الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المطلب الثاني: استدرك الأصولي
على موافق له في المذهب، وتطبيقاته
وذلك بأن يستدرك الأصولي على أصولي آخر موافق له في المذهب؛ سواء كانت الموافقة في المذهب العقدي، أو المذهب الفقهي.
وبالتالي يمكن حده بأنه: تعقيب أصولي على ما يذكره أصولي موافق له في المذهب بما يخالفه في نفسه.
والتعريف واضح مما سبق ذكره في تعريف الاستدراك.
•
أولاً: استدراك الأصولي على موافق له في المذهب العقدي
، وله أمثلة:
• المثال الأول:
ذكر إمام الحرمين في مسألة (الفعل حال حدوثه مأمور به أم لا؟ ) مذهب الأشعري فقال: "ذهب الأصوليون من أصحاب الشيخ أبي الحسن رضي الله عنه إلى أن الفعل في حال حدوثه مأمور به، ونقلوا عن المعتزلة خلافهم في ذلك، ومصيرهم إلى أنَّ الحادث لا يتصف بكونه مأمورًا به في حال حدوثه (1)
…
ومذهب أبي الحسن رضي الله عنه متخبط عندي في هذه المسألة. فأما مصيره إلى تعلق القدرة الحادثة بالحادث في حال حدوثه فلست ألتزم الآن ذكر مباحثي عنه؛ ولكن أكشف السرَّ في مقصود المسألة، وأضمنه رمزًا ليستقل به المستقل البصير فيما هو المختار الحق، ولتقع البداية أولاً بغرض المسألة فأقول:
أولاً: لا حاصل لتعلق حكم الأمر بالقدرة على مذهب أبي الحسن رحمه الله؛ فإن القاعد في حال قعوده مأمور بالقيام باتفاق أهل الإسلام، ولا قدرة له على القيام
(1) يُنظر: المعتمد (1/ 165 - 167).
عند أبي الحسن في حالة القعود، فكيف يستتب له تلقي حكم تعلق الأمر من تعلق القدرة، ومن لا قدرة له أصلاً مأمور عنده؟ ثم لو تنزلنا على حكمه في المصير إلى أن الحادث مقدور؛ فيستحيل مع ذلك كونه مأمورًا به؛ فإن اقتران القدرة بالحادث معناه أنه بها وقع، وهي في اقتضائها له نازلة منزلة العلة المقترنة بالمعلول الموجبة على رأي من يثبت العلة والمعلول، فهذا وجه هذه المسألة إن اتجه.
وإن تفطن ذكيٌّ لوجه الحق خطر له في معارضة ذلك أن القدرة لا توجب المقدور لعينها؛ إذ لو أوجبته لاستحال خلو القدرة عن المقدور، وذلك يبطلُ إثبات القدرة الأزلية؛ فإنها غير مقارنة للحوادث، فلو فرض اقتران العالم بها لكان أزليًا، والأزلي يستحيل أن يكون مقدورًا، وفي خروجه عن كونه مقدورًا سقوط القدرة: فإن القدرة من غير مقدور محال.
ومن أنصف نفسه علم أن معنى القدرة: التمكن من الفعل، وهذا إنما يعقل قبل الفعل، وهو غير مستحيل في واقع حادث في حالة الحدوث.
فلو سلم مُسلِّم لأبي الحسن رحمه الله ما قاله في القدرة جدلاً من تنزيل القدرة مع المقدور منزلة العلة مع المعلول - وهيهات أن يكون الأمر كذلك، ولو كان- فلا يتحقق معه كون الحادث مأمورًا به؛ فإن الأمر طلب واقتضاء، وكيف يُتصور أن يُطلب كائن ويقتضى حاصل؟ فقد لاح سقوط مذهبه في كل تقدير.
نعم قد يقال في الحادث: هذا هو الذي أُمِرَ المخاطَب به، فأما أن ينجزم القول في تعلق الأمر به طلبًا واقتضاء مع حصوله؛ فلا يرتضي هذا المذهب لنفسه عاقل" (1).
• بيان الاستدراك:
المراد من هذه المسألة: أن التكليف هل يتوجه إلى المخاطب عند المباشرة للفعل أو قبلها؟ وإذا توجه قبلها فهل يستمر إلى وقتها؟ فالنزاع في وقت تعلق القدرة بالمقدور.
(1) البرهان (1/ 276 - 279).
فعند الأشاعرة الاستطاعة مع الفعل؛ وذلك لأن الاستطاعة عرض (1)، والعرض لا يبقى زمانين، فالقدرة إنما توجد زمان الملابسة للفعل، والفعل إنما يكون ممكنًا زمان حالة الملابسة، وأما قبله فيستحيل، فلا يؤمر بالفعل إلا حال الملابسة به.
وخالف الجويني - وهو أشعري الاعتقاد (2) - الأشعري في ذلك، وذهب إلى أن القدرة قبل الفعل، وانقطاعها حالة وجود الفعل، وما ليس بمقدور لا يؤمر به. (3)
• المثال الثاني:
قال السيف الآمدي: "يجوز أن يكون المحرم أحد أمرين لا بعينه عندنا، خلافًا للمعتزلة (4)؛ وذلك لأنه لا مانع من ورود النهي بقوله: لا تكلم زيدًا أو عمرًا، وقد حرمت عليك كلام أحدهما لا بعينه، ولست أحرم عليك الجميع ولا واحدًا بعينه، فهذا الورود كان معقولاً غير ممتنع، ولا شك أنه إذا كان كذلك؛ فليس محرم مجموع كلاميهما، ولا كلام أحدهما على التعيين؛ لتصريحه بنقيضه، فلم يبقَ إلا أن يكون المحرم أحدهما لا بعينه"(5).
فاستدرك عليه القرافي بقوله: "ونحن نمنع أن ما قاله متصور في غير تحريم المجموع
…
فما قاله غير متصور أصلاً، والحق في هذا ما نسبه للمعتزلة دون ما نسبه
(1) سبق تعريف العرضي (ص: 94).
(2)
وذكر أنه رجع في آخر حياته إلى عقيدة أهل السنة والجماعة وقال عند موته: "لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمة فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور". يُنظر: شرح العقيدة الطحاوية (1/ 245).
(3)
يُنظر: المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين (ص: 146 - 148).
(4)
يُنظر: المغني للقاضي عبدالجبار (17/ 135)؛ المعتمد (1/ 170).
(5)
الإحكام (1/ 153 - 154).
لأصحابنا" (1).
• بيان الاستدراك:
يرى جمهور المعتزلة أن ورود النهي متعلق بأشياء على جهة التخيير يقتضي المنع في الكل، وهذا مبني على أصل عندهم؛ وهو أن النهي يدل على قبح المنهي عنه، فإذا نهي عن أحدهما لا بعينه ثبت القبح لكل منهما، فيمتنعان جميعًا، وهذا مبني على قاعدة (التحسين والتقبيح). (2)
وجمهور الأشاعرة (3) وأهل السنة (4) يذهبون إلى جواز تحريم واحد لا بعينه.
واستدرك القرافي على الآمدي -وكلاهما على مذهب الأشاعرة- قوله: "فليس محرم مجموع كلاميهما" بأن النهي على التخيير إنما يتصور في هذه الصورة -وهي تحريم الجمع-؛ أي أن متعلق النهي هو الجمع بينهما، وكل واحد منهما ليس منهيًا عنه، كالأختين فإن كل واحدة منهما في نفسها ليست محرمة؛ بل المحرم هو الجمع بينهما (5)، وصوب في ذلك مذهب المعتزلة؛ لأن النهي متعلق بمشترك حرمت أفراده كلها.
(1) نفائس الأصول (1/ 271 - 274).
(2)
يُنظر: الوصول إلى الأصول (1/ 200)؛ شرح الكوكب المنير (1/ 338)؛ المهذب في أصول الفقه (1/ 308). وقال القرافي: "ومنشأ الخلاف: أن الأشياء عندنا ما حسنت ولا تجب لصفاتها، بل بالشرع، وعندهم لصفاتها، فإذا خير بينهما فقد استويا في المفسدة، فيترك الجميع". نفائس الأصول (4/ 1721).
(3)
يُنظر: التبصرة (ص: 54)؛ الوصول إلى الأصول (1/ 199 - 201)؛ نهاية الوصول (2/ 617 - 619).
(4)
يُنظر: العدة (2/ 428)؛ المسودة (ص: 64)؛ شرح الكوكب المنير (1/ 338 - 389).
(5)
يُنظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي (ص: 173).