الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المبحث الثالث
حكم الاستدراك الأصولي
معرفة حكم الشارع تُعد من أهم المبادئ العشرة؛ وذلك لأن الطالب ربما يقع في الممنوع أو المكروه، فإذا علم حكمه أحجم، وقد يعرض له المندوب والواجب فإذا علم حكمه قدم ما يجب تقديمه.
ولم أجد من علماء الأصول من تكلّم عن حكم الاستدراك الأصولي، وقبل الخوض في بيان حكمه أقرر مشروعيته من خلال النقاط التالية:
النقطة الأولى: أدلة الشورى:
فالشريعة الإسلامية جاءت بتقرير هذا المبدأ قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وعن أبي هُريْرَةَ (1) قال: «ما رأيت أحَدًا أكْثَرَ مشُورَةً لِأصْحَابِهِ من رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم» (2).
والشورى فيها إبداء الرأي ومناقشة الآراء الأخرى، وهذه المناقشة لا تخلو من الاستدراكات. (3)
(1) هو: أبو هريرة، عبدالرحمن بن صخر الدَّوسي، وقيل: إن اسمه كان عبد شمس ثم لما أسلم سُمي عبدالرحمن. صحابي جليل، أسلم سنة سبع للهجرة، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلم فلم يفارقه في حضر ولا سفر، كان حريصًا على سماع الحديث، فروى (5374) حديثًا، وهو أكثر الصحابة رواية لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، (ت: 59 هـ).
تُنظر ترجمته في: الاستيعاب (4/ 202)؛ أسد الغابة (3/ 357)؛ الإصابة (4/ 202).
(2)
يُنظر: مسند الإمام أحمد (4/ 328/ح: 18948)؛ سنن الترمذي، ك: الجهاد، ب: ما جاء في المَشُورَةِ، (4/ 213/ح: 1714).
(3)
يُنظر: نظرية النقد الفقهي (ص: 26 - 27).
النقطة الثانية: أدلة النصيحة:
قال صلى الله عليه وسلم: «الدّينُ النّصِيحَةُ. قُلنَا: لِمنْ؟ قال: لِلّهِ، ولِكِتَابِهِ، ولِرَسُولِهِ، ولأئمة المُسْلِمِينَ، وعَامَّتِهِمْ» (1).
فواجب النصح من أهم بواعث الاستدراك، فكان الأئمة يستدركون على بعضهم من باب التناصح (2).
النقطة الثالثة: قاعدة تجويز الخطأ على المجتهدين (3):
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حكَمَ الحَاكِمُ فَاجتَهَدَ ثمَّ أصَابَ فلَهُ أَجرَانِ وإذا حكَمَ فَاجتَهَدَ ثمَّ أَخطَأَ فلَهُ أجْرٌ» (4). فجوز الخطأ على الحاكم المجتهد فيقاس عليه كل مجتهد، والاستدراك من الطرق المعينة على معرفة الخطأ؛ لأن معرفة ذلك عند الله عز وجل متعذر بعد انقطاع الوحي، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:«وإذا حَاصَرتَ أَهلَ حصْنٍ فَأَرَادوكَ أنْ تنْزِلَهُمْ على حكْمِ اللهِ فلا تنْزِلْهُمْ على حكْمِ اللهِ وَلَكنْ أَنْزِلْهمْ على حكْمِكَ فَإنَّكَ لا تَدْري أَتصِيبُ حكْمَ اللهِ فيهِمْ أمْ لا» (5). (6)
(1) يُنظر: صحيح البخاري، ك: الإيمان، ب: قول النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة
…
، (1/ 30) وذكره معلقًا؛ صحيح مسلم، ك: الإيمان، ب: بيان أن الدين نصيحة، (1/ 74/ح: 55).
(2)
وسيأتي - بإذن الله - استدراك الإمام مالك على الليث بقصد النصح له في (ص: 797).
(3)
تُنظر هذه القاعدة في: قواطع الأدلة (5/ 16)؛ شرح تنقيح الفصول (ص: 439)؛ شرح الكوكب المنير (4/ 490)؛ كشف الأسرار للبخاري (4/ 32).
(4)
يُنظر: صحيح البخاري، ك: الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، ب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، (6/ 2676/ح: 6919)؛ صحيح مسلم، ك: الأقضية، ب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، (3/ 1342/ح: 1716).
(5)
يُنظر: صحيح مسلم، ك: الجهاد والسّيَرِ، ب: تَأميرِ الإمام الأمراء على البعوث
…
، (3/ 1357/ح: 1731).
(6)
يُنظر: نظرية النقد الفقهي (ص: 24 - 25).
النقطة الرابعة: قاعدة لا يجوز للمجتهد تقليد مجتهد أخر (1):
فمتى بان للمجتهد أمر يوجب الاستدراك فعليه بيانه، ولا يجوز له تقليد السابق؛ بل يجب عليه أن يقدم اجتهاده على اجتهاد غيره.
نقل القرافي عن أبي الحسين البصري في شرح العمد: "أنه لا يجوز التقليد في أصول الفقه، ولا يكون كل مجتهدًا فيه مصيبًا؛ بل المصيب واحد"(2).
فهذا دافع للبحث في المسألة الأصولية ومعرفة الصواب، ومما يعين على ذلك الاستدراك.
النقطة الخامسة: قاعدة الوقوع دليل الجواز:
وقد وقع الاستدراك في الشرع، فاستدرك الله تعالى في كتابه على أقوام، واستدرك النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة، واستدرك الصحابة على بعضهم، واستدرك التابعون على الصحابة وعلى بعضهم. (3)
وأما حكم الاستدراك الأصولي فيمكن تقريره من خلال النقاط التالية:
النقطة الأولى: أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهو أصل عظيم تضافرت النصوص بتأييده؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].
ولا شك أن من عمل المستدرِك: إصلاح ما يراه خطأ؛ أو تبين ما أغفله
(1) تُنظر هذه القاعدة في: البرهان (2/ 1339)؛ مختصر ابن الحاجب (2/ 1232)؛ شرح مختصر الطوفي (3/ 629)؛ تيسير التحرير (3/ 134).
(2)
يُنظر: نفائس الأصول (1/ 161). ويُنظر: المعتمد (2/ 370).
(3)
يُنظر: الفصل الرابع، المبحث الأول: الاستدراك في عصر التشريع (ص: 458 - 489).
المستدرَك عليه، أو إرشاد إلى ما هو أولى من المذكور؛ وكل ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات (1).
النقطة الثانية: التابع يأخذ حكم المتبوع (2):
والاستدراك الأصولي مبنيٌّ على علم أصول الفقه؛ وتعلم أصول الفقه يُعد عند جمهور العلماء من فروض الكفاية (3).
النقطة الثالثة: أن كل ما كان فيه مصلحة عامة مقصودة منه لا غير فهو فرض كفاية (4).
(1) وممن صرح بذلك أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن (2/ 29)؛ والماوردي في الأحكام السلطانية (ص: 240)؛ وأبو يعلى في الأحكام السلطانية (ص: 284)؛ والغزالي في إحياء علوم الدين (2/ 307)؛ وابن العربي في أحكام القرآن (1/ 292)؛ والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (4/ 165)؛ والنووي في شرحه على مسلم (2/ 23)؛ وابن تيمية في مجموع الفتاوى (15/ 67)؛ والشوكاني في شرح فتح القدير (1/ 337)؛ والألوسي في روح المعاني (3/ 21). ويرى بعض العلماء أن الحسبة فرض عين، ومن هؤلاء ابن حزم في المحلى (10/ 505)؛ وابن كثير في تفسيره (1/ 418 - 419)؛ ومحمد رشيد رضا في تفسير المنار (4/ 26 - 38).
(2)
تُنظر القاعدة في: الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 120)؛ الأشباه والنظائر للسيوطي (117).
(3)
يُنظر: المحصول (1/ 171)؛ أصول ابن مفلح (1/ 17)؛ التحبير شرح التحرير (1/ 189).
(4)
قال الطوفي: وقولنا: (هي المقصود منه لا غير) احتراز من فرض العين؛ فإن المقصود من فرض العين ليس حصول المصلحة فقط؛ بل حصول مصلحته وتعبد أعيان المكلفين به، فكل فعل فيه مصلحة وتعبد الشرع أعيان المكلفين على انفراد كل واحد منهم بتحصيل تلك المصلحة فهو فرض عين؛ كالصلوات وسائر الأركان، وإن لم يتعبد به أعيان المكلفين بل كان قصده مجرد حصول تلك المصلحة فهو فرض كفاية؛ كالجهاد ونحوه. يُنظر: علم الجذل في علم الجدل (ص: 7 - 8).
فالحاصل: أن فرض العين: النظر فيه إلى الفعل والفاعل. أما فرض الكفاية: فالنظر فيه إلى الفعل، أما الفاعل فمنظور له لكن ليس بالأصالة. يُنظر: البحر المحيط (1/ 242)؛ شرح الكوكب المنير (1/ 374)؛ مذكرة في أصول الفقه (ص: 14).
والاستدراك الأصولي فيه مصلحة عامة؛ لأن فيه إظهار الحق، وتكميل النفع.
ومما سبق يمكن تقرير حكم الاستدراك الأصولي بأنه فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يؤده أحد فإن الإثم يلحق جميع المتخصصين؛ لأن هذا من كتمان العلم المنهي عنه -والله أعلم-.
إلا أنه يرتفع إلى فرض العين في حق من تفرد بالعلم في موضع لا يعلم به إلا هو.
ويُستأنس لهذا بقول أبي الحسن الباقُولي (1): "هذه مسائلُ من كتاب الحجة (2) وقع فيها خللٌ وتحريفٌ؛ فلم يُسوِّ أحدٌ من أصحاب أبي علي (3) هذا التَّحريفَ، ولم يسألوه عنه حين كانوا يقرؤُونه عليه، فرأينا إصلاح ذلك من الواجبات"(4).
(1) هو: أبو الحسين، علي بن الحسين بن علي الأصبهاني الباقولي، الملقب بـ (جامع العلوم)، نحوي، مُفسر. من مصنفاته:"الاستدراك على أبي علي"، و" البيان في شواهد القرآن"، و" كشف المشكلات"، (ت: 543 هـ).
تُنظر ترجمته في: معجم الأدباء (4/ 86)؛ الوافي بالوفيات (21/ 10)؛ بغية الوعاة (2/ 160).
(2)
كتاب الحجة لأبي علي حسن بن أحمد الفارسي النحوي (ت: 377 هـ)، وهو شرح لكتاب القراءات السبع للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن العباس المعروف بابن مجاهد التميمي المقري (ت: 324 هـ)، وقد اختصر كتاب الحجة لأبي علي أبو محمد مكي بن أبي طالب المقري (ت: 437 هـ)، واختصره أيضًا أبو طاهر إسماعيل بن خلف الأندلسي (ت: 455 هـ). يُنظر: كشف الظنون (2/ 1448). وكتاب الحجة مطبوع.
(3)
هو: أبو علي، الحسن بن أحمد بن عبدالغفار الفارسي الفسوي، النحوي، كان فيه اعتزال، درس على الزجاج، وتخرج به أئمة، وكان الملك عضد الدولة يقول أنا غلام أبي علي في النحو. ومن تلامذته أيضًا: أبو الفتح بن جني. ومصنفاته كثيرة نافعة؛ منها: "الحجة في علل القراءات"، وكتابا " الإيضاح" و" التكملة"، (ت: 377 هـ).
تُنظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (16/ 380)؛ معجم الأدباء (2/ 412)؛ وفيات الأعيان (2/ 80).
(4)
الاستدراك على أبي علي في الحجة (ص: 3).