الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنه قطعي سوى أبي الحسين البصري؛ فإنه قال: ظني (1)، وهو المختار، وقد احتج على ذلك بحجج ضعيفة لابد من الإشارة إليها، والتنبيه على ضعفها، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار" (2).
وحاصل الاستدراك على الأدلة يكون في النقطتين التاليتين:
أولاً: كون الأدلة في غير محل النزاع.
ثانيًا: ضعف الأدلة المستدل بها.
•
خامسًا: تصحيح خطأ المستدرَك عليه في الاستدلال
.
الاستدلال لغة: طلب دلالة الدليل؛ لأنها استفعال من الدلالة (3).
واستدلّ عليه: طلب أن يُدَلَّ عليه، واستدل بالشيء على الشيء: اتخذه دليلاً عليه. (4)
وفي الاصطلاح: النظر في الدليل، والتأمل المطلوب به العلم بحقيقة المنظور فيه. (5)
ومن أمثلة تصحيح الخطأ في الاستدلال: ما جاء في مختصر الروضة عند ذكر أدلة القائلين بحجية القياس: "القياس اعتبار، والاعتبار مأمور به؛ فالقياس مأمور به.
(1) يُنظر: المعتمد (2/ 215).
(2)
الإحكام للآمدي (4/ 30 - 31).
(3)
يُنظر: الطرة شرح لامية الأفعال (ص: 102)؛ شذا العرف في فن الصرف (ص: 27).
(4)
المعجم الوسيط (ص: 294) مادة: (دلل).
(5)
يُنظر: مختصر التقريب والإرشاد (1/ 208).
أما الأولى فلغوية (1) -كما سبق (2) -، وأما الثانية (3) فلقوله تعالى:(فَاعْتَبِرُوا)[الحشر: 2]
…
" (4).
فاستدرك في شرح المختصر على الاستدلال بالآية فقال: "
…
لكن هناك سؤال آخر يُفسد الاستدلال بالآية، وتقريره: أن الأمر بالاعتبار في الآية فعل في سياق الإثبات، والفعل في سياق الإثبات مطلق لا عموم فيه، فالتقدير: اعتبروا اعتبارًا ما، وذلك يحصل بفردٍ من أفراد الاعتبار، ولا يتعيَّن القياس؛ وإنما يصح الاستدلال بها لو كانت عامة ليندرج فيها محل النزاع، وليس الأمر كذلك، وغالب الأصوليين
…
- خصوصًا المتأخرين (5) - يحتجون بالآية على إثبات القياس، وعليها من الإشكال ما قد رأيت" (6).
• سادسًا: تصحيح خطأ المستدرَك عليه في المثال؛ ومن أمثلته:
• المثال الأول:
استدرك البخاري على البزودي في أمثلة الشرط الرابع من شروط القياس،
(1) أي: المقدمة الأولى؛ وهي: أن القياس اعتبار، فهي لغوية (أي: طريق معرفتها اللغة). يُنظر: شرح مختصر الروضة (3/ 259).
(2)
كما سبق، أي: في أول الكلام على القياس، وأنه التقدير والاعتبار. وأيضًا فإن الاعتبار مشتق من العبور؛ وهو المجاوزة، ومنه المعبر؛ لأنه يجاوز بالناس من أحد جانبي البحر إلى الآخر، وعابر المنام؛ لأنه يعبر حال المنام إلى ما يشبهه في اليقظة، وكذلك القياس يجاوز بحكم المنصوص إلى غيره، ويعبر منه إليه، فكان القياس اعتبارًا بحكم الاشتقاق. يُنظر: شرح مختصر الروضة (3/ 260).
(3)
أي: المقدمة الثانية؛ وهي: أن الاعتبار مأمور به. يُنظر: شرح مختصر الروضة (3/ 260).
(4)
مختصر الروضة (3/ 259).
(5)
وممن استدل بهذه الآية الرازي في المحصول (5/ 26)، واستدرك عليه القرافي في شرح التنقيح (ص: 285)، والآمدي في الإحكام (4/ 37 - 41).
(6)
شرح مختصر الروضة (3/ 260).
وهو: أن يبقى حكم النص المعلل على ما كان قبل التعليل، فقال: "واعلم أن الأمثلة المذكورة في هذا الفصل ليست بملائمة؛ لأن في جميع هذه الأمثلة حصل تغيير حكم النص الذي في الفرع لا يعتبر حكم النص المعلل في المقيس عليه، فإن طعام الكفارة لم يتغير حكم النص في المقيس عليه؛ وهو الكسوة، وفي قبول شهادة القاذف بعد التوبة لم يتغير حكم المقيس عليه أيضًا، وكذا البواقي.
فالنظير الملائم ما ذكر في كتاب الحج [المبسوط](1) في باب جزاء الصيد (2): أن الشافعي ألحق السباع التي لا يؤكل لحمها بالخمس الفواسق (3)؛ حتى لو قتل المحرم شيئًا منها ابتداء لا يجب عليه شيء؛ لأن النبي عليه السلام إنما استثنى الخمس (4)؛ لأن طبعهن الإيذاء، وكل ما يكون من طبعه الإيذاء كان مستثنى من النص بمنزلة الخمس.
وقلنا: هذا التعليل باطل؛ لأنا لو جعلنا الاستثناء باعتبار معنى الإيذاء؛ خرج المستثنى من أن يكون محصورًا بعدد الخمس، فكان تغيرًا لحكم النص المعلل بالتعليل.
وما ذكر المصنف (5) في شرح الجامع الصغير (6) أن اشتراط الخيار فوق الثلاثة
(1) مضافة من تحقيق رسالة الدكتوراه لكشف الأسرار للبخاري (ص: 872).
(2)
لم يذكر البخاري كتاب المبسوط لمن، وبعد البحث وجدت قول لحاجي خليفة:(المراد بالمبسوط إذا أُطلق في شروح الهداية وغيرها مبسوط السرخسي). يُنظر: كشف الظنون (2/ 1378)، ويُنظر: المبسوط (4/ 139).
(3)
وهي: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور، لحديث عائشة التالي. ويُنظر: الأم (2/ 182).
(4)
الحديث أخرجه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب كلهن فاسق، يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور". يُنظر: صحيح البخاري، ك: الحج ب: ما يقتل المحرم من الدواب (2/ 649 - 650/ح: 1731 - 1732).
(5)
أي البزدوي، يُنظر: شرح الجامع الصغير للبزدوي (ص: 450 - 452).
(6)
الجامع الصغير في الفروع، للإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت: 187 هـ) من كتب ظاهر الرواية عند الحنفية، قال حاجي خليفة:(وهو كتاب قديم مبارك مشتمل على ألف وخمسمائة واثنتين وثلاثين مسألة). كشف الظنون (1/ 561). وقال اللَكْنَوِيُّ: (لم يزل كتاب مُحَمَّدٍ هذا مطمحًا لأنظار الفقهاء، ومنظرًا لأفكار الفضلاء، فلا يدرى كم من شارح له ومحشّ، ومرتب ومنظم) النافع الكبير (ص: 46).
وعليه شروح كثيرة منها شرح البزدوي، وقد حقق في رسائل ماجستير في جامعة أم القرى.
أيام يجوز عند أبِي يُوسُفَ (1) ومحمد - رحمهما الله -؛ لأن الخيار للنظر والناس يتفاوتون في الحاجة إلى مدة النظر، فوجب أن يكون ذلك مفوضًا إلى رأيهم. وقال أبو حنيفة رحمه الله هذا التعليل باطل؛ لأن فيه إبطال حكم النص، وهو التقدير بثلاثة أيام، فلم يكن تعدية لحكم النص مع أن هذه المدة تامة صالحة لاستيفاء النظر ودفع المعين فإذا زيدت المدة ازداد الخطر مع قلة الحاجة إلى النظر. وذكر الشيخ في بيوع الجامع الصغير (2) أيضًا: أن عبدًا أبق فقال رجل: إن عبدك قد أخذه فلان؛ فبعنيه وصدقه فلان؛ فباعه؛ فالبيع باطل؛ لأن النهي عن بيع الآبق، وإن كان معللاً بالعجز عن التسليم، إلا أنا لو جوزنا بيعه باعتبار أنه مقدور التسليم لكان التعليل مبطلاً للنص؛ لأن هذا العبد آبق في حق المتعاقدين والحكم في المنصوص عليه ثابت بالنص لا بمعناه.
ورأيتُ في بعض نسخ أصول الفقه أن تعليل حرمة الربا في الأشياء الأربعة بالقوت، كما قال مالك رحمه الله من هذا القبيل (3)؛ لا قتضائه عدم الحكم
(1) هو: أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، صاحب أبي حنيفة، ولي القضاء لثلاثة من الخلفاء: المهدي والهادي والرشيد، وكان إليه تولية القضاء في المشرق والمغرب، وهو أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة وأملى المسائل ونشرها، من مصنفاته:"الأمالي"، و"الرد على مالك بن أنس"، وكتاب رسالته في " الخراج"إلى الرشيد، (ت: 182 هـ).
تُنظر ترجمته في: الانتقاء في فضائل الأئمة الفقهاء (172 - 173)؛ تاريخ الإسلام (12/ 497 - 503)؛ أخبار القضاة (3/ 254 - 264).
(2)
يقصد بالشيخ البزدوي، يُنظر: شرح الجامع الصغير للبزدوي (ص: 391)
(3)
اختلف المالكية في علة الربا في الأصناف الستة على أقوال: القول الأول: أن العلة هي الاقتيات والادخار. والمراد بالاقتيات: أن يكون الطعام مقتاتا أي تقوم به البنية، وأما الادخار فيراد به: أن لا يفسد بتأخيره إلا أن يخرج التأخير عن العادة.
وهذا القول عليه أكثر المالكية، وقال بعض المتأخرين وهو المعول عليه في المذهب، وقال بعضهم: هو المشهور من المذهب.
والقول الثاني: أن العلة الاقتيات والادخار وكونه متخذا للعيش غالبا. والقول الثالث: العلة في ذلك كونه مقتاتًا فقط. وهناك أقوال أخرى في المذهب المالكي. يُنظر: تهذيب المسالك (4/ 232 - 233)؛ بداية المجتهد (3/ 1168 - 1169)؛ مواهب الجليل (4/ 345 - 346).
في الملح" (1).
• المثال الثاني:
استدرك الإسنوي على البيضاوي في مسألة (أقسام الرخصة) تمثيله للرخصة المباحة بقوله: "وتمثيل المباح بالفطر لا يستقيم؛ لأنه إن تضرر بالصوم فالفطر أفضل، وإن لم يتضرر فالصوم أفضل، فليست للصوم حالة يستوي فيها الفطر وعدمه، وذلك هو حقيقة المباح
…
والصواب تمثيله بالسَّلَمِ (2)، والعَرَايا (3)، والإجارة،
(1) كشف الأسرار للبخاري (3/ 591 - 592).
(2)
السَّلم في اللغة: السَّلف والتَّسليم. يُنظر: الصِّحاح (ص: 509)؛ المعجم الوسيط (1/ 446) مادة: (سلم).
وفي الشَّرع: اسم لعقد يوجب الملك للبائع في الثَّمن عاجلاً وللمشتري في المثمن آجلاً.
فالمبيع يسمى: مسلمًا فيه. والثَّمن يسمى: رأس المال. والبائع يسمى: مسلمًا إليه. والمشتري يسمى: رب السلم. يُنظر: التَّعريفات (ص: 160)؛ دستور العلماء (2/ 130). ويُنظر تعريفه في كتب الفقه: العناية عل الهداية (7/ 69)؛ مغني المحتاج (2/ 134)؛ منتهى الإردات مع شرحه (3/ 296)؛ الفواكه الدواني (2/ 98).
(3)
العاريّة: مأخوذة من عار الشيء يعير إذا ذهب وجاء، ومنه قيل للغلام الخفيف: عيار، وهي منسوبة إلى العارة بمعنى الإعارة. يُنظر: الزهر (1/ 240). وقال الجوهري: هي منسوبة إلى العار؛ لأن طلبها عار وعيب، وقيل: هي مشتقة من التعاور؛ من قولهم: اعتوروا الشيء وتعاوروه وتعوروه إذا تداولوه بينهم. يُنظر: الزهر (1/ 240)؛ الصحاح (ص: 754)؛ لسان العرب (10/ 334) كلاهما مادة: (عور).
وفي الشرع: إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال. وقيل: هي إباحة منافع أعيان يصح الانتفاع بها مع بقاء عينها. وقيل: هي هبة منفعة العين. المطلع (ص: 272). وسميت العارية عارية لتعريها عن العوض. يُنظر: أنيس الفقهاء (ص: 251). ويُنظر تعريفها في كتب الفقه: العناية على الهداية (9/ 3)؛ مغني المحتاج (2/ 340)؛ منتهى الإردات مع شرحه (4/ 99)؛ الفواكه الدواني (2/ 168).
والمساقاة (1)، وشبه ذلك من العقود
…
" (2).
وبهذا ننتهي من صور التصحيح الكلي.
• التصحيح الجزئي: تيسر لي الوقوف على صورتين له:
• أولاً: إطلاق مقيد عبارة المستدرَك عليه.
المراد بإطلاق مقيد عبارة المستدرك عليه: أي جعلها مرسلة بدون قيد.
• المثال الأول:
قال البيضاوي في مسألة (تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة): "لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنه تكليف بما لا يطاق، ويجوز عن وقت الخطاب.
ومنعت المعتزلة، وجوز البصري (3)، ومنا القَفّال (4) والدَّقاق
(1) المساقاة: مفاعلة من السقي، وهي: أن يدفع الرجل شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم له من ثمره. يُنظر: الصحاح (ص: 501) مادة (سقى)؛ المطلع (ص: 262).
وسميت بالمساقاة لأن السقي من أهم أمرها، وكانت النخيل بالحجاز تسقى نضحًا فتعظم مؤونتها. يُنظر: الزاهر (1/ 249). ويُنظر تعريفها في كتب الفقه: العناية على الهداية (9/ 479)؛ مغني المحتاج (2/ 415)؛ منتهى الإرادات مع شرحه (3/ 600)؛ الفواكه الدواني (2/ 124).
(2)
نهاية السول (1/ 75).
(3)
يُنظر: المعتمد (1/ 316).
(4)
هو: أبو بكر، محمد بن علي بن إسماعيل، القفال الكبير، الشاشي، كان أواحد عصره في الفقه والكلام والأصول واللغة والأدب، وكان شاعرًا فصيحًا، وعنه انتشر مذهب الشافعي فيما وراء النهر، كان يميل إلى مذهب الاعتزال في أول حياته، ثم رجع عن الاعتزال وأخذ يتلقى مذهب أهل السنة عن الأشعري، وكان الأشعري يتلقى عنه الفقه، من مصنفاته:"آداب القضاء"، و "شرح رسالة الإمام الشافعي"، و" محاسن الشريعة"، (ت: 365 هـ) على الصحيح.
تُنظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (2/ 176)؛ الفتح المبين للمراغي (1/ 201 - 202)؛ الأعلام (7/ 159).
وأبو إسحاق (1)
بالبيان الإجمالي فيما عدا المشترك
…
" (2).
فاستدرك عليه الإسنوي بقوله: "وفي النقل عن القفال نظر؛ فقد رأيت في كتاب الإشارة (3) له: أنه يجب البيان مطلقًا"(4).
• بيان الاستدراك:
ذكر البيضاوي أن مذهب أبي الحسين البصري من المعتزلة ومذهب القفال والدقاق وأبي إسحاق المروزي من الشافعية في مسألة (تأخير البيان عن وقت الحاجة) التفصيل بين أن يكون المجمل ليس له ظاهر يعمل به؛ كدلالة المشترك على أفراده؛ إذ الكل متساوٍ، فليس هناك معنى ظاهر وآخر غير ظاهر، ففي هذه الحالة يجوز تأخير بيان المجمل؛ لأن تأخير بيانه لا يوقع في محذور، وبين أن يكون المجمل له
(1) جاء في شرح الإسنوي: أنه أبو إسحاق المروزي. يُنظر: نهاية السول (1/ 570).
وأبو إسحاق المروزي هو: أبو إسحاق، إبراهيم بن أحمد المروزي، نسبة إلى مرو إحدى حواضر خراسان، انتهت إليه رئاسة الشافعية في العراق بعد ابن سُريج، وأقام بها دهرًا طويلاً يدرس ويفتي، ثم انتقل إلى مصر في آخر حياته، وجلس بها مجلس الشافعي، من مصنفاته:"شرح مختصر المزني" و"كتاب الوصايا" كلاهما في الفقه، و"الفصول في معرفة الأصول" في الأصول، (ت: 340 هـ)، ودفن بالقرب من مقبرة الشافعي - رحمهما الله -.
ينظر ترجمته في: وفيات الأعيان (1/ 4)؛ شذرات الذهب (2/ 355)؛ الفتح المبين للمراغي (1/ 187).
(2)
المنهاج - مطبوع مع نهاية السول - (1/ 568).
(3)
لم أقف على هذا الكتاب.
(4)
نهاية السول (1/ 570). وذكر الزركشي لفظ القفال من كتابه وموافقته للجمهور. يُنظر: البحر المحيط (3/ 501).
ظاهر يعمل به؛ كتأخير بيان التخصيص، وتأخير بيان الأسماء الشرعية؛ إذا استعملت في غير المسميات الشرعية كالصلاة إذا أريد بها الدعاء، وتأخير بيان اسم النكرة إذا أريد بها شيء معين، فيجوز تأخير البيان التفصيلي بشرط وجود البيان الإجمالي وقت الخطاب؛ ليكون مانعًا من الوقوع في الخطأ.
فيقال مثلاً: المراد مِنْ هذا العام هو الخصوص، وأما البيان التفصيلي - وهو كونه مخصوصًا بكذا - فيجوز تأخيره.
ويقال في المطلق: هذا المطلق مقيد، وأما البيان التفصيلي، وهو كونه مقيدًا بكذا فيجوز تأخيره.
ويقال في الأسماء الشرعية إذا استعملت في غير المسميات الشرعية: هذا اللفظ معنى مجازي أو شرعي، وأما البيان التفصيلي لمعنى اللفظ بكذا فيجوز تأخيره.
ويقال في اسم النكرة: نكرة تدل على فرد معين، وأما البيان التفصيلي لهذا الفرد فيجوز تأخيره.
فاستدرك الإسنوي على البيضاوي تقييد قول القفال بجواز تأخير البيان في حالة كون المجمل له ظاهر يعمل به؛ حيث وجد في كتاب الإشارة له: أنه يجوز تأخير البيان مطلقًا.
• المثال الثاني:
ذكر الزركشي في اختلاف الأصوليين في تحديد مذهب الصيرفي في مسألة (العمل بالعام قبل البحث عن مخصص): "أن إمام الحرمين صور محل الخلاف في صورة خاصة فقال: (إذا وردت الصيغة الظاهرة في اقتضاء العموم ولم يدخل وقت العمل بموجبها؛ فقد قال أبو بكر الصيرفي: يجب على المتعبدين اعتقاد عمومها على جزم، ثم إن كان الأمر على ما اعتقدوه فذاك، وإن تبيَّن أن الخصوص تغير العقد) انتهى.
والصواب في النقل عنه إطلاق العموم؛ سواء قبل حضور وقت العمل به أو بعده؛ بل هو مصرح بالعمل به قبل البحث عن المخصص، ونقل ذلك أيضًا في كتابه البيان في أصول الفقه، وكذلك نقله عن الجمهور كما سبق التصريح به في كلامهم، ولم يقيد أحد منهم النقل عنه بهذه الحالة" (1).
• ثانيًا: تقيد مطلق عبارة المستدرَك عليه.
المراد بتقيد مطلق عبارة المستدرك عليه: أي تقيد ما يذكره المستدرك بحالة خاصة.
قال البخاري: "
…
فإن تقيد المطلق تغيير كإطلاق المقيد" (2).
وهذا التغير هو المخالفة بين المستدرك فيه حيث كان مطلقًا، والمستدرك به حيث جعل مقيدًا. وأقرر هذا النوع من الاستدراك بالأمثلة التالية:
• المثال الأول:
قال السمعاني في (معاني الحروف): "أولها: (الواو) وقد ادعى جماعة من أصحابنا أنها للترتيب، وأضافوا القول به إلى الشافعي رحمه الله
…
ونسبة ذلك للشافعي رحمه الله على الإطلاق لا تصح؛ وإنما نهاية ما نُقل عنه أنه قال في الوضوء حين ذكر الآية (3): ومن خالف ذلك من الترتيب الذي ذكره الله تعالى لم يجز وضوؤه. (4)
وقد شنع عليه محمد بن داود وغيره هذا اللفظ وقالوا: إنَّه خالف اللغة أجمع، وادّعوا عليه الجهل بالنحو.
(1) البحر المحيط (3/ 45).
(2)
كشف الأسرار للبخاري (3/ 589).
(3)
وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6].
(4)
يُنظر: الأم (1/ 30).
ووجه الجواب عن هذا: أن الشافعي رحمه الله ما تعلَّق في إثبات الترتيب بالواو فقط؛ وإنما دليل الترتيب من النظر في معنى الآية على ما ذكرنا في الخلاف" (1).
• بيان الاستدراك:
استدرك السمعاني على جماعة من الشافعية في قولهم: إن معنى (الواو) للترتيب، ونسبة ذلك القول إلى الإمام الشافعي، بحجة قوله: من خالف الترتيب في أعضاء الوضوء المذكورة في الآية بعطف (الواو) لم يجز وضوؤه.
فذكر السمعاني: أن إطلاق هذه النسبة للشافعي لا تصح، وقول الشافعي في وجوب ترتيب أعضاء الوضوء ليس تعلقًا بمعنى (الواو) فقط؛ بل إن وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء ثبت من جهة النظر؛ وهو أن الوضوء عبادة بدنية، ولُوحظ أن جميع العبادات البدنية المشتملة على أفعال مختلفة يُراعى فيها الترتيب؛ كالترتيب في أفعال الصلاة والحج.
فصار ظاهر معنى (الواو) في آية الوضوء للترتيب، فإيجاب الشافعي للترتيب من باب العمل بالظاهر؛ لأن الظاهر حجة.
وحمل الشافعي لـ (الواو) في هذا الموضوع على الترتيب لا يدل على إطلاق حمله (الواو) للترتيب؛ وإنما هو مقيد في آية الوضوء لدليل النظر.
• المثال الثاني:
قال الآمدي عند حديثه عن تعريف أصول الفقه باعتباره مركبًا إضافيًا: "اعلم أن قول القائل: (أصول الفقه) قول مُؤلف من مضاف وهو (الأصول)، ومضاف إليه وهو (الفقه)، ولن نعرف المضاف قبل معرفة المضاف إليه، فلا جرم أنه يجب تعريف معنى (الفقه) أولاً، ثم معنى (الأصول) ثانيًا"(2).
(1) القواطع (1/ 50، 55).
(2)
الإحكام للآمدي (1/ 19).
استدرك عليه الأصفهاني - شارح المحصول - فقال: "واعلم أن هذا الكلام أسدُّ مما ذكره المصنف (1)؛ غير أن قوله: (لن يعرف المضاف قبل معرفة المضاف إليه) ليس على إطلاقه؛ بل الصواب أن يقال: ولن يعرف المضاف من حيث هو مضاف قبل معرفة المضاف إليه؛ فإن المضاف إليه يمكن معرفة ذاته قبل معرفة المضاف من حيث هو هو، لا من حيث هو مضاف"(2).
• بيان الاستدراك:
استحسن الأصفهاني عبارة الآمدي على الرازي؛ إلا أن مع استحسانه لعبارة الآمدي استدرك عليه قوله: (لن يعرف المضاف قبل معرفة المضاف إليه) بأنها ليست على الإطلاق؛ فإن معرفة المضاف إليه ممكنة بالنظر إلى ذاته؛ لا من حيث هو مضاف إليه؛ فالفقه يمكن تعريفه بالنظر إلى ذاته، قبل معرفة المضاف (الأصول).
• المثال الثالث:
استدراك الإسنوي على البيضاوي قوله: (الفصل الثالث: في أحكامه، وفيه مسائل: الأولى: في الواجب المعين (3) والمخير (4)
…
) (5). فقال: "عقد المصنف هذا الفصل لأحكام الحكم الشرعي، وجعله مشتملاً على سبع مسائل، والإمام فخر الإسلام
(1) يقصد به الرازي في قوله: "اعلم أن المركب لا يمكن أن يُعلم إلا بعد العلم بمفرداته؛ لا من كل وجه؛ بل من الوجه الذي لأجله يصح أن يقع التركيب فيه". المحصول (1/ 78).
(2)
الكاشف على المحصول (1/ 134 - 135).
(3)
الواجب المعيَّن: هو ما طلب الشارع من المكلف فعله طلباً جازمًا، وعيَّنه الشارع تعيينًا بأن حدَّد أوصافه وكيفياته وأوقاته. مثاله: الصلوات المفروضة. يُنظر: معجم مصطلحات أصول الفقه (ص: 471).
(4)
الواجب المخير: هو ما طلب الشارع من المكلف فعله مبهمًا ضمن أمور معينة، وترك للمكلف اختيار ما يؤدي به هذا الواجب. مثاله: خصال الكفارة. يُنظر: القاموس المبين في اصطلاحات الأصوليين (ص: 294 - 295)؛ معجم مصطلحات أصول الفقه (ص: 469).
(5)
منهاج الوصول - مطبوع مع نهاية السول - (1/ 79).
ذكر ذلك في الأوامر والنواهي، وجعل الأربعة الأخيرة (1) من هذه المسائل السبع في الأحكام كما ذكره المصنف، وأما الثلاثة الأولى فجعلها في أقسامه لا أحكامه فقال: النظر الأول في الوجوب، والبحث إما في أقسامه أو أحكامه، أما أقسامه فاعلم أنه بحسب المأمور به ينقسم إلى معين ومخير، وبحسب وقته إلى مضيق (2) وموسع (3)، وبحسب المأمور إلى واجب على التعيين (4) وواجب على الكفاية (5). (6)
هذا كلامه. وذكر مثله صاحب الحاصل (7) وصاحب التحصيل (8)، والمصنف جعل الكل في أحكام الحكم وليس بجيد. ثم إنه أطلق الحكم؛ وإنما هي أقسام للوجوب خاصة".
(1) يقصد بالمسائل الأربعة الأخيرة: مسألة: إيجاب الشيء يقتضي إيجاب ما يتوقف عليه، ومسألة: إيجاب الشيء يستلزم حرمة نقيضه، ومسألة: إذا نسخ الوجوب بقي الجواز، ومسألة: الواجب لا يجوز تركه. يُنظر: المحصول (2/ 189 - 214).
(2)
الواجب المضيق: هو ما طلب الشارع من المكلف فعله طلبًا جازمًا، وحدد له وقتًا يتسع لأدائه وحده فقط، ولا يسع لأداء عبادة أخرى من جنسه. مثاله: صوم شهر رمضان؛ فإن وقته لا يسع لأداء صوم آخر معه. يُنظر: القاموس المبين في اصطلاحات الأصوليين (ص: 296 - 297)؛ معجم مصطلحات أصول الفقه (ص: 471 - 472) ..
(3)
الواجب الموسع: هو ما طلب الشارع من المكلف فعله طلبًا جازمًا، وحدد له وقتًا يسع أداء هذا الواجب، ويسع أداء غيره من جنسه. مثاله: وقت صلاة الظهر؛ فإنه يسع أداء صلاة الظهر والنوافل من الصلاة. يُنظر: المرجعان السابقان.
(4)
الواجب العيني: هو ما طلب الشارع فعله حتمًا من كل فرد من أفراد المكلفين به. يُنظر: القاموس المبين في اصطلاحات الأصوليين (ص: 231 - 232)؛ معجم مصطلحات أصول الفقه (ص: 468).
(5)
الواجب الكفائي: هو ما طلب الشارع حصوله، من غير نظر إلى من يفعله، فإذا فعله البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يفعله أثم الجميع: يُنظر: المرجعان السابقان.
(6)
المحصول (2/ 159).
(7)
(2/ 246).
(8)
(1/ 302).
• بيان الاستدراك:
استدرك الإسنوي على البيضاوي أمرين:
الأول: إطلاقه السبع المسائل في هذا الفصل لأحكام الحكم الشرعي، والصواب: إنما هو في جعل الأربعة الأخيرة منها في الحكم، أما الثلاثة الأولى ففي الأقسام؛ لا الأحكام، وهذا استدراك تصحيح - وقد مر بيانه -.
الثاني: استدرك عليه إطلاق (أحكامه) على المسائل، والصواب: إنما هي مقيدة لحكم الوجوب؛ وليست جميع أحكام الحكم الشرعي، وهذا استدراك تقييد مطلق.
• المثال الرابع:
ذكر البيضاوي في مسألة (الواجب المخير) أدلة القائلين بأن الواجب واحد معين قولهم: (وكذا الثواب على الفعل والعقاب على الترك)(1).
فاستدرك عليه الإسنوي بقوله: "واعلم أنه لا كلام في أنه يثاب على الكل إذا أتى بذلك معًا، إنما الكلام في ثواب الواجب؛ كما نص عليه في المحصول (2) والحاصل (3) وغيرهما، فإطلاق المصنف ليس بجيد"(4).
(1) منهاج الوصول - المطبوع مع نهاية السول - (1/ 86).
(2)
وعبارة المحصول: "أن يستحق عليها ثواب الواجب، فإذا أتى المكلف بكلها؛ فإما أن يستحق ثواب الواجب على كلِّ واحدٍ منها، أو على مجموعها "(2/ 165 - 166).
(3)
وعبارة الحاصل: "أنه إذا أتى بالكل؛ فالثواب الفرض إما على الكل، أو كل واحد، وذلك يجعل الكل واجبًا على التعين، أو على واحد غير معين، وهو باطل؛ لأن استحقاق الثواب أثر معين يستدعي مؤثرًا معينًا". (2/ 247).
(4)
نهاية السول (1/ 87).
• المثال الخامس:
قال الرازي: "الحق: أنه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي"(1).
فاستدرك عليه القرافي بقوله: "
…
هذه المسألة هكذا على الإطلاق، والذي أعتقده أنه مخصوص بما إذا كان الراوي صحابيًا، شأنه الأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال: إنه إذا خالف مذهبه ما رواه يدل ذلك منه على أنه اطلع من رسول الله صلى الله عليه وسلم على قرائن حالية تدل على تخصيص ذلك العام، وأنه عليه الصلاة والسلام أطلق العام لإرادة الخاص وحده؛ فلذلك كان مذهبه مخالفًا لروايته، أما إذا كان الراوي مالكًا أو غيره من المتأخرين الذين لم يشاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتأتى ذلك فيه، مذهبه ليس دليلاً حتى يخصص به كلام صاحب الشرع، والتخصيص بغير دليل لا يجوز إجماعًا" (2).
• المثال السادس:
ذكر الزركشي في مسألة (اقتضاء النهي للفساد) القسم الثاني للنهي: كون الشيء منهيًا عنه لعينه؛ كبيع الملاقيح (3) والمضامين (4)، وذكر المذهب الأول: أن النهي يدل على الفساد مطلقًا؛ سواء كان المنهي عنه عبادة أو معاملة. والمذهب الثاني: أن النهي لا يدل على الفساد أصلاً، ويحتاج الفساد إلى دليل غير النهي، وذكر القائلين بهذا، وقال: "وقد أطلق جماعة آخرهم الصفي الهندي (5) هذا المذهب عن الحنفية،
(1) المحصول (3/ 126).
(2)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (ص: 219).
(3)
بيع الملاقيح: بيع ما في البطون، وهي الأجنة. يُنظر: التمهيد لابن عبدالبر (ص: 363)؛ المبسوط (15/ 89)؛ الوسيط (3/-70)؛ الإنصاف (4/ 300 - 301). ويُنظر: الصحاح (ص: 953)؛ المصباح المنير (2/ 557) مادة: (لقح).
(4)
بيع المضامين: بيع ما في أصلاب الفحول. يُنظر: التمهيد لابن عبدالبر (ص: 363)؛ المبسوط (15/ 89)؛ الوسيط (3/ 71)؛ الإنصاف (4/ 300 - 301). الصحاح (ص: 627)؛ لسان العرب (9/ 64) مادة: (ضمن).
(5)
يُنظر: نهاية الوصول (3/ 1177).
والصواب: أن خلافهم إنما هو في المنهي عنه لغيره (1)، أما المنهي عنه لعينه فلا يختلفون في فساده، وبذلك صرح أبو زيد الدبوسي في تقويم الأدلة (2)، وشمس الأئمة السرخسي في أصوله (3)، وقرره ابن السمعاني (4)، وهو الأثبت؛ لأنه كان أولاً حنفيًّا" (5).
• المثال السابع:
قال الزركشي في تنبيهه الثالث بعد مسألة (مفهوم الصفة): "قال بعض مشايخنا: ما أطلقه الأصحاب عن أبي حنيفة من إنكار مفهوم الصفة ليس على إطلاقه، والصواب: أنه هنا أمران:
أحدهما: أن يَرِدَ دليل العموم، ثم يَرِدُ إخراج فرد منه بالوصف، فهو محل الخلاف؛ كقيام الدليل على وجوب زكاة الغنم مطلقًا، ثم ورد الدليل بتقييدها بالسائمة، فيقول أبو حنيفة: لا تقتضي نفي الحكم عما عداها؛ لقيام دليل العموم فيستصحبه، ولا يجعل للتقييد بالوصف أثرًا معه.
والثاني: أن يرد الوصف مبتدأ؛ كما يقول: أكرم بني تميم الطوال، فأبو حنيفة يُوافق على أن غير الطوال لا يجب إكرامهم، فليتفطن لذلك" (6).
(1) المنهي عنه لغيره ضربان: الأول: ما نهي عنه لمعنى جاوره؛ كالصلاة في الدار المغصوبة. الثاني: ما نهي عنه لمعنى اتصل به وصفًا؛ كصوم يوم النحر؛ فإن النهي لمعنى اتصل بالوقت الذي هو محل الأداء وصفًا؛ وهو أنه يوم عيد. يُنظر: البحر المحيط (2/ 439).
(2)
يُنظر: تقويم الأدلة (ص: 52 - 60).
(3)
يُنظر: أصول السرخسي (1/ 80 - 93).
(4)
يُنظر: قواطع الأدلة (1/ 255 - 280).
(5)
البحر المحيط (2/ 443).
(6)
البحر المحيط (4/ 35).