الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذا تقرر هذا فسأذكر ما يسره الله لي من نماذج استدراك تصحيح خطأ المستدرَك عليه مع بيان سبب الخطأ فيما يلي:
•
السبب الأول: النقل من مصادر غير أصيلة
.
من خصائص المنهج العلمي: أن من نقل عن أحد قولاً أو مذهبًا وثق ذلك من كتبه إن كان له مصنف، وإن لم يوجد فمن كتب مذهبه أو من أحد المعروفين من أصحابه بالعلم.
أما نقل قول لم يقله الإمام ولا أحد من المعروفين من أصحابه بالعلم، والنقل عن كتب المخالفين لهم؛ فهذا قصور في البحث العلمي، وسبب للوقوع في الخطأ.
وأذكر لهذا السبب الأمثلة التالية:
• المثال الأول:
ما ذكره إمام الحرمين الجويني في مسألة (حد العلم): "وعن ذلك نقل
النقلةُ عن عبدالسلام بن الجبائي - وهو أبو هاشم (1) - أنه كان يقول: العلم بالشيء والجهل به مثلان. وأطال المحققون ألسنتهم فيه، وهذا عندي غلط عظيم في النقل، فالذي نص عليه الرجل في كتاب الأبواب (2): أن العقد الصحيح مماثل للجهل. وعَنَى بالعقد: اعتقاد المقلد" (3).
(1) هو: أبو هاشم، عبدالسلام بن محمد بن عبدالوهاب بن سلام الجبائي، يعتبر من رؤوس المعتزلة. من مصنفاته:" تفسير القرآن " و" الجامع الكبير"، (ت: 321 هـ).
تُنظر ترجمته في: فرق وطبقات المعتزلة (ص: 100)؛ طبقات المفسرين للداوودي (1/ 307)؛ شذرات الذهب (2/ 289).
(2)
ذكر د. عبدالعظيم الديب - محقق البرهان-: أنه لم يعثر على كتاب الأبواب للجبائي، ولم ينسبه إليه أحد. يُنظر: هامش رقم (5) من تحقيق البرهان (1/ 121).
(3)
البرهان (1/ 121).
• المثال الثاني:
قال الجويني في تقسيم العلل والأصول في القسم الرابع: "
…
وذهب مالك رحمه الله في طوائف من السلف إلى وجوبها (1)، وإسعاف العبد إذا طلبها، ووجد فيها خيرًا
…
" (2).
فاستدرك عليه الأبياري (3): "وأما قوله: إن مالكًا رحمه الله ذهب إلى وجوبها، وإسعاف العبد إذا طلبها؛ فليس الأمر كذلك، وليس هذا مذهب مالك رحمه الله ولا أحد من أصحابه فيما علمناه، نعم تردد أصحابنا هل هي مباحة نظرًا إلى جانب المعاوضة، أو مندوب إليها، أو سبب إلى العتق؟ وأما الوجوب فلا ذاهب إليه بحال (4) "(5).
• المثال الثالث:
ما ذكره الإمام الجويني في استدراكه على الإمام مالك رضي الله عنه في إباحته قتل ثلث الأُمة لصلاح الثلثين حيثُ قال: "
…
ومالك التزم مثل هذا في تجويزه لأهل الإيالات القتل في التهم العظيمة؛ حتى نقل عنه الثقات أنه قال: أنا أقتل ثلث الأُمة لاستبقاء ثلثيها" (6).
(1) أي: وجوب الكتابة.
(2)
البرهان (2/ 948).
(3)
هو: أبو الحسن، علي بن إسماعيل بن علي بن عطية الأبياري، المالكي، شمس الدين، عالم بالفقه والأصول والحديث. من مصنفاته:"التحقيق والبيان في شرح البرهان" و"سفينة النجاة" سار في تصنيفها على طريقة الغزالي في الإحياء، (ت: 618 هـ).
تُنظر ترجمته في: تاريخ الإسلام (44/ 305)؛ الدبياج المذهب (1/ 213)؛ شجرة النور الزكية (1/ 166).
(4)
يُنظر مذهب المالكية في المكاتبة في: المدونة (7/ 230)؛ التلقين (2/ 522)؛ القوانين الفقهية (ص: 249)؛ بداية المجتهد (4/ 1615).
(5)
التحقيق والبيان (3/ 571 - 572).
(6)
البرهان (2/ 1133). ويُنظر كذلك (2/ 1206 - 1207).
فتعقبه الأبياري مستدرِكًا: "أما قوله: إن مالكًا رحمه الله التزم مثل هذا؛ حيث جوَّز لأهل الإيالة القتل في التهم العظيمة، وهذا الذي ذكره عن مالك لم يقف عليه، ولا يعترف به أصحابه
…
" (1).
وتعقبه كذلك القرافي بقوله: "
…
وكذلك ما نقله (2) عن الإمام في البرهان من أن مالكًا يُجيز قتل ثلث الأُمة لصلاح الثلثين، المالكية ينكرون ذلك إنكارًا شديدًا، ولم يوجد في كتبهم؛ إنما هو في كتب المخالف لهم ينقله عنهم، وهم لم يجدوه أصلاً" (3).
• بيان الاستدراك:
هذا الاستدراك مركب من استدراكين؛ وهما:
الاستدراك الأول: استدرك الإمام الجويني على الإمام مالك فتواه: قتل ثُلث الأُمة لصلاح الثلثين بطريق المصلحة المرسلة (4)، فاستدرك عليه الجويني بأن هذه مصلحة مُلغاة (5)؛ لأن السلف يتحرزون من القتل، ولا يُريقون دمًا حتى يشهد أصل من الشريعة بجوازه.
الاستدراك الثاني: استدراك الأبياري والقرافي على الإمام الجويني عدم صحة النقل، فاستدراك الجويني لم ينقله من كتب الإمام مالك أو كتب المالكية
(1) التحقيق والبيان في شرح البرهان في أصول الفقه (4/ 176).
(2)
أي التبريزي، فكلام القرافي تعليقًا على حكايته، ولم أجد نقل التبريزي لكلام إمام الحرمين في تنقيح المحصول.
(3)
نفائس الأصول (9/ 4092).
(4)
المصلحة المرسلة: هي التي لم يشهد الشارع لها بالاعتبار ولا بالإلغاء بدليل خاص، ويعبر عنها بالمناسب المرسل. يُنظر: الأحكام للآمدي (4/ 195)؛ نهاية السول (2/ 859)، ويعبر عنها بعض الأصوليين بالاستصلاح، والمناسب المرسل، والقياس المرسل. يُنظر: المستصفى (2/ 478)؛ روضة الناظر (1/ 478).
(5)
المصلحة المُلغاة: هي المصلحة الموهومة التي ألغاها الشارع، ولم يعترف بها، وشهد لها بالبطلان. يُنظر: المستصفى (2/ 479)؛ نهاية السول (2/ 856)؛ معجم مصطلحات أصول الفقه (ص: 414).
وإنما من كتب المخالف لهم، فاستدراك الجويني على الإمام مالك لا وجه له.
• المثال الرابع:
قال ابن رشيق في مسألة (إجماع أهل المدينة): "نسب أبو حامد (1) وغيره من الشافعية إلى مالك رضي الله عنه أنه يقول: لا حجة إلا في إجماع أهل المدينة عن رأي واجتهاد، وجعلوا ذلك سببًا للطعن في مقاله، والإزراء من مذهبه.
وهذا جهل عظيم بمذهب هذا الإمام الحَبر العظيم القدر عند الله وعند سائر الفضلاء. وكيف يجوز أن ينسب إلى هذا الإمام أو غيره ما لا يثبت نقله من طريق صحيح.
قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب (2): هذا المذهب ما نعلمه مذهبًا لأحدٍ؛ فضلاً عن مالك بن أنس. ونحن نبين مذهبه في إجماع أهل المدينة، ونبين أنه الحق الذي يتعين على كل عاقل التمسك به.
فالذي احتج به مالك بن أنس من إجماع أهل المدينة ما كان يدل على النقل والتقرير من النبي صلى الله عليه وسلم
…
" (3).
• بيان الاستدراك:
وهذا الاستدراك -كالسابق - يتكون من استدراكين:
(1) يُنظر: المستصفى (2/ 348).
(2)
هو: أبو محمد، عبدالوهاب بن علي بن نصر التَّغْلبِيُّ، أحد أئمة المالكية ومصنفيهم في الفروع والأصول، تفقه على ابن القصار، وابن الجلاب، قال الخطيب:(كتبت عنه وكان ثقة، لم ألق من المالكيين أفقه منه)، تولى القضاء في بغداد، ثم انتقل إلى مصر. من مصنفاته:"التلقين " و" عيون المسائل " و" المعونة لمذهب عالم المدينة"، (ت: 422 هـ).
تُنظر ترجمته في: البداية والنهاية (12/ 32)؛ الديباج المذهب (1/ 159)؛ شجرة النور الزكية (1/ 103).
(3)
يُنظر: لباب المحصول (1/ 403 - 406).
الأول: استدراك أبي حامد الغزالي وغيره من الشافعية على الإمام مالك قول: لا حجة إلا في إجماع أهل المدينة.
الثاني: استدراك ابن رشيق على أبي حامد وغيره من الشافعية أن هذا النقل ليس بصحيح عن الإمام مالك، فلم يقل به أحد من نظار مذهبه؛ فضلاً عن الإمام، وأوضح المراد بإجماع أهل المدينة عند المالكية بأنه: ما كان يدل على النقل والتقرير من النبي صلى الله عليه وسلم.
• المثال الخامس:
ما ذكره الزَّركشي في مسألة (هل يجب العمل بالعام (1) قبل البحث عن المخصص؟ ): "اختلاف الأصوليين في تحديد مذهب الصَّيْرَفِيِّ (2)، وإنما حكيت كلام الصَّيْرَفِيِّ بنصه لعزة وجود هذا الكتاب (3)، ولأنه قد وقع أغلاط لجماعة من الأكابر
(1) العام لغة: الشامل، وسميت العِمَامةُ عِمَامةً؛ لأنها تشمل جميع الرأس. يُنظر: المصباح المنير (2/ 430)؛ القاموس المحيط (ص: 1141) مادة: (عمم)
اصطلاحًا: اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد. وهو تعريف الرازي في المحصول (2/ 309 - 311). وقال عنه الشوكاني: "وإذا عرفت ما قيل في حد العام علمت أن أحسن الحدود المذكورة هو ما قدمنا عن صاحب المحصول؛ لكن مع زيادة قيد (دفعة)، فالعام: هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعة".إرشاد الفحول (1/ 418). ويُنظر تعريف العام كذلك في: المعتمد (1/ 189)؛ أصول السرخسي (1/ 125)؛ التمهيد لأبي الخطاب (2/ 5)؛ تقريب الوصول (ص: 137).
(2)
هو: أبو بكر، محمد بن عبدالله، المعروف بالصيرفي، أصولي متكلم، وفقيه شافعي، قيل: إنه أعلم الناس بالأصول بعد الشافعي، كان تلميذًا لابن سريج. من مصنفاته:"شرح رسالة الشافعي"، وله كتاب في الإجماع، وكتاب في الشروط، (ت: 330 هـ) بمصر.
تُنظر ترجمته في: طبقات الفقهاء للشيرازي (ص: 111)؛ طبقات الشافعية للإسنوي (2/ 122)؛ طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (3/ 186).
(3)
يقصد به كتاب " دلائل الأعلام"، جاء في كشف الظنون عندما تكلم على الرسالة: "
…
وتنافسوا في شرحها، فشرحها
…
وأبو بكر محمد بن عبدالله الصيرفي (ت: 33 هـ)، واسمه:"دلائل الأعلام". يُنظر: كشف الظنون (1/ 873).