الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المطلب الثاني
ما لا يشترط في الاستدراك الأصولي
إن قلت -أيها القارئ الكريم-: إنَّ كل ما لم يذكر في شروط الشيء يلزم بالضرورة عدم اشتراطه، فذكر الشروط يغني عن هذا البحث، فلا فائدة في عقد هذا المطلب.
فالجواب: أنَّ هذا حق؛ غير أنَّ ثمة لبسًا أحوج الباحثة إلى بيان طائفة من المعاني التي لا تشترط دفعًا لما قد يقع؛ ومن ذلك:
أولاً: لا يشترط كون المستدرِك أعلم من المستدرَك عليه (1)، وأقرر ذلك باستدراك الجويني والغزالي على الشافعي.
ثانيًا: لا يشترط اتحاد أو اختلاف مذهب المستدرِك والمستدرَك عليه (2). (3)
ثالثًا: لا يشترط التلازم بين الاستدراك والصحة، فالحكم على الاستدراك _بقبوله أو رده_ مسألة خاضعة للبحث والمدارسة، فيبقى مدار قبولها على قوة حجتها، وحسن تقريرها. (4)
رابعًا: لا يشترط في استدراك إلزام الخصم أن يكون المستدرِك مُسلِّمًا بالمستدرك به؛ لأنه قد يذكره من باب إفحام الخصم وإلزامه؛ لا من باب التسليم به.
(1) يُنظر: الاستدراك الفقهي تأصيلاً وتطبيقًا (ص: 129).
(2)
يُنظر: المرجع السابق.
(3)
وسأذكر في الفصل القادم - بإذن الله - نماذج من استدراك المستدرِك الموافق للمذهب، ونماذج أخرى للمستدرِك المخالف في المذهب.
(4)
يُنظر: استدراكات أبي شامة في إبراز المعاني على الإمام الشاطبي في " أبواب الأصول " من حرز الأماني جمعًا ودراسة، إعداد: أحمد بن علي بن عبدالله السديس، مجلة جامعة أم القرى، العدد (45) (ص: 16 - 17).
قال ابن عقيل: "وكلُّ سؤالٍ كان للإفساد جاز أن يكون على أصل المُستدِلِّ خاصة دون المُلزِمِ"(1).
وجاء في المسودة: "مسألة: قال القاضي وأبو الطيب: لا يجوز لأحد يلزم خصمه ما لا يقول به إلا النقض، فأما غيره - كدليل الخطاب (2) أو القياس أو المرسل (3)
ونحو ذلك - فلا، ولم يذكر خلافًا. وكذلك قال أبو الخطاب (4):
(1) الجدل على طريقة الفقهاء (ص: 69).
(2)
دليل الخطاب: إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه، ويسمى أيضًا بمفهوم المخالفة. يُنظر: البرهان (1/ 449)؛ روضة الناظر (2/ 114)؛ تقريب الوصول (ص: 169)؛ فواتح الرحموت (1/ 414).
(3)
المرسل لغة: المطلق، اسم مفعول من أرسل الشيء: أطلقه. يُنظر: لسان العرب (6/ 154)؛ المصباح المنير (1/ 226) مادة: (رسل).
وفي اصطلاح المحدثين: قول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا
…
، وبعضهم خصصه بقول كبار التابعين. يُنظر: مقدمة ابن الصلاح (ص: 51)؛ نزهة النظر شرح نخبة الفكر (ص: 89 - 90)؛ تدريب الراوي (ص: 123).
وأما في اصطلاح الأصوليين: قول من لم يَلْقَ النبي صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا
…
يُنظر: تقريب الأصول (ص: 305)؛ الإحكام للآمدي (2/ 148)؛ شرح مختصر الروضة (2/ 228)؛ تيسير التحرير (3/ 102).
وبذلك يكون تعريف الأصوليين للمرسل أعم من تعريف المحدثين؛ إذ يدخل في تعريف الأصوليين المنقطع - ما سقط منه اثنان غير متواليين في موضعين، وكذا لو سقط منه أكثر من اثنين بشرط عدم التوالي-. ويدخل فيه أيضًا المعضل - ما سقط منه اثنان فصاعدًا من موضع واحد -. يُنظر تعريف المنقطع في: مقدمة ابن الصلاح (ص: 56)؛ نزهة النظر (ص: 92)؛ تدريب الراوي (ص: 133). ويُنظر تعريف المعضل في: مقدمة ابن صلاح (ص: 59)؛ نزهة النظر (ص: 91)؛ تدريب الراوي (ص: 137).
(4)
هو: أبو الخطاب، محفوظ بن أحمد بن الحسن الكَلْوَذاني - نسبة إلى كَلْواذي: قرية قرب بغداد- البغدادي، من كبار الحنابلة، من أشهر تلاميذ القاضي أبي يعلى، كان خَيِّرًا صادقًا. من مصنفاته:"التمهيد في أصول الفقه"، و"الهداية" في الفقه، و"التهذيب" في الفرائض، (ت: 510 هـ).
تُنظر ترجمته في: الذيل على طبقات الحنابلة (1/ 116)؛ سير أعلام النبلاء (19/ 348)؛ البداية والنهاية (12/ 197).
ليس للمعترض أن يلزم المعلل ما لا يقول به إلا النقض والكسر على قول من التزمهما، فأما بقية الأدلة - مثل: المرسل، ودليل الخطاب، والقياس، وقول الصحابي - فلا يجوز أن يلزمه ذلك وهو يعتقد فساده" (1).
وجاء في موضع آخر: "وأما المستدلُّ إذا استدلَّ بما هو دليل عند مُناظرِه فقط؛ فهو في الحقيقة سائلٌ معارضٌ لمُناظرِه بمذهبه، وهو سؤالٌ واردٌ على مذهبه، وهو استدلالٌ على فسادِ أحدِ الأمرين؛ إما دليله أو مذهبه، فينبغي أن يعرف وجوه الأدلة والأسئلة، وهذا في الحقيقة استدلال على فساد قولِ المنازع بما لا يستلزم صحة قول المستدِل بمنزلة إظهار تناقضه، وهو أحد مقاصد الجدل"(2).
وأذكر لتقرير ذلك الأمثلة التالية:
• المثال الأول:
قال ابن حزم: "وقال بعضهم: هذا قياس منكم؛ فإنكم ترومون إبطال القياس بالقياس، فأنتم كالذين يرومون إبطال حجة العقل بحجة العقل!
قال أبو محمد: فيقال لهم - وبالله تعالى التوفيق -: لم نحتج عليكم بهذا تصويبًا منا له، ولا للقياس، لكن أريناكم أن قولكم بالقياس ينهدم بالقياس، ويبطل بعضه بعضًا، وليس في العالم أفسد من قول من يفسد بعضه بعضًا، فأنتم إذا أقررتم بصحة القياس فنحن نلزمكم ما التزمتم به، ونحجكم به؛ لأنكم مصوبون له، مصدقون لشهادته، وهو قولكم بالفساد، وعلى مذاهبكم بالتناقض أقررتم به أو أنكرتموه، وأما نحن فلم نصوبه قط ولا قلنا به، فهو يلزمكم ولا يلزمنا، وكل أحد فإنما يلزمه ما التزم ولا يلزم خصمه. كما أن أخبار الآحاد المتصلة بنقل الثقات لازم لنا للاحتجاج بها علينا في المناظرة، ولا نلزم من أنكرها، فمن ناظرنا بها لم ندفعه
(1)(ص: 288)؛ ويُنظر: التمهيد لأبي الخطاب (4/ 180).
(2)
المسودة (ص: 289).
عما يلزمنا بها، وهذا هو فعلنا بكم في القياس" (1).
• المثال الثاني:
قال ابن حزم: "وقال من سلف من أصحابنا رحمهم الله: يقال لمن قال بالقياس: قد أجمعتم -أنتم وجميع المسلمين بلا خلاف من أحد منهم- على أن الأحكام كلها في الديانة جائز أن تؤخذ نصًّا، واتفقوا كلهم-بلا خلاف من واحد منهم لا من القائلين بالقياس ولا من غيرهم- على أن أحكام الديانة كلها لا يجوز أن تؤخذ قياسًا، ولا بد عندهم من نص يقاس عليه، فيقال لأصحاب القياس: إن كان القياس عندكم حقًّا فمن ههنا ابدؤوا به، فقيسوا ما اختلفنا فيه من المسائل التي جوزتم القياس فيها ومنعنا نحن منها على ما اتفقنا عليه من المسائل التي أقررتم أنها لا يجوز أن تؤخذ قياسًا، فإن لم تفعلوا فقد تركتم القياس، وإن فعلتم تركتم القياس، ولسنا نقول: إن هذا العمل صحيح عندنا؛ ولكن صحيح على أصولكم، ولا أبطل من قول نقض بعضه بعضًا"(2).
• المثال الثالث:
وقال الآمدي: "قولهم: (هذا منكم لا يستقيم) قلنا: إنما ذكرنا ذلك بطريق الإلزام للخصم؛ لكونه قائلاً به"(3).
هذا؛ والاستدراك الأصولي له أقسام باعتبارات مختلفة، فلنعقد لكل اعتبار منها مبحثًا في الفصل القادم.
(1) الإحكام لابن حزم (7/ 476).
(2)
المرجع السابق (8/ 491).
(3)
الإحكام للآمدي (1/ 124).
الفصل الثالث