الأوهام
…
وها أنا قد كشفت عن ساعدي نقد (للمختصر) يُنَبِّه الفطن على ما غفلوا من ماجد الأصحاب، وتعسفوا فتركوا إلى القشر ما هو محض اللباب
…
" (1/ 87 - 88).
ومثال ذلك: استدراك الأصفهاني والقرافي على الرازي في أن دلالة الإجماع قطعية، فقال الأصفهاني: واعلم أن المشهور أن الإجماع حجة قاطعة، وأنه يقدم على الأدلة كلها، ولا يعارضه دليل أصلاً. والمصنف خالف في هذه المسألة؛ فإنه يرى أن الإجماع لا يفيد إلا الظن، ومن المعلوم أن ذلك يظهر بالأدلة الدالة على كون الإجماع حجة، فإن كان فيها قاطع حصل المقصود؛ وهو القطع، وإن لم يكن فيها قاطع استحال القطع) (1).
وقال القرافي: (
…
فإن المصنف قد أكثر التشنيع في هذا المقام، وأداه صعوبة هذا الموضع إلى أن قال: الإجماع ظني، وهو خلاف إجماع من تقدمه كما حكاه هو هاهنا،
…
) (2).
ثانيًا: استدراك أصحاب الحواشي على الشراح؛ مثل: استدراك التفتازاني (3) على العضد، واستدراك المُطِيْعِي (4) على الإسنوي.
(1) الكاشف عن المحصول (5/ 368).
(2)
النفائس (6/ 2584).
(3)
جاء في مقدمته: "
…
وكأنهم احتظوا مني في بعض مظان اللَّبْس ومواقع الارتياب بما يفيد المرام، ويميط الحجاب، فالتمسوا تعليق حواش تزيل فضل القناع
…
". حاشية التفتازاني على شرح العضد (1/ 16).
(4)
هو: محمد بن بخيت بن حسين المطيعي - نسبة إلى بلدة المطيعة في أسيوط مصر- الحنفي، درس على كبار علماء الأزهر - ومنهم الشيخ الشربيني-، كان عالمًا بالأصول والفقه والتوحيد والتفسير والمنطق والفلاسفة وغيرها، وكان واسع الصدر، زاهدًا في المال، من مصنفاته:"إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة". وله في الأصول: "البدر الساطع على مقدمة جمع الجوامع"، و" تعليقات على نهاية السول"، (ت: 1354 هـ).
تُنظر ترجمته في: الفتح المبين للمراغي (3/ 181 - 187)؛ معجم المطبوعات العربية والمعربة (1/ 538 - 539)؛ الأعلام (6/ 50).
جاء في مقدمته: "
…
طلب مني بعض أفاضل أهل العلم أن أكتب على شرح الإسنوي المسمى (بنهاية السول على منهاج الوصول) للعلامة القاضي البيضاوي، تقييدات لطيفة، وتحقيقات شريفة، توضح ما أشكل على الطلاب في هذا العصر من معانيه، وتشمل الجواب على عما استشكله على المنهاج ولم يجب عنه فيه، مع بيان ما كان حقًّا من الاعتراض، بدون ميل عن الحق والاعتراض، وغير ذلك مما تدعو إليه حاجة الناظرين لإحقاق الحق، وتمييز الصواب من الخطأ". سلم الوصول لشرح نهاية السول (1/ 3).
مثال ذلك: ما ذكره الإسنوي من اعتراض الخصم على استدلال الجمهور بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] على حجية القياس بقوله: "إنه لا يلزم من الأمر بالاعتبار الذي هو القدر المشترك الأمر بالقياس؛ فإن القدر المشترك معنى كلي، والقياس جزئي من جزئياته، والدال على الكلي لا يدل على الجزئي"(1).
وذكر جواب البيضاوي على هذا الاعتراض، ثم أضاف جوابه فقال:"وقد يجاب بجواب آخر؛ وهو: أن الأمر بالماهية المطلقة وإن لم يدل على وجوب الجزئيات؛ لكنه يقتضي التخيير بينهما عند عدم القرينة، والتخيير يقتضي جواز العمل بالقياس، وجواز العمل به يستلزم وجوب العمل به؛ لأن كل من قال بالجواز قال بالوجوب"(2).
فاستدرك المطيعي على جواب الإسنوي فقال: "قال الإسنوي: (وقد يجاب بجواب آخر؛ وهو: أن الأمر بالماهية المطلقة وإن لم يدل على وجوب الجزئيات إلى آخره). أقول: يرد على هذا أن للخصم أن يقول: إن كونه يقتضي التخيير بينها عند عدم القرينة إنما يتم إذا لم نحمل الآية على الاتعاظ دون القياس الشرعي، وأما إذا حملناه على ذلك بقرينة صدر الآية فلا يقتضي التخيير؛ بل يتعين حمله على الاتعاظ، فيضطر أن يقول: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ويلغو هذا الجواب.
وأما قول الإسنوي: (وجواز العمل به يستلزم وجوب العمل به إلى آخره)،
(1) نهاية السول - مطبوع مع حاشية المطيعي- (4/ 14).
(2)
المرجع السابق.
فهو مسلم؛ لكنه لا يقطع عرق الإشكال إلا بالنظر لهؤلاء القائلين بذلك؛ لا بالنظر لمن لا يسلم هذا الاستلزام؛ لأنه ليس استلزاما عقليًا؛ بل هو اتفاقي فقط" (1).
ثالثًا: استدراك المختصرين على أصحاب المتون؛ كاستدراك سراج الدين الإرموي (2) والتبريزي (3) على الرازي في محصوله، وابن رشيق (4)
على الغزالي،
(1) سلم الوصول - حاشية المطيعي - (4/ 14).
(2)
جاء في مقدمته: "
…
ثم إن بعض من صدقت فيه رغبته، وتكاملت فيما يحتويه محبته، التمس مني أن أسهل طريق حفظه بإيجاز لفظه، ملتزمًا بالإتيان بأنواع مسائله، وفنون دلائله، مع زيادات من قبلنا مكملة، وتنبيهات على مواضع منه مشكلة،
…
" التحصيل (1/ 163).
(3)
جاء في مقدمته: "فهذا كتاب (تنقيح محصول ابن الخطيب في الأصول) حذفت زوائده، ورصعت فوائده، فتقرر معانيه، وتحرر مبانيه، وما صادفت في مطاويه من قول لا أرتضيه قررت الحق فيه على ما يقتضيه، من غير تزييف لمقاله، إلا إذا خفت وبالًا من أهماله، فهو على التحقيق وإن سمي تنقيحًا، تضمن تهذيبًا وتوشيحًا " تنقيح محصول ابن الخطيب في أصول الفقه (1/ 1 - 2).
والتبريزي هو: أبو الخير، المظفر بن أبي محمد، وقيل: ابن أبي الخير، ابن إسماعيل بن علي الرَّاراني التبريزي، كان أصوليًا فقيهًا شافعيًا، زاهدًا، صاحب عبادة كثيرة، وكان مقدمًا في العلوم. من مصنفاته:"التنقيح " اختصر فيه المحصول، كما صنف في الفقه " المختصر"، و " سمط المسائل"، (ت: 621 هـ) بشيراز.
تُنظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (8/ 373)؛ طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 409)؛ كشف الظنون (2/ 1002).
(4)
وجاء في مقدمته: "فقصدت إلى تلخيص معانيه، وتحرير مقاصده ومبانيه، وحذف ما يوجب الملال، ويقتضي الكلال والإملال، رغبة في تقليل حجمه، وإعانة للطالب على حفظه بصغر جرمه، مع التنبيه على ما يتعين التنبيه عليه، والتنكيت بما لابد من الإشارة إليه، وسميته: لباب المحصول في علم الأصول". لباب المحصول في علم الأصول (1/ 188).
وابن رشيق: أبو علي الحسين بن أبي الفضائل عتيق بن الحسين ابن رشيق الربعي، شيخ المالكية في وقته، كان عالمًا بأصول الفقه وأصول الدين والخلاف. من مصنفاته:"لباب المحصول في علم الأصول"، توفي بمصر سنة (632 هـ).
تُنظر ترجمته في: الدبياج المذهب (1/ 105)؛ شجرة النور الزكية (ص: 166)؛ حسن المحاضرة (1/ 379).
والطوفي (1) على ابن قدامة (2).
ومثال ذلك: استدراك ابن رشيق على الغزالي في مسألة (إذا دار اللفظ بين المعنى اللغوي والشرعي)، وكان حال المخاطَب يقتضي تعذر وقوع الفعل على الوضع الشرعي هل يكون ذلك قَرِينة تَصرِفَهُ إلى الوضع اللغوي؟ قال ابن رشيق: "اختار أبو حامد (3) حمله على موجب الوضع اللغوي؛ كقوله: «دعِي الصّلَاةَ أيَّامَ إقرائك» (4)، و «من باعَ حرًّا وأَكَلَ ثمَنَهُ» (5)، فإن الصلاة، وبيع الحر لا ينعقد شرعًا.
وهذا ليس بصحيح؛ فإن النهي لا يستدعي إلا إمكان وقوع الفعل المنهي عنه؛ ليتصور الانتهاء عنه بموجب النهي.
(1) جاء في مقدمة كتابه: "
…
مع تقريب الإفهام، وإزالة اللَّبْس عنه مع الإبهام
…
" مختصر الروضة (1/ 96).
(2)
هو: أبو محمد، عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، ثم الدمشقي، الصالحي، موفق الدين، الفقيه الأصولي، الزاهد الِإمام، شيخ الحنابلة في وقته. من مصنفاته:"روضة الناظرة وجنة المناظر " في أصول الفقه، و" المغني"، و" الكافي " في الفقه، (ت: 620 هـ).
تُنظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (22/ 165)؛ ذيل طبقات الحنابلة (3/ 281)؛ شذرات الذهب (7/ 155).
(3)
يُنظر: المستصفى (3/ 53).
(4)
بهذا اللفظ رواه الدراقطني من حديث فاطمة بنت أبي حبيش، يُنظر على الترتيب المذكور: ك: الحيض، (1/ 212/ح: 36)، وأصل الحديث في الصحيحين؛ يُنظر: صحيح البخاري، ك: الحيض، ب: إذا حاضت في الشهر ثلاث حيض
…
، (1/ 124/ح: 319)؛ صحيح مسلم، ك: الحيض، ب: المستحاضة وغسلها وصلاتها، (1/ 262/ح: 333).
(5)
جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: ثلَاثَةٌ أنا خَصمُهُمْ يوم القِيَامَةِ: رجُلٌ أَعطَى بي ثمَّ غدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حرًّا فأَكَلَ ثمَنَهُ، ورَجُلٌ استَأْجَرَ أجِيرًا فَاستَوْفَى منه ولم يُعطِ أَجرَهُ» . يُنظر: صحيح البخاري، ك: البيوع، ب: إثم من باع حرًّا، (2/ 776/ح: 2114)، ك: الإجارة، ب: إثم من منع أجر الأجير، (2/ 792/ح: 2150).
فأما الحكم بانعقاده وشرعيته فمحال؛ لأنه يلزم منه الجمع بين المشروعية ونفيها" (1).
رابعًا: استدراك على أصولي مسمى؛ ومن أمثلة ذلك:
• المثال الأول:
قال ابن قدامة في مسألة (حكم انعقاد الإجماع (2) بقول الأكثر): "ولا ينعقد الإجماع بقول الأكثرين من أهل العصر في قول الجمهور.
وقال محمد بن جرير (3) وأبو بكر الرازي (4):
ينعقد. وقد أومأ إليه
(1) لباب المحصول (2/ 483 - 484).
(2)
الإجماع في اللغة يطلق على معنيين: الأول: العزم على الشيء، ومنه قوله تعالى:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71].
الثاني: الاتفاق، يقال: أجمع القوم على كذا: إذا اتفقوا عليه. يُنظر: لسان العرب (3/ 198)؛ المصباح المنير (1/ 109)؛ القاموس المحيط (ص: 710) مادة: (جمع).
وفي الاصطلاح: اتفاق أهل الحَلِّ والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور. منهاج الوصول - مطبوع مع شرح الإسنوي- (2/ 735). ويُنظر تعريف الإجماع في: المحلى على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 156)؛ البحر المحيط (4/ 435 - 436)؛ شرح الكوكب المنير (2/ 210).
(3)
هو: أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد الطبري، الإمام الجليل، أحد كبار الأئمة ومجتهديهم، أكثر من الترحال، ولقي نبلاء الرجال، كان من أفراد الدهر علمًا، وذكاء، وكثرة تصانيف. من مصنفاته:"كتاب التفسير"، و"التاريخ"، و"اختلاف العلماء"، (ت: 310 هـ).
تُنظر ترجمته في: طبقات الفقهاء للشيرازي (ص: 102)؛ تذكرة الحفاظ (2/ 710)؛ طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (3/ 120).
(4)
هو: أبو بكر، أحمد بن علي الرازي، المعروف بالجَصَّاص، من كبار أئمة الحنفية، وانتهت إليه رئاستهم في زمانه، تفقه على أبي الحسن الكرخي، كان ورعًا زاهدًا. من مصنفاته:"أحكام القرآن"، وكتاب في "أصول الفقه"، و" شرح مختصر الطحاوي"، (ت: 370 هـ).
تُنظر ترجمته في: الجواهر المضيئة (1/ 220)؛ تاج التراجم (ص: 96)؛ الفتح المبين للمراغي (1/ 203).
أحمد رحمه الله.
ووجهه: أن مخالفة الواحد شذوذ، وقد نهي عن الشذوذ، قال عليه السلام:«عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ» (1). وقال: «الشَّيْطَانُ مَعَ الوَاحِدِ وهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» (2) " (3).
فاستدرك عليهما ابن قدامة بقوله: "والشذوذ يتحقق بالمخالفة بعد الوفاق. ولعله أراد به: الشاذ من الجماعة، الخارج على الإمام، على وجه يثير الفتنة؛ كفعل الخوارج (4) "(5).
(1) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وله طرق أخرى، يُنظر: مسند الإمام أحمد (4/ 278/ح: 18473 - 19370). وقال ابن عبدالهادي الحنبلي: " ليس بصحيح". يُنظر: تنقيح تحقيق أحاديث التعليق (1/ 280)؛ ويُنظر: تذكرة المحتاج (1/ 69)
(2)
من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مسند أحمد (1/ 18/ح: 114) (1/ 26/ح: 117)؛ سنن الترمذي، ك: الفتن، ب: ما جاء في لزُومِ الْجمَاعَةِ، (4/ 465/ح: 2165)؛ سنن النسائي الكبرى، معاشرة النساء، ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر عمر فيه، (5/ 387 - 388/ح: 9219 - 9222)؛ المستدرك على الصحيحين (1/ 197/ح: 387)(1/ 199/ح: 390). قال الترمذي: "هذا حَديثٌ حسَنٌ صَحيحٌ غَريبٌ". يُنظر: (4/ 465). وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين". يُنظر: (1/ 197). ويُنظر: نصب الراية (4/ 249).
(3)
روضة الناظر (1/ 402 - 403).
(4)
الخوارج: من اعتقد جواز الخروج على الإمام الحق الذي اتفقت عليه الجماعة، أو استحل قتال أهل الإسلام، وأصل هذه الفرقة الذين خرجوا على علي رضي الله عنه. وينقسم الخوارج إلى عشرين فرقة، يجمعهم القول بتكفير عثمان وعلي وأصحاب الجمل. ومن معتقدات هذه الفرقة: وجوب الخروج على الإمام الجائر. يُنظر: مقالات الإسلاميين (ص: 86)؛ الفَرْق بين الفِرَق (ص: 54)؛ الملل والنحل (1/ 114).
(5)
روضة الناظر (1/ 410 - 411).
• المثال الثاني:
قول الإسنوي في مسألة المطلق (1) والمقيد (2): "واعلم أن مقتضى إطلاق المصنف (3) أنه لا فرق في حمل المطلق على المقيد بين الأمر والنهي؛ فإذا قال: لا تعتق مُكَاتَبًا، وقال أيضًا: لا تعتق مُكَاتَبًا كافرًا؛ فإنا نحمل الأول على الثاني، ويكون المنهي عنه هو: إعتاق المكاتب الكافر.
وصرح به الإمام في المنتخب، وذكر في المحصول (4) والحاصل (5) نحوه أيضًا.
لكن ذكر الآمدي في الإحكام (6) أنه (لا خلاف في العمل بمدلولهما، والجمع بينهما في النفي؛ إذ لا تعذر فيه) هذا لفظه، وهو يريد أنه يلزم من نفي المطلق نفي المقيد فيمكن العمل بهما، ولا يلزم من ثبوت المطلق ثبوت المقيد.
(1) المطلق لغة: المرسل، يقال: أطلقت القول: إذا أرسلته من غير قيد ولا شرط، وناقة طالق: أي مرسلة ترعى حيث شاءت. يُنظر: لسان العرب (9/ 136 - 137)؛ المصباح المنير (2/ 376) مادة: (طلق).
وفي الاصطلاح: ما دل على الماهية بلا قيد. يُنظر: المحلى على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 39)؛ البحر المحيط (3/ 413)؛ إرشاد الفحول (2/ 3).
وقيل في حده أيضًا: اللفظ الدال على شائع في جنسه. يُنظر: روضة الناظر (2/ 101)؛ الإحكام للآمدي (3/ 5)؛ كشف الأسرار للبخاري (2/ 521)؛ بيان المختصر (2/ 349).
(2)
المقيد لغة: خلاف المطلق، وقيَّدته تقييدًا: جعلت القيد في رجله، ومنه تقييد الألفاظ بما يمنع الاختلاط، ويزيل الالتباس. يُنظر: لسان العرب (12/ 233)؛ المصباح المنير (2/ 521) مادة: (قيد).
اصطلاحاً: ما دل على الماهية بقيد من قيودها. وقيل: اللفظ الدال على معنى غير شائع في جنسه. يُنظر: كشف الأسرار للبخاري (2/ 521)؛ بيان المختصر (2/ 350)؛ إرشاد الفحول (2/ 4).
(3)
أي البيضاوي.
(4)
(3/ 144).
(5)
(2/ 383).
(6)
(3/ 8).
وتابعه ابن الحاجب وأوضحه فقال: (فإن اتحد موجبهما مثبتين فيحمل المطلق على المقيد)، ثم قال:(فإن كانا منفيين عمل بهما (1) .... وقد غلط الأصفهاني (2) المذكور في فهم كلام الآمدي وابن الحاجب، فادعى أن المراد منه: حمل المطلق على المقيد" (3).
2 -
مُستدرَك عليه مجهول في العملية الاستدراكية، فلا يسميه المستدرِك ويعبر عنه بـ: قيل، قال قوم، قال بعضهم، قال بعض أصحابنا، قال بعض الشافعية، قال بعض أصحاب الشافعي
…
وأذكر أمثلة فيما يلي:
أولاً: التعبير بـ (قيل):
قال الإسنوي في مسألة (تقسيم المأمور به إلى مُعَيَّن ومُخيَّر): "المذهب الثالث: أن الواجب مُعيَّن عند الله تعالى غير مُعيَّن عندنا، وهذا القول يسمى قول التراجم؛ لأن الأشاعرة ترويه عن المعتزلة (4)، والمعتزلة ترويه عن الأشاعرة (5)، كما قال في المحصول (6)، ولما لم يعرف قائله عبَّر المصنف عنه بقوله:(وقيل).
وهذا المذهب باطل؛ لأن التكليف بمعين عند الله تعالى غير معين للعبد، ولا طريق له إلى معرفته بعينه؛ من التكليف بالمحال" (7).
(1) مختصر ابن الحاجب (2/ 862).
(2)
المراد به شمس الدين محمد بن محمود الأصفهاني الشافعي، شارح المحصول - وسبق ترجمته في (ص: 69). ويُنظر قوله في الكاشف على المحصول (5/ 12).
(3)
نهاية السول (1/ 551 - 552).
(4)
يُنظر مثلاً: الإبهاج (2/ 237 - 238).
(5)
يُنظر: المعتمد (1/ 79).
(6)
(2/ 160).
(7)
نهاية السول (1/ 82).
ثانيًا: التعبير بـ (قال قوم):
ومن ذلك ما ذكره الآمدي في تعريف المباح: "وأما في الشرع فقد قال قوم: هو ما خُيِّر المرء فيه بين فعله وتركه شرعًا، وهو منقوض (1) بخصال الكفارة المخيرة؛ فإنه ما من خصلة منها إلا والمكفر مخير بين فعلها وتركها، وبتقدير فعلها لا تكون مباحة؛ بل واجبة. وكذلك الصلاة في أول وقتها الموسع مخير بين فعلها وتركها مع العزم، وليست مباحة؛ بل واجبة.
قال قوم: هو ما استوى جانباه في عدم الثواب والعقاب. وهو منتقض بأفعال الله تعالى؛ فإنها كذلك وليست متصفة بكونها مباحة" (2).
ثالثًا: التعبير بـ (قال بعضهم):
مثاله: ما قاله الآمدي عند حديثه عن المنطوق: "أما المنطوق فقد قال بعضهم: هو ما فهم من اللفظ في محل النطق. وليس بصحيح؛ فإن الأحكام المضمرة في دلالة الاقتضاء (3) مفهومة من اللفظ في محل النطق، ولا يقال لشيء من ذلك: منطوق اللفظ؛ فالواجب أن يقال: المنطوق: ما فهم من دلالة اللفظ قطعًا في محل النطق
…
" (4).
رابعًا: التعبير بـ (بعض أصحابنا):
مثاله: ما ذكره السمعاني في مسألة (الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أو
(1) النقض في الحدود: وجود الحد دون المحدود، وهو مفسد في الحدود. يُنظر: تقريب الوصول إلى علم الأصول (ص: 379)؛ القاموس المبين (ص: 292).
(2)
الإحكام للآمدي (1/ 165).
(3)
دلالة الاقتضاء: دلالة اللفظ على معنى يتوقف عليه صدق الكلام أو صحته عقلاً أو شرعًا. وسميت بذلك لأن استقامة الكلام تقتضي هذا المعنى وتستدعيه. يُنظر: الإحكام للآمدي (3/ 81)؛ كشف الأسرار للبخاري (1/ 438)؛ معجم مصطلحات أصول الفقه (ص: 202).
(4)
المرجع السابق (3/ 83 - 84).
المرة؟ ): "وقد قال بعض أصحابنا في الفرق بين الأمر والنهي: إن في حمل الأمر على التكرار ضيقًا وحرجًا يلحق الناس؛ لأنه إذا كان الأمر يقتضي الدوام عليه لم يتفرغ لسائر أموره، وتتعطَّل عليه جميع مصالحه. وأما النهي لا يقتضي إلا الكف والامتناع، ولا ضيق ولا حرج في الكف والامتناع؛ وهذا لأن الوقت لا يضيق عن أنواع الكف، ويضيق عن أنواع الفعل.
وهذا الفصل يضعف؛ لأن الكلام في مقتضى اللفظ في نفسه، وأما التضايق وعدم التضايق معنى يوجد من بعد، وربما يوجد وربما لا يوجد، فلا يجوز أن يعرف مقتضى اللفظ منه
…
" (1).
خامسًا: التعبير بـ (قال بعض الشافعية):
كما قال المحبوبي (2): "مسألة: قال بعض الشافعية: لا عموم للمجاز (3)؛ لأنه ضروري يصار إليه توسعة، فيقدر بقدر الضرورة.
قلنا: لا ضرورة في استعماله؛ لأنه إنما يستعمل لأجل الداعي الذي يأتي من بعد، وإذا لم تكن الضرورة الترديد في استعماله؛ بل يكون معنى الضرورة أنه إذا استعمل
(1) قواطع الأدلة (1/ 121 - 122).
(2)
هو: عبيد الله بن مسعود بن محمود بن أحمد المحبوبي البخاري، صدر الشريعة الأصغر ابن صدر الشريعة الأكبر، من علماء الحنفية، عالم محقق، وحبر مدقق، برع في الفقه وأصوله، وأصول الدين. من مصنفاته:"التنقيح " في أصول الفقه، وشرحه " التوضيح"، و" شرح الوقاية " في الفقه، توفي ببخارى سنة (747 هـ).
تُنظر ترجمته في: تاج التراجم (ص: 203)؛ الطبقات السنية (4/ 429)؛ الفوائد البهية (ص: 109).
(3)
المجاز: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له؛ لعلاقة بينه وبين ما وضع له. يُنظر تعريف المجاز في: أصول السرخسي (1/ 170)؛ الإحكام للآمدي (1/ 47)؛ شرح تنقيح الفصول للقرافي (ص: 44 - 45)؛ شرح الكوكب المنير (1/ 154).
اللفظ يجب أن يحمل على المعنى الحقيقي (1)، فإذا لم يمكن فعلى المجازي، فهذه الضرورة لا تنافي العموم، بل العموم إنما يثبت إن استعمله المتكلم وأراد به المعنى العام، ولا مانع لهذا؛ لأنه ما وجد في الاستعمال ضرورة، وهو أحد نوعي الكلام؛ بل فيه من البلاغة ما ليس في الحقيقة" (2).
سادسًا: التعبير بـ (قال بعض أصحاب الشافعي):
مثاله: قال الغزالي: "لا يجوز نسخ (3) النص القاطع المتواتر (4)
بالقياس (5)
(1) أي يحمل على الحقيقة، والمراد بالحقيقة: اللفظ المستعمل فيما وضع له. يُنظر تعريف الحقيقة في: الإحكام للآمدي (1/ 47)؛ إحكام الفصول (1/ 176)؛ أصول السرخسي (1/ 170)؛ شرح الكوكب المنير (1/ 149).
(2)
التوضيح شرح التنقيح للمحبوبي (1/ 195 - 196).
(3)
النسخ في لغة العرب يطلق على ثلاثة معانٍ:
1 -
الإزالة، ومنه نسخت الشمس الظلَّ؛ أي: أزالته. 2 - التغيير، ومنه: نسخت الريح آثار الديار؛ أي: غيرتها. 3 - النقل، ومنه نسخُ الكتاب؛ أي: نقله، والمنقول يمسمى: نُسخة. يُنظر: الصحاح (ص: 1037)؛ المصباح المنير (2/ 603) مادة: (نسخ).
وفي الاصطلاح عرف بتعريفات متعددة؛ منها: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه. يُنظر تعريفات النسخ عند الأصوليين في: روضة الناظر (1/ 219)؛ مختصر ابن الحاجب (2/ 971)؛ البحر المحيط (4/ 64)؛ فواتح الرحموت (2/ 53).
(4)
المتواتر في اللغة: المتتابع، ولا بد في التواتر - لغة- أن يحصل بين المتتابعين فترة، فإذا لم تحصل فهي مواصلة ومداركة. يُنظر: الصحاح (ص: 1122)؛ المعجم الوسيط (ص: 1009) مادة: (وتر).
وفي الاصطلاح: خبر جمع يمنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم على المحسوس. البحر المحيط (2/ 231). ويُنظر كذلك: التعريفات (ص: 256).
(5)
القياس في اللغة: التقدير، قست الشيء بالشيء: قدرته على مثاله. يُنظر: الصحاح (ص: 895)؛ لسان العرب (12/ 234) مادة: (قيس).
وفي الاصطلاح الأصولي عرف بتعريفات كثيرة لا يكاد يسلم تعريف منها من اعتراض، وأذكر تعريف البيضاوي للقياس؛ حيث صرح محمود الأصفهاني بأنه أنفع تعريف للقياس. يُنظر: شرح المنهاج للأصفهاني (2/ 634).
القياس في الاصطلاح: إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر؛ لا شتراكهما في علة الحكم عند المُثْبِت. يُنظر: منهاج الوصول مطبوع مع نهاية السول (2/ 791).
المعلوم بالظن (1) والاجتهاد (2)
…
وقال بعض أصحاب الشافعي: يجوز النسخ بالقياس الجلي (3) " (4).
• تنبيه: قد يكون المُستدرَك عليه معلومًا لدى المستدرِك؛ ولكنه لا يصرح باسمه في العملية الاستدراكية؛ كالإمام الغزالي مثلاً في كتابه المستصفى في أصول الفقه تجده في كثير من المواقع لا ينسب الأقوال إلى أصحابها بل يستعمل كلمة "قال قوم" أو "قيل"، وصنيعه هذا لا يدل على عدم معرفته بأصحابها؛ ولا يدل أيضًا على عدم اهتمامه بهم؛ بل الأظهر أنه يتبع في ذلك منهجه العام الذي يُنادي به دائماً
(1) الظن لغة: خلاف اليقين، وقد يستعمل في اليقين. يُنظر: المصباح المنير (2/ 386)؛ القاموس المحيط (ص: 1213) مادة: (ظنن).
وفي الاصطلاح: تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر. يُنظر: العدة (1/ 83)؛ إحكام الفصول (1/ 175)؛ الورقات (ص: 18).
(2)
الاجتهاد في اللغة: بذل الوسع والطاقة؛ ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته، قال بعضهم: بفتح الجيم وضمها: الطاقة، وقيل: المضموم: الطاقة، والمفتوح: المشقة. يُنظر: الصحاح (ص: 194)؛ المصباح المنير (1/ 112) مادة: (جهد).
وفي الاصطلاح: استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية. وهذا تعريف التاج الأرموي والبيضاوي، قال التاج السبكي:"وهو من أجود التعاريف". يُنظر التعريف في: الحاصل (3/ 265)؛ منهاج الوصول _مطبوع مع الإبهاج_ (7/ 2863)، ويُنظر قول التاج السبكي في الإبهاج (7/ 2864).
(3)
القياس الجلي: هو أحد قسمي القياس باعتبار درجة اقتضاء العلة للحكم في الفرع، ويسمى بالقياس في معنى الأصل، ويسمى أيضًا: القياس بنفي الفارق. وهو ما كان الفرع فيه أولى بالحكم من الأصل أو مساويًا له. يُنظر: الإحكام للآمدي (4/ 6)؛ شرح الكوكب المنير (4/ 207)؛ فواتح الرحموت (2/ 320)؛ القاموس المبين في اصطلاحات الأصوليين (ص: 243).
(4)
المستصفى (2/ 109).
في كتبه؛ وهو "لا تعرف الحق بالرجال، واعرف الحق تعرف أهله"(1). (2)
ومن أمثلة ذلك قوله: "ولا يُنسخ حكم بقول الصحابي (3): (نُسخ حكم كذا) ما لم يقل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نسخت حكم كذا)
…
وقال قوم: إن ذكر لنا ما هو الناسخ عنده لم نقلده (4)؛ لكن نظرنا فيه، وإن أطلق فنحمله على أنه لم يطلق إلا عن معرفة قطعية" (5).
فهذا القول ينسب إلى أبي الحسن الكَرْخِي (6)، ولم يصرح به الغزالي.
كما أن من أسباب عدم التصريح بالمستدرَك عليه: اشتهار القول عنه؛ مثل: قول الغزالي في مسألة الزيادة على النص قال: "الزيادة على النص (7) نسخ
(1) يُنظر: إحياء علوم الدين (1/ 23).
(2)
يُنظر مقدمة تحقيق د. حمزة حافظ لكتاب المستصفى (1/ 66).
(3)
قول الصحابي: هو مذهبه في المسألة الفقهية الاجتهادية؛ سواء أكان ما نقل عن الصحابي قولاً أم فعلاً. يُنظر: القاموس المبين في اصطلاحات الأصوليين (ص: 241).
(4)
التقليد لغة: من القلادة، وهي وضع الشيء في العنق مع الإحاطة به. ومن التقليد: تقليد العامل: توليته، كأنه جعل قلادة في عنقه. يُنظر: لسان العرب (12/ 172)؛ المصباح المنير (ص: 512) مادة: (قلد).
وفي اصطلاح الأصوليين: قبول قول الغير من غير دليل. يُنظر: المنخول (ص: 472)؛ المسودة (ص: 308)؛ تقريب الوصول (ص: 444)؛ فواتح الرحموت (2/ 400).
(5)
المستصفى (2/ 115).
(6)
يُنظر: المعتمد (1/ 418)؛ المحصول (3/ 381)؛ نهاية السول (1/ 617).
والكرخي هو: أبو الحسن، عُبيدُ اللهِ بن الحسن بن دلَاّل الكرخي، انتهت إليه رئاسة الحنفية، تفقه عليه أبو علي الشاشي والجصاص، كان كثير الصوم والصلاة، صبوراً على الفقر، واسع العلم، وكان مع ذلك رأسًا في الاعتزال. من مصنفاته:"شرح الجامع الصغير"، و" شرح الجامع الكبير"، و" المختصر"، أصابه الفالج في آخر عمره، (ت: 340 هـ).
تُنظر ترجمته في: البداية والنهاية (11/ 224 - 225)؛ طبقات المعتزلة (ص: 130)؛ لسان الميزان (4/ 98).
(7)
الزيادة على النص: إفادة خبر الآحاد حكمًا زائدًا على مقتضى نص قطعي من القرآن أو السنة المتواترة؛ بحيث لا تكون هناك دلالة ظاهرة على هذا الحكم الزائد في ظاهر النص المزيد عليه، وليس فيه ما ينفيه. ولا تخلو هذه الزيادة من:
- ألا تتعلق بحكم النص أصلاً؛ كزيادة إيجاب الصوم بعد إيجاب الصلاة؛ فإنه ليست نسخًا لإيجاب الصلاة بالإجماع.
- أن تتعلق الزيادة بحكم النص المزيد عليه؛ بأن تكون جزءًا أو شرطًا له؛ مثال كونها جزءًا له: زيادة ركعة في الصبح، أو عشرين سوطًا في الحد القذف. ومثال كونها شرطًا له: زيادة النية في الطهارة؛ حيث إن الشارع أمر بالطهارة مطلقًا بناء على أن النية ليست مستفادة من الآية؛ وإنما من الحديث.
- أن تتعلق الزيادة بحكم النص المزيد عليه ولا تكون شرطًا ولا جزءًا له؛ كزيادة التغريب على الجلد في زنى البكر.
ووقع الخلاف في القسم الثاني والثالث؛ حيث قال الجمهور بأن الزيادة في القسمين ليست نسخًا بخلاف الحنفية. يُنظر: شرح مختصر الروضة (2/ 291 - 292)؛ البحر المحيط (4/ 143)؛ معجم مصطلحات أصول الفقه (ص: 226 - 227).
عند قوم
…
" (1). ومعلوم أن أصحاب هذا القول هم الحنفية (2).
وكذلك ابن الحاجب في مختصره يذكر قول الإمام الرازي بلفظ "قيل" فلا يسميه تبعًا للآمدي. (3)
3 -
مُستدرَك عليه مقدرٌ عند المُستدرِك، ويعبر عنه في العملية الاستدراكية بصيغة الجملة الشرطية؛ مثل:"فإن قيل"، أو "فإن قال قائل"، أو "لقائل أن يقول"، وهذا النوع من المُستدرَك عليه يكثر وجوده في المصنفات الأصولية؛ لأن الغرض منه زيادة تقرير المذهب وتأكيده برفع ما يمكن أن يرد عليه من اعتراضات.
• ومن أمثلة "فإن قيل":
(1) المستصفى (2/ 70).
(2)
يُنظر: أصول السرخسي (2/ 82)؛ التوضيح شرح التنقيح للمحبوبي (2/ 85)؛ التقرير والتحبير (3/ 99)؛ فواتح الرحموت (2/ 91 - 92).
(3)
المعتبر (ص: 302).
• المثال الأول:
ما ذكره السرخسي في (فصل: في بيان الكتاب وكونه حجة) بعد أن ذكر أن "الكتاب هو: القرآن المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، المكتوب في دفات المصاحف، المنقول إلينا على الأحرف السبعة (1)
المشهورة نقلاً متواترًا؛ لأن ما دون المتواتر لا يبلغ درجة العيان ولا يثبت بمثله القرآن مطلقًا" (2). ثم أورد تقدير استدراك عليه فقال:
"فإن قيل: فقد أثبتم بقراءة ابن مسعود (3) رضي الله عنه {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} (4) كونه قرآنًا في حق العمل به، ولم يوجد فيه النقل المتواتر، ولم تثبتوا في التسمية مع النقل المتواتر كونها آية من القرآن في حكم العمل؛ وهو وجوب الجهر بها في الصلاة، وتأدي القراءة بها.
(1) اختلف العلماء بالمراد بالأحرف السبعة على أقوال كثيرة؛ منها: أنها سبعة أوجه من وجوه الاختلاف في اللغة العربية؛ كالاختلاف في الإبدال، والاختلاف بالزيادة والنقص، والاختلاف بالتقديم والتأخير، والاختلاف في تصريف الأفعال، والاختلاف في وجوه الإعراب، واختلاف الأسماء بالإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، والاختلاف في اللهجات؛ كالتفخيم والترقيق والإمالة. يُنظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 306 - 333)؛ الجامع لأحكام القرآن (1/ 77 - 82)؛ أصول الفقه الميسر (1/ 68 - 78).
ولعل الإمام السرخسي رحمه الله قصد القراءات السبع؛ بدليل قوله (المشهورة نقلاً متواترًا). وقد ذكر في معنى الأحرف السبع أنها القراءات السبع؛ ولكن هذا المعنى ضعفه عدد من العلماء. يُنظر: المراجع السابقة.
(2)
أصول السرخسي (1/ 279).
(3)
هو: أبو عبدالرحمن، عبدالله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، الإمام الحبر، أحد القراء، كان من السابقين الأولين، شهد بدرا، وهاجر الهجرتين، كان كثير الملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم، وشهد بعده مشاهد كثيرة منها: اليرموك، ومناقبه غزيرة، روى علمًا كثيرا، (ت: 32 هـ)، وأوصى أن يدفن بجنب قبر عثمان بن مظعون، فصلى عليه الزبير بن العوام، ودفن بالبقيع.
تُنظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (1/ 461)؛ مشاهير الأمصار (1/ 10)؛ الإصابة (4/ 233).
(4)
والقراءة المتواترة بدون لفظ "متتابعات"[المائدة: 89]، ويُنظر قراءة ابن مسعود في: أحكام القرآن للجصاص (4/ 121)؛ الجامع لأحكام القرآن (6/ 264 - 265)؛ فتح القدير للشوكاني (2/ 95).
قلنا: نحن ما أثبتنا بقراءة ابن مسعود كون تلك الزيادة قرآنًا؛ وإنما جعلنا ذلك بمنزلة خبر رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعلمنا أنه ما قرأ بها إلا سماعًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخبره مقبول في وجوب العمل به، وبمثل هذا الطريق لا يمكن إثبات هذا الحكم في التسمية؛ لأن برواية الخبر وإن علم صحته لا يثبت حكم جواز الصلاة، ولأنه ليس من ضرورة كونها آية من القرآن وجوب الجهر بها على ما بينا أن الفاتحة لا يجهر بها في الأخريين، وما كان ثبوته بطريق الاقتضاء يتقدر الحكم فيه بقدر الضرورة؛ لأنه لا عموم للمقتضى (1) " (2).
(1) عموم المقتضى: أن يكون المقام الذي يقدَّر فيه اللفظ المزيد يحتمل عدة تقديرات يستقيم الكلام بواحد منها، فيقدر ما يعم تلك الأفراد كلها.
فالمقتضِي - بكسر الضاد- هو اللفظ الطالب للإضمار؛ بمعنى أن اللفظ لا يستقيم إلا بإضمار شيء، وهناك مضمرات متعددة، فهل له عموم في جميعها أو لا يعم فيكتفى بواحدٍ منها؟
وأما المقتضَى - بفتح الضاد- فهو ذلك المضمر نفسه، هل نقدره عامًّا، أم نكتفي بخاص منه؟
مثاله قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عن أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وما اسْتُكْرِهُوا عليه» ، فيقدر ما يتوقف عليه صدق الخبر وهو لفظ (حكم)، وهذا اللفظ - المقتضَى - له عموم؛ حيث يشمل الحكم الدنيوي من حيث الصحة شرعًا، والحكم الأخروي من حيث المؤاخذة على الخطأ والنسيان والإكراه. واختلف الأصوليون في هذا العموم؛ فمنهم من يرى أن للمقتضَى عموم، ومنهم من يرى أن ليس له عموم مطلقًا. يُنظر: أصول السرخسي (1/ 248)؛ الإحكام للآمدي (2/ 306)؛ البحر المحيط (3/ 154)؛ إرشاد الفحول (1/ 472)؛ معجم مصطلحات أصول الفقه (ص: 302).
- وحديث «إن الله تجاوز عن أمتي .. » له طرق كثيرة؛ أصحها حديث ابن عباس رواه ابن حبان وابن ماجة والحاكم في المستدرك وقال: على شرط الشيخين. يُنظر: نصب الراية (2/ 64 - 65)(3/ 223). ويُنظر: صحيح ابن حبان، ك: إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة رجالهم ونسائهم، ذكر الأخبار عما وضع الله بفضله عن هذه الأمة (16/ 202/ج 7219)؛ سنن ابن ماجه، ك: الطلاق، ب: طلاق المكره والناسي (1/ 659/ح 2043)؛ مستدرك الحاكم، ك: الطلاق (2/ 216/ح 2801).
(2)
أصول السرخسي (1/ 281).
• المثال الثاني:
ما ذكره ابن العربي (1) في مسألة (تكليف الكفار بفروع الشريعة): "
…
فأما الجواز فظاهر؛ لأنه لا يمتنع أن يقال للكافر: صَلِّ، ويتضمن الأمر بالصلاة الأمر بشرطها في الإيمان؛ إذ لا يتوصل إلى فعلها إلا به،
…
فالدليل على وجود ذلك في الشرع ظواهر الكتاب، وأمثلها في التعليق قوله تعالى:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} [المدثر: 42 - 44].
فإن قيل: أراد تعالى: لم تك على اعتقاد المصلين.
قلنا: إنما يعدل عن الظاهر لضرورة داعية، ولا ضرورة ها هنا؛ لما تقدم من الجواز" (2).
• المثال الثالث:
ما ذكره الشاطبي (3)
في فصل العموم والخصوص عند حديثه عن المسألة الأولى: "إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة؛ فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان (4)
(1) هو: أبو بكر، محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالله بن أحمد المعافري الأندلسي، الإمام ابن العربي، الحافظ أحد الأعلام، ولد في إشبيلية، ورحل إلى المشرق، والتقى بالغزالي، ولي قضاء إشبيلية. صنف كتبًا في التفسير والحديث والفقه والأصول والأدب والتاريخ، ومن مصنفاته:"أحكام القرآن"، و" المحصول " في أصول الفقه، و" عارضة الأحوذي في شرح الترمذي"، (ت: 543 هـ) بقرب فاس.
يُنظر: الديباج المذهب (ص: 281)؛ طبقات الحفاظ (1/ 468)؛ نفح الطيب (2/ 26).
(2)
المحصول لابن العربي (ص: 27).
(3)
هو: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي، الغرناطي، كان عالماً بالفقه والأصول، حريصًا على اتباع السنة، من أئمة المالكية. من مصنفاته:"أصول النحو"، و" الاعتصام"، و" الموافقات"، (ت: 790 هـ).
تُنظر ترجمته في: نيل الابتهاج (ص: 48)؛ الفتح المبين للمراغي (2/ 204)؛ الأعلام (1/ 71).
(4)
قال الشيخ دراز: (قوله: قضايا الأعيان) كما ورد مسحه صلى الله عليه وسلم على عمامته، فلا يؤثر ذلك في قاعدة وجوب مسح نفس الرأس في الوضوء، ويكون مسح العمامة متى كانت روايته قوية مستثنى للعذر بجرح أو مرض بالرأس يمنع من مباشرة المسح عليها. يُنظر: هامش (1) في الموافقات (4/ 8). - وحديث المسح على العمامة أخرجه مسلم، ك: الطهارة، ب: المسح على الناصية والعمامة، (1/ 230 - 231/ح: 274) -.
وذكر الزركشي والشوكاني مثالًا على تخصيص العموم بقضايا الأعيان إذنه صلى الله عليه وسلم بلبس الحرير للحكة. يُنظر: البحر المحيط (3/ 405)؛ إرشاد الفحول (1/ 578). - وهذا الإذن من حديث أنس رضي الله عنه قال: «رَخَّصَ النبي صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِالرحمن في لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ بِهِمَا» . يُنظر: صحيح البخاري، ك: اللباس، ب: ما يرخص للرجال من الحرير للحكة (5/ 2196/ح: 5501)؛ صحيح مسلم، ك: اللباس والزينة، ب: إباحة لباس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها (3/ 1646 - 1647/ح: 2076) -.
ولا حكايات الأحوال (1).
والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن القاعدة مقطوع بها بالفرض؛ لأنا إنما نتكلم فى الأصول الكلية القطعية وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهمة، والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه .... الرابع: أنها لو عارضتها؛ فإما أن يُعملا معًا، أو يهملا، أو يعمل بأحدهما دون الآخر-أعني في محل المعارضة-؛ فإعمالهما معًا باطل (2)، وكذلك إهمالهما؛ لأنه إعمال للمعارضة فيما بين الظني والقطعي (3)، وإعمال الجزئي دون الكلي ترجيح له على الكلي، وهو خلاف القاعدة، فلم يبق إلا الوجه الرابع؛ وهو إعمال الكلي
(1) قال الشيخ دراز: كالحكايات عن عثمان وعمر رضي الله عنهما من تركهما في بعض الأحيان ما هو مشرع بالاتفاق _كالأضحية_ خوفًا من اعتقاد الناس فيه غير حكمه؛ كالوجوب مثلاً. يُنظر: هامش (2) من الموافقات (4/ 8).- أثر ترك الأضحية عن أبي سريحة الغفاري قال: «أدركت أبا بكر أو رأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان -في بعض حديثهم- كراهية أن يقتدى بهما» . وأبو سريحة الغفاري هو: حذيفة بن أسيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. يُنظر الأثر في: مصنف عبدالرزاق، ك: المناسك، ب: الضحايا (4/ 381/ح: 8139)؛ سنن البيهقي الكبرى، ك: الضحايا، ب: الأضحية سنة نحب لزومها ونكره تركها (9/ 265/ح: 18813) -.
(2)
قال الشيخ دراز: "لأنه يستلزم التكليف بالضدين معًا، وهو لا يجوز". هامش (2) الموافقات (4/ 9).
(3)
والقاعدة: أن المظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه. الموافقات (4/ 8). وقال الإسنوي: التعارض بين القطعي والظني ممتنع؛ لكون القطعي مقدمًا دائماً. يُنظر: نهاية السول (2/ 973).
دون الجزئي، وهو المطلوب" (1).
ثم أورد تقدير استدراك عليه فقال:
" فإن قيل: هذا مُشْكِل على بابي التخصيص (2) والتقييد؛ فإن تخصيص العموم (3) وتقييد المطلق صحيح عند الأصوليين بأخبار الآحاد وغيرها من الأمور المظنونة (4)، وما ذكرت جار فيها؛ فيلزم إما بطلان ما قالوه، وإما بطلان هذه القاعدة؛ لكن ما قالوه صحيح؛ فلزم إبطال هذه القاعدة.
فالجواب من وجهين:
أحدهما (5): أن ما فرض في السؤال ليس من مسألتنا بحال (6)؛ فإن ما نحن فيه
(1) الموافقات (4/ 8 - 9).
(2)
التخصيص: إخراج بعض ما يتناوله الخطاب عنه. وقيل في حده أيضًا: قصر العام على بعض مسمَّياته. يُنظر: المحصول (3/ 7)؛ مختصر ابن الحاجب (2/ 786)؛ شرح الكوكب المنير (3/ 267)؛ فواتح الرحموت (1/ 300).
(3)
العموم: تناول اللفظ لما صلح له. يُنظر: إحكام الفصول (1/ 176)؛ تقريب الوصول (ص: 137)؛ البحر المحيط (3/ 7).
(4)
يُنظر مسألة تخصيص العام بخبر الواحد والقياس عند الجمهور في: العدة (2/ 550 - 569)؛ البرهان (1/ 426 - 429)؛ مختصر ابن الحاجب (2/ 834 - 839، 852 - 858).
خلافًا للحنفية؛ فإنهم لا يجوزون تخصيص العموم من الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد والقياس؛ وذلك لأن دلالة العام عندهم قطعية، وخبر الواحد والقياس ظني، والظني لا يخصص القطعي؛ إلا إن خص العام القطعي بدليل قطعي فإنه يجوز تخصيصه بالظني كخبر الواحد والقياس؛ لأن دلالة العام بعد تخصيصه بقطعي دلالة ظنية، فيجوز تخصيصه بظني. يُنظر: أصول السرخسي (1/ 133 - 134)؛ الكافي شرح البزدوي (2/ 666 - 679)؛ المغني في أصول الفقه للخبازي (ص: 100 - 104)؛ شرح منار الأنوار (ص: 76 - 78).
(5)
ولم يذكر الوجه الثاني. أنظر حاشية رقم (5) من الموافقات (4/ 9).
(6)
يقصد بالمسألة (إذا ثبتت قاعدة عامة أومطلقة؛ فلا يؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان، ولا حكايات الأحوال).
من قبيل ما يتوهم فيه الجزئي معارضًا وفي الحقيقة ليس بمعارض؛ فإن القاعدة إذا كانت كلية ثم ورد في شيء مخصوص وقضية عينية ما يقتضي بظاهره المعارضة في تلك القضية المخصوصة وحدها مع إمكان أن يكون معناها موافقًا لا مخالفًا؛ فلا إشكال في أن لا معارضة هنا، وهو هنا محل التأويل (1) لمن تأول، أو محل عدم الاعتبار إن لاق بالموضع الاطراح والإهمال
…
وأما تخصيص العموم فشيء آخر؛ لأنه إنما يعمل بناء على أن المراد بالمخصِّص ظاهره من غير تأويل ولا احتمال، فحينئذ يعمل ويعتبر كما قاله الأصوليون، وليس ذلك مما نحن فيه" (2).
• ومن أمثلة "فإن قال قائل":
• المثال الأول:
ما ذكره الإمام الشافعي في (ابتداء الناسخ والمنسوخ) بعد أن قرر أن السنة لا تنسخ الكتاب؛ وإنما هي تبع للكتاب، ومفسرة معنى ما أنزل الله منه جُملاً (3). ثم أورد تقدير استدراك عليه فقال: "فإن قال قائل: فقد وجدنا الدلالة على أن القرآن يَنسخُ القرآن، لأنه لا مِثْلَ للقرآن، فأوجدنا ذلك في السنة.
قال الشافعي: فيما وصفت من فرض الله على الناس اتباع أمر رسول الله دليل على أن سنة رسول الله إنما قبلت عن الله، فمن اتبعها فبكتاب الله تبعها، ولا نجد خبرًا ألزمه الله خلقه نصًّا بيِّنًا إلا كتابه ثم سنة نبيه، فإذا كانت السنة كما وصفتُ لا شبه
(1) التأويل لغة: من آل الشيء يؤول أولاً ومآلاً: رجع، فالتأويل: تفسير ما يؤول إليه الشيء بمعنى: يرجع. يُنظر: الصحاح (ص: 63)؛ المصباح المنير (1/ 29) مادة: (أول).
وفي الاصطلاح: صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله. يُنظر: البرهان (1/ 115)؛ إحكام الفصول (1/ 176)؛ روضة الناظر (1/ 508)؛ تيسير التحرير (1/ 144).
(2)
الموافقات (4/ 9 - 11).
(3)
الرسالة (ص: 181).
لها من قول خلق من خلق الله؛ لم يجز أن ينسخها إلا مثلها، ولا مثل لها غير سنة رسول الله؛ لأن الله لم يجعل لآدمي بعده ما جعل له؛ بل فرض على خلقه اتباعه، فألزمهم أمره، فالخلق كلهم له تبع، ولا يكون للتابع أن يخالف ما فرض عليه اتباعه، ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافها، ولم يقم مقام أن ينسخ شيئًا منها". ثم قال بعد ذلك: "فإن قال قائل: هل تنسخ السنة بالقرآن؟
قيل: لو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي فيه سنة تبيِّن أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة، حتى تقوم الحجة على الناس، بأن الشيء ينسخ بمثله" (1).
• المثال الثاني:
ما ذكره الجَصَّاص في فصل جواز نسخ السنة بالقرآن: "والدليل على جواز نسخ السنة بالقرآن قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فإذا كان النسخ بيانًا لمدة الحكم على ما بينا؛ اقتضى عموم الكتاب جواز نسخ السنة به (2)
…
فإن قال قائل: إن هذا القول الذي عارضت به ما حكيت يرده ظاهر الكتاب؛ لأن الله تعالى قال: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، وقال تعالى:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101]، فقد أفصح الكتاب بأن بعضه ينسخ بعضًا.
قيل له: نقول لك: إنما أفصح الكتاب بوجود النسخ في القرآن ولا دلالة فيه على أنه نسخه بقرآن مثله أو بغيره؛ لأنه لا يمتنع أن يكون مراده: ما ننسخ من آية بسنة نوحي بها إليك نأت بخير منها" (3).
(1) الرسالة (ص: 183).
(2)
الفصول في الأصول (2/ 324).
(3)
المرجع السابق (2/ 327).
• المثال الثالث:
ما ذكره ابن حزم (1) في فصل إبطال القول بالعلل: "قال أبو محمد (2): فإن قال قائل: أنتم تنكرون القول بالعلل وتقولون بالأسباب فما الفرق بين الأمرين؟
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق -: أن الفرق بين العلة وبين السبب وبين العلامة وبين الغرض فروق ظاهرة لائحة واضحة وكلها صحيح في بابه، وكلها لا يوجب تعليلاً في الشريعة، ولا حكمًا بالقياس أصلاً، فنقول- وبالله تعالى التوفيق -:
إن العلة هي: اسم لكل صفة توجب أمرًا ما إيجابًا ضروريًّا، والعلة لا تفارق المعلول ألبتة؛ ككون النار علة الإحراق، والثلج علة التبريد، الذي لا يوجد أحدهما دون الثاني أصلاً، وليس أحدهما قبل الثاني أصلاً ولا بعده.
وأما السبب فهو: كل أمر فعل المختار فعلاً من أجله لو شاء لم يفعله؛ كغضب أدى إلى انتصار، فالغضب سبب الانتصار، ولو شاء المنتصر ألا ينتصر لم ينتصر، وليس السبب موجبًا للشيء المسبب منه ضرورة، وهو قبل الفعل المتسبب منه ولا بد" (3).
• ومن أمثلة "لقائل أن يقول":
• المثال الأول:
ذكر الآمدي في مسألة (الغاية التي يقع التخصيص إليها) قول أبي الحسين: "ومنهم من جعل نهاية التخصيص في جميع الألفاظ العامة جمعًا كثيرًا يعرف
(1) هو: أبو محمد، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، الفقيه المجتهد، الحافظ، العالم بعلوم جمة، كان شافعيًا ثم انتقل إلى مذهب أهل الظاهر. من مصنفاته:"الإحكام في أصول الأحكام"، و" الفصل في الملل والأهواء والنحل"، و"المحلى بشرح المجلّى بالحجج والآثار"، (ت: 456 هـ).
تُنظر ترجمته في: البداية والنهاية (12/ 91)؛ طبقات الحفاظ (ص: 436)؛ شذرات الذهب (3/ 299).
(2)
المراد به ابن حزم.
(3)
الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (8/ 563).
من مدلول اللفظ وإن لم يكن محدودًا، وهو مذهب أبي الحسين البصري (1) ".
ثم ذكر حجته فقال: "وأما حجة أبي الحسين البصري فإنه قال: لو قال القائل: قتلت كل من في البلد، وأكلت كل رمانة في الدار. وكان فيها تقدير ألف رمانة، وكان قد قتل شخصًا واحدًا أو ثلاثة، وأكل رمانة واحدة أو ثلاث رمانات؛ فإن كلامه يعد مستقبحًا مستهجنًا عند أهل اللغة. وكذلك إذا قال لعبده: من دخل داري فأكرمه، أو قال لغيره: من عندك، وقال: أردت به زيدًا وحده، أو ثلاثة أشخاص معينة أو غير معينة؛ كان قبيحًا مستهجنًا. ولا كذلك فيما إذا حمل على الكثرة القريبة من مدلول اللفظ فإنه يعد موافقًا مطابقًا لوضع أهل اللغة.
وهذه الحجة وإن كانت قريبة من السداد، وقد قلده فيها جماعة كثيرة؛ إلا أن لقائل أن يقول: متى يكون ذلك مستهجنًا منه، إذا كان مريدًا للواحد من جنس ذلك العدد الذي هو مدلول اللفظ وقد اقترن به قرينة، أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني مسلم.
وبيان ذلك النص وصحة الإطلاق:
أما النص فقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، وأراد بالناس القائلين: نعيم بن مسعود الأشجعي (2)
(1) هو: أبو الحسين، محمد بن علي بن الطيب البصري، من أئمة المعتزلة الكبار، وتلميذ القاضي عبدالجبار، إمام وقته في الأصول، ومن أذكياء زمانه. من مصنفاته:"المعتمد " في أصول الفقه، و" تصفح الأدلة"، و" نقض الشافعي في الإمامة"، (ت: 436 هـ).
تُنظر ترجمته في: فِرق وطبقات المعتزلة (ص: 125)؛ طبقات المعتزلة (ص: 105)؛ وفيات الأعيان (4/ 271).
يُنظر: المعتمد (1/ 236).
(2)
هو: أبو سلمة، نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي، صحابي مشهور، أسلم ليالي الخندق، وهو الذي خذل المشركين وبني قريظة. قتل نعيم في أول خلافة علي قبل قدومه البصرة في وقعة الجمل، وقيل: مات في خلافة عثمان.
تُنظر ترجمته في: الاستيعاب (4/ 1508)؛ الإصابة (6/ 461)؛ تهذيب التهذيب (10/ 415).
بعينه، ولم يعد ذلك مستهجنًا؛ لاقترانه بالدليل.
وأما الإطلاق فصحة قول القائل: أكلت الخبز واللحم وشربت الماء والمراد به واحد من جنس مدلولات اللفظ العام، ولم يكن ذلك مستقبحًا؛ لاقترانه بالدليل.
نعم إذا أطلق اللفظ العام وكان الظاهر منه إرادة الكل وما يقاربه في الكثرة، وهو مريد للواحد البعيد من ظاهر اللفظ من غير اقتران دليل به يدل عليه؛ فإنه يكون مستهجنًا" (1).
• المثال الثاني:
قال السراج الأرموي في مسألة (وقوع النسخ) في أدلة القائلين المثبتين للنسخ: "والمعتمد قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].
وجه الاستدلال: أن صحة التمسك بالقرآن إن توقفت على صحة النسخ وقد صح لصحة نبوته عليه السلام؛ فيصح النسخ وإن لم يتوقف تمسكنا بالآية المذكورة.
ولقائلٍ أن يقول: ملزومية الشيء لغيره لا تقتضي وقوعه ولا صحة وقوعه" (2).
• بيان الاستدراك:
احتج المثبتون للنسخ بأن الاستدلال بالقرآن متوقف على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكونها ناسخة لما قبلها، وحينئذ يقال: نبوته صلى الله عليه وسلم إن توقفت على نسخ الشرائع السابقة فقد حصل المطلوب، وإن لم تتوقف عليه فالآية تدل على جواز النسخ.
فاستدرك السراج الأرموي على هذا الاستدلال: بأن قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} جملة شرطية معناها: إن ننسخ نأت، وصدق الملازمة بين الشيئين لا يقتضي
(1) يُنظر: الإحكام للآمدي (2/ 347 - 349).
(2)
التحصيل (2/ 11).
وقوع أحدهما، ولا صحة وقوعه؛ لجواز اللزوم بين المحالين (1)، وذلك بأن يكون الشرط والجزاء محالين.
• المثال الثالث:
قال ابن السبكي في شروط المجتهد: "وشرط الإمام (2): أن يكون عارفًا بالدليل العقلي، وعارفًا بأننا مكلفون به.
وقد اتبع في ذلك الغزالي؛ فإنه ذكر ذلك ولم يذكر القياس (3)، وكأنهما (4) تركاه لكونه متفرعًا عن الكتاب والسنة.
ولكن لقائل أن يقول: الإجماع والعقل أيضا كذلك، فَلِمَ ذكرا قوله" (5).
- فائدتان:
1 -
كان السراج الأرموي إذا بدا له تدوين استدراك على المحصول ابتدأها بقوله: "ولقائل أن يقول" تمييزًا لها عما ورد في الكتاب، وعبارته هذه تدل على ذوق سليم وأدب رفيع كان يتحلى بها السراج الأرموي؛ حيث نسب الاستدراك لمجهول تواضعًا منه. (6)
2 -
ذكر القرافي فرقًا في دلالة "لقائل أن يقول" و"فإن قيل" أو "فإن قلت" عند الإمام الفخر الرازي:
(1) نهاية السول (1/ 588).
(2)
أي الرازي، يُنظر: المحصول (6/ 25).
(3)
يُنظر: المستصفى (4/ 5 - 11).
(4)
أي الغزالي والرازي.
(5)
يُنظر: الإبهاج (7/ 2901).
(6)
من كلام د. عبدالمجيد أبو زنيد في تحقيقه للتحصيل (1/ 131).
فمتى قال: (ولقائل أن يقول) فهو عنده قوي؛ لأنه ابتدأه بلام الاختصاص التي هي للثبوت، فهو متمكن القدم في الثبوت.
ومتى قال: (فإن قيل، أو فإن قلت) فهو عنده متقارب في البعد من ظهور الفساد وللصحة؛ لأن (إِن) في لسان العرب للشك، فلا تدخل ولا يعلق عليها إلا المشكوك فيه، فلا تقول: إن زالت الشمس أكرمتك. (1)
(1) نفائس الأصول (1/ 155).