الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المثال الثالث:
قال القرافي مستدركًا على كلام الرازي في مسألة (المصلحة المرسلة): "قوله: (لا نحكم بالمصلحة المرسلة في محل الحاجة والتتمة؛ لأنه إثبات شرع بالرأي)(1).
قلنا: عليه سؤالان:
أحدهما: المنع؛ بل ما ثبت ذلك إلا باجتهاد صحيح، وإن الاستقراء دل على أن الشرائع مصالح، وإن الرسل عليهم السلام إنما بعثوا بالمصالح ودرء المفاسد، فمن أثبت ضرورة، أو حاجة، أو تتمة بالمصالح؛ فقد اعتمد على قاعدة الشرائع، فلا يكون إثباتًا للشرع بالهوى.
وثانيهما: أنه إن كان إثباتًا بالهوى فينبغي أن يمنع ذلك في الضرورة بطريق الأولى؛ فالضروريات أهم الديانات، فإذا منعنا اتباع الهوى فيما خف أمره؛ أولى أن نمنعه فيما عظم أمره" (2).
•
السبب الرابع: الاستدراك لسبب تقرير مذهب المستدرِك
.
من أسباب الاستدراك: الرد على الخصوم لتقرير مذهب المستدرِك.
والخصوم على قسمين: خصم في الواقع، وخصم مقدر. وكل منهما ينقسم إلى قسمين:
خصم مخالف في المذهب العقدي، وخصم مخالف في المذهب الفقهي.
فصارت الأقسام أربعة:
1 -
خصم في الواقع مخالف في المذهب العقدي.
2 -
خصم في الواقع مخالف في المذهب الفقهي.
(1) يُنظر: المحصول (6/ 163).
(2)
نفائس الأصول (9/ 4086 - 4087).
3 -
خصم مقدر مخالف في المذهب العقدي.
4 -
خصم مقدر مخالف في المذهب الفقهي.
أما الاستدراك على الخصم في الواقع المخالف في المذهب العقدي فتظهر بصورة واضحة في استدراكات الأشاعرة على المعتزلة، والعكس صحيح، كما تظهر في استدراكات أهل السنة عليهما.
ويمكن تمثيلها بمسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه؛ كمسألة التحسين والتقبيح، ومسألة أول ما يجب على المكلف، ومسألة هل كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد وما عداه مخطئ؟ وغيرها من المسائل التي يستدرك فيها الخصوم على بعض لتقرير مذهبهم. (1)
وأكتفي بمثال على ذلك: قال ابن قدامة في مسألة (التكليف بالفعل الذي ينتفي شرط وقوعه عند وقته (2)): "ويجوز الأمر من الله سبحانه بما في معلومه أن المكلف لا يتمكن من فعله.
وعند المعتزلة (3): لا يجوز ذلك إلا أن يكون تعلقه بشرط تحققه مجهولاً عند الآمر، أما إذا كان معلومًا أنه لا يتحقق الشرط؛ فلا يصح الأمر به؛ لأن الأمر طلب، فكيف يطلب الحكيم ما يعلم امتناعه؟ ! وكيف يقول السيد لعبده: خط ثوبي إن صعدت السماء؟ !
(1) ويُنصح في هذا الباب الاطلاع على: المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين للدكتور محمد عبدالقادر؛ ومسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه للدكتور خالد عبداللطيف محمد نور؛ وآراء المعتزلة الأصولية دراسة وتقويمًا للدكتور علي بن سعد الضويحي.
(2)
ومثلوا لهذه المسألة: بما إذا أمر الله بصوم رمضان، وهو يعلم موت المأمور في رمضان، فهل يصح التكليف به؟ يُنظر: البحر المحيط (1/ 369).
(3)
وهو اختيار إمام الحرمين، يُنظر: البرهان (1/ 282).
وبهذا يفارق أمر الجاهل؛ لأن من لا يعرف عجز غيره عن القيام يتصور أن يطلبه منه.
أما إذا علم امتناعه فلا يكون طالبًا، وإذا لم يكن طالبًا لم يكن آمرًا. ولأن إثبات الأمر بشرط يفضي إلى أن يكون وجود الشيء مشروطًا بما يوجد بعده، والشرط ينبغي أن يقارن، أو يتقدم، أما أن يتأخر عن المشروط فمحال (1)
…
ثم ذكر في الاستدراك على أدلتهم: "وقولهم: الأمر طلب، وطلب المستحيل من الحكيم محال، قلنا: الأمر إنما هو قول الأعلى لمن دونه: (افعل) مع تجردها عن القرائن، وهذا متصور مع علمه بالاستحالة.
وعلى أنَّا لو سلمنا أن الأمر طلب؛ فليس الطلب من الله تعالى كالطلب من الآدميين؛ وإنما هو استدعاء فعل لمصلحة العبد، وهذا يحصل مع الاستحالة؛ لكي يكون توطئة للنفس على عزم الامتثال، أو الترك؛ لطفًا به في الاستعداد، والانحراف عن الفساد، وهذا متصور.
ويتصور من السيد أيضًا أن يستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه، مع عزمه على نسخ الأمر قبل الامتثال (2)؛ امتحانًا للعبد، واستصلاحًا له.
ولو وكل رجلاً في عتق عبده غدًا مع عزمه على عتق العبد صح، ويتحقق فيها المقصود؛ من استمالة الوكيل، وامتحانه في إظهار الاستبشار بأوامره، والكراهية له، وكل ذلك معقول الفائدة، فكذا هاهنا.
وقولهم: (يفضي إلى تقديم المشروط على الشرط).
قلنا: ليس هذا شرطًا لذات الأمر؛ بل الأمر موجود وجد الشرط أم لم يوجد؛
(1) يُنظر: المعتمد (1/ 139 - 141) وجعل عنوان المسألة: في الأوامر الواردة بالشيء على شرط زوال المنع.
(2)
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذه المسألة تشبه مسألة النسخ قبل التمكن من الفعل؛ لأن ذلك رفع للحكم بالخطاب، وهذا رفع للحكم بتعجيز. يُنظر: المسودة (ص: 44).
وإنما هو شرط لوجوب التنفيذ، فلا يفضي إلى ما ذكروه" (1).
وأما الاستدراك على الخصم في الواقع المخالف في المذهب الفقهي فتظهر بصورة جلية في المسائل الأصولية التي وقع فيها الاختلاف بين الجمهور والحنفية؛ كمسألة خبر الواحد فيما تعم به البلوى (2)، ومسألة عموم المقتضى، ومفهوم المخالفة، وغيرها من المسائل.
وكالمسائل التي حصل فيها الخلاف بين الجمهور والمالكية؛ كمسألة إجماع أهل المدينة.
بل إن هذا النوع من الاستدراكات كان سببًا في التصنيف، فقد ذكر ابن السبكي في حديثه عن البرهان: "
…
وهذا الكتاب من مفتخرات الشافعية، وأنا أعجب لهم؛ فليس منهم من انتدب لشرحه، ولا للكلام عليه إلا مواضع يسيرة تكلم عليها أبو المظفر السمعاني في كتاب القواطع وردها عليه، وإنما انتدب له المالكية، فشرحه الإمام أبو عبدالله المازري شرحًا لم يتمه (3)، وعمل عليه أيضًا مشكلات، ثم شرحه أيضًا أبو الحسن الأبياري (4) من المالكية، ثم جاء شخص مغربي يقال له:
(1) روضة الناظر (1/ 600 - 604)، ويُنظر المسألة في: العدة (2/ 392 - 395)؛ المستصفى (3/ 186 - 197)؛ شرح مختصر الروضة (2/ 423 - 427).
(2)
المراد بعموم البلوى: أن كل أحد يحتاج إلى معرفته. وقيل أيضًا: ما كان مشتركًا غير خاص. يُنظر: البحر المحيط (4/ 347).
والمراد بخبر الواحد فيما تعم به البلوى: أي يحتاج الكل إليه حاجة متأكدة مع كثرة تكرره، ولا يرويه إلا واحد، كخبر:«من مس ذكره فليتوضأ» الذي روته بُسْرَة ابنَةُ صَفوَانَ. يُنظر: تيسير التحرير (3/ 112). وخبر بُسْرة سبق تخريجه (ص: 259).
(3)
وهو كتاب إيضاح المحصول من برهان الأصول، طبع جزء منه بتحقيق د. عمار الطالبي على نسخة واحدة فيها كثير من السقط.
(4)
وهو كتاب التحقيق والبيان في شرح البرهان، حقق نصفه في رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى بتحقيق د. علي بسام، ثم أكمل تحقيقه بعد ذلك وطبع.
الشريف أبو يحيى (1) جمع بين الشرحين (2)، وهؤلاء كلهم عندهم بعض التحامل على الإمام من وجهين:
أحدهما: أنهم يستصعبون مخالفة الإمام أبي الحسن الأَشْعَرِي (3) ويرونها عظيمة، والإمام لا يتقيد بالأشعري ولا بالشافعي
…
الثاني: أنه ربما نال من الإمام مالك رضي الله عنه؛ كما فعل في مسألة الاستصلاح والمصالح المرسلة (4)، وغيرها (5).
(1) لم أقف له على ترجمة؛ إلا أن ابن السبكي في " رفع الحاجب " ذكر اسمه: الشريف أبو يحيى زكريا بن يحيى الحسيني المغربي. يُنظر: رفع الحاجب (1/ 234).
(2)
وهو كتاب " كفاية طالب البيان شرح البرهان"، مخطوط، توجد منه نسخة بمكتبة القيروان بفاس برقم (1397) مبتور أولها، كما توجد منه نسخة أخرى بمكتبة بريل هوتسيما بهولندا برقم (807). يُنظر: تحقيق د. عمار الطالبي لإيضاح المحصول (ص: 16)
(3)
هو: أبو الحسن، علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبدالله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى عبدالله بن قيس الأشعري، كان آية في الذكاء وقوة الفهم، وكان مع هذا تقيًّا ورعًا مجتهدًا في العبادة، اشتغل في أول حياته بمذهب المعتزلة ثم تاب منه، وقال بمذهب الأشاعرة ونسب إليه فرقة الأشاعرة، ثم تاب من هذا المذهب والتحق بمذهب أهل السنة والجماعة. من مصنفاته:"إثبات القياس " في أصول الفقه، و" اللمع في الرد على أهل البدع"، (ت: 324 هـ).
تُنظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (15/ 85)؛ طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (3/ 347)؛ طبقات الفقهاء الشافعية لابن الصلاح (2/ 604).
(4)
المصلحة المرسلة: ويعبر عنها بعضهم بالمناسب المرسل، وبعضهم بالاستصلاح، وبعضهم بالاستدلال.
وهذه التعريفات وإن كانت تبدو مترادفة؛ إلا أن كل إطلاق كان لنظر من جهة معينة؛ وذلك أن كل حكم يقوم على أساس المصلحة يمكن أن ينظر إليه من ثلاثة جوانب:
أحدها: جانب المصلحة المترتبة عليه.
ثانيهما: جانب الوصف المناسب الذي يستوجب ترتيب الحكم عليه تحقيق تلك المصلحة.
ثالثها: بناء الحكم على الوصف المناسب أو المصلحة (أي المعنى المصدري).
فمن نظر إلى الجانب الأول عبر بالمصلحة المرسلة، (وهي التسمية الشائعة).
ومن نظر إلى الجانب الثاني عبر بالمناسب المرسل؛ كابن الحاجب.
ومن نظر إلى الجانب الثالث عبر بالاستصلاح أو الاستدلال. وممن عبر بالاستصلاح: الغزالي في المستصفى، وممن عبر بالاستدلال: إمام الحرمين الجويني في البرهان، وابن السمعاني.
وجعل بعضهم اسم " الاستدلال " شاملاً لما عدا دليل الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ كالاستحسان والاستصحاب، فعبر هؤلاء عن المصالح المرسلة بالاستدلال المرسل؛ ومنهم الزركشي في البحر المحيط.
يُنظر: ضوابط المصلحة (ص: 329 - 330). ويُنظر: البرهان (2/ 1113)؛ (المستصفى (2/ 478)؛ مختصر ابن الحاجب (2/ 1098)؛ البحر المحيط (6/ 76).
وقال في المراقي (ص: 356):
والوصف حيث الاعتبار يجهل
…
فهو الاستصلاح قل والمرسل.
(5)
شنع =
وبهاتين الصفتين يحصل للمغاربة بعض التحامل عليه، مع اعترافهم بعلو قدره، واقتصارهم -لا سيما في علم الكلام- على كتبه، ونهيهم عن كتب غيره" (1).
ويؤكد كلام ابن السبكي ما جاء في التحقيق والبيان للأبياري من استدراكات على الجويني هدفها الدفاع عن الإمام مالك؛ ومن ذلك (2):
ما ذكره إمام الحرمين في مسألة (هل العبرة بعموم اللفظ أو خصوص السبب؟ ): "
…
مستمسك إمام دار الهجرة مالك رضي الله عنه يقتضي تحليل الحشرات والقاذورات والعذرات وغيرها من النجاسات. فلا يستمر إجراء الآية (3) على العموم
= عدد من العلماء على الإمام مالك أخذه بالمصلحة المرسلة مع أن مذهبه لا يختلف عن بقية المذاهب في المصلحة؛ حيث وافقهم على عدم اعتبار المصلحة المخالفة للنص. يُنظر مذهب المالكية في المسألة في: شرح تنقيح الفصول للقرافي (ص: 446)؛ مفتاح الوصول (ص: 704)؛ تقريب الوصول (ص: 409 - 410).
(1)
يُنظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/ 192).
(2)
وسيأتي في الفصل الثالث، المبحث الثاني، استدراك الأصولي على مخالف له في المذهب.
(3)
المراد بالآية قوله تعالى: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام: 145].
مع اعتقاد هذا الذي ادعيناه وقطع السلف بالتحريم فيه، فإن أنكر منكر هذا، واندفع في تحليل هذه الأشياء، علم قطعًا انسلاله عن ضبط المسألة، واستبطاؤه مركب العقوق
…
" (1).
فقال الأبيَارِي مستدركًا عليه: "
…
أما كونه يدعي على السلف القطع بالتحريم؛ فيا لله ويا للمسلمين أيكون الإمام (2) أعرف من مالك بمواضع إجماع الصحابة واختلافهم مع قرب عصره، ومحل ولادته وتربيته، ودوام اشتغاله بالبحث عن أحوالهم وأقوالهم؟ ! هذا والله محال؛ غير أنه قد نقل عن القوم خلاف ما ذكره، «سئل ابن عباس عن الحشرات، فأفتى بحِلَّها، وتلا الآية» (3). ثم إنه اقتصر في نسبة مالك رحمه الله إلى خرق الإجماع على التمسك بعادة الصحابة، ولم ينقل في ذلك شيئًا أصلاً؛ غير أنه قال:(قطع السلف بالتحريم فيه)
…
ثم أطلق لسانه في مالك رحمه الله ونسبه إلى استيطاء (4) مركب العقوق، فيا ليت شعري ما الذي عنى بكونه عاقًا؟ هل عقه؟ فهو -بحمد الله- غير ملتفت إلى أصحاب هذه المقالة حتى يعقهم؛ إذ هو مجتهد يعمل بما أراه الله تعالى، أم عق صاحب الشريعة؟ وهذا هو الذي أراده صاحب الكتاب؛ لأنه نسبه إلى جحد الأدلة القاطعة، ومعاذ الله أن يكون الأمر كذلك! وما ينبغي أن تطلق
(1) البرهان (1/ 376).
(2)
أي: الجويني.
(3)
لم أقف على هذا الأثر عن ابن عباس، والذي وجدته في سنن أبي داود أن ابن عمر سئل عن القنفذ، فتلا الآية. يُنظر: سنن أبي داود، ك: الأطعمة، ب: في أكل حشرات الأرض، (3/ 354/ح: 3799). وأما الحشرات فعن الملقام بن تلب عن أبيه قال: «صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريمًا» . يُنظر: سنن أبي داود، ك: الأطعمة، ب: في أكل حشرات الأرض، (3/ 354/ح: 3798).
(4)
يقال: فلان قد استوطأ المركب، أي وجده وطيئا: أي لينا. يُنظر: الصحاح (ص: 1146)، القاموس المحيط (ص: 55) مادة: (وطأ).
الألسنة في الأئمة على هذا الوجه، فإن هذا يقبح من العوام فيما بينهم!
…
" (1).
واستدرك عليه في موضع آخر: "قال الإمام (2) رحمه الله: (ونحن نضرب في ذلك مثالاً ثم نذكره بحسبه لمالك) إلى قوله: (أنا أقتل ثلث الأمة استبقاء لثلثيها). قال الشيخ: هذا الذي ذكره الإمام ظاهر الفساد، وذلك أنه ألزم القول بالاستدلال على خلاف الإجماع، وذلك أن الأعضاء إنما أباح الشرع إيلامها في القصاص دون التَّعْزِيْر (3). وإذا كانت الأعضاء مصانة عن التعزير بالتوقيف؛ فكيف يصح أن يلزم إتلافها في التَّعْزِيْرِ على القول بالاستدلال؟
الوجه الثاني: أنه يعترف بأنه لو فعل ذلك لكان على خلاف الإجماع، فكيف يلزم خصمه الذي يشترط في القول بالاستدلال ألا يخالف أصلاً من أصول الشريعة؟ !
وأي شيء أعظم من الفساد من اتباع مصلحة تفضي خرق الإجماع؟ !
فهذا الإلزام بعيد عن الصواب" (4).
• بيان الاستدراك:
استدرك الأبياري على الجويني إلزامه للمالكية بلازم فاسد؛ وذلك أن الجويني ضرب مثالاً بافتراض وقوع واقعة نازلة لا عهد بمثلها، فلو رأى ذو نظر إيلام الأعضاء في هذه النازلة كجدع الأنف، وأيد رأيه بأن العقوبات مشروعة لحسم الفواحش، وهذه العقوبة -وهي جدع الأنف- مناسبة لهذه النازلة. فالجويني يقول: إن رأيه هذا مردود، والإمام مالك يخالفنا في تجويز مثل هذه العقوبة بناء على قوله
(1) التحقيق والبيان (2/ 75 - 79).
(2)
أي: إمام الحرمين في البرهان، يُنظر قوله في البرهان (2/ 1132 - 1133).
(3)
التَّعزير لغة: المنع، يقال: عزرته: إذا منعته. يُنظر: لسان العرب (10/ 133) مادة: (عزر).
واصطلاحًا: التَّأديب الذي دون الحد؛ لأنه يمنع الجاني من معاودة الذنب. يُنظر: المطلع (ص: 374).
(4)
التحقيق والبيان (4/ 175).
بالاستدلال -الاستصلاح-، ويلتزم مثله في تجويزه لأهل الإيالات القتل في التهم العظمى.
فاستدرك الأبياري على الجويني إلزامه هذا فاسد من وجهين:
الأول: أن فيه إلزامًا بالقول بالاستدلال على خلاف الإجماع؛ وذلك لأن الإجماع انعقد على أن الأعضاء مصانة عن التعزير، فكيف يصح أن يلزم المالكية إتلافها في التعزير على قولهم بالاستدلال؟ !
الثاني: أن الجويني يقر بأن المالكية لو قالوا بإتلاف الأعضاء بالتعزير بناء على قولهم بالاستدلال؛ لكان ذلك منهم خلاف الإجماع، فكيف به يلزمهم ذلك وهم يشترطون في صحة القول بالاستدلال ألا يخالف أصلاً من أصول الشريعة، والإجماع أصلٌ عظيم من أصول الشريعة؟ !
وأما الاستدراك على الخصم المقدر؛ فذلك بأن يقدر المستدرِك استدراكًا من الخصم لأجل تقوية مذهبه العقدي أو الفقهي، وهو ما يعرف بأسلوب الفنقلة، وهذا مما يكثر في كتب الأصول؛ وخاصة في المصنفات على طريقة الجمهور.
وأقرر ذلك بالأمثلة التالية:
• المثال الأول: الاستدراك على الخصم المقدّر المخالف في المذهب العقدي:
قال القاضي أبو يعلى في مسألة (الواجب المخير): "إذا ورد الأمر بأشياء على طريق التخيير؛ كالكفارات الثلاثة ونحوها؛ فالواجب واحد منها بغير عينه، فيتعين ذلك بفعله، فيصير كأنه الواجب عليه بنفس السبب
…
وذهب المعتزلة إلى أن الجميع واجب على طريق التخيير (1) " (2).
ثم ذكر في استدلاله بمذهبه: "
…
وأيضًا: لو فعل الجميع لم يكن الواجب إلا واحدًا من الجملة، فلو كان الجميع واجبًا قبل الإيقاع؛ لكان متى تعين بالفعل وقع
(1) المعتمد (1/ 77 - 90).
(2)
العدة في أصول الفقه (1/ 302).
على الصفة التي كان عليها قبل الإيقاع، ألا ترى الذي تعين فعله لا يجوز أن تخالف صفته حال الإيقاع لما تعلق به الأمر، مثل سائر الواجبات التي ثبتت من غير تخيير، ولما ثبت أن الواحد منها يقع واجبًا دل على أن الواجب واحد منها" (1).
ثم قدر سؤالاً من الخصم وأجاب عليه لتقوية مذهبه فقال: "فإن قيل: إنما يقع جميعها واجبًا؛ لأنها كانت واجبة على التخيير.
قيل: المفعول يقع عن الواجب كما يقع لو لم يكن مخيرًا فيه، ألا ترى أن من خير في تعيين الحرية في أحد عبديه وأداء الصلاة في أول الوقت؛ فإنه واجب مخير فيه، ولو فعله لوقع ذلك عن الواجب، كما يقع لو لم يكن مخيرًا فيه" (2).
ويستمر في ذكر استدراكات مقدرة من الخصم ويجيب عنها، وكل ذلك لغرض تقوية دليله ومذهبه. (3)
• المثال الثاني: الاستدراك على الخصم المقدّر المخالف في المذهب الفقهي:
ما ذكره السرخسي في (فصل في بيان حكم العام)؛ حيث ذهب الحنفية إلى أن العام موجب للحكم فيما يتناوله قطعًا بمنزلة الخاص موجب للحكم فيما تناوله (4)، فقدر استدراكًا من الخصم بقوله: "فإن قال قائل: إن الخاص أيضًا لا يوجب موجبه قطعًا لاحتمال إرادة المجاز منه، وإنما يوجب موجبه ظاهرًا ما لم يتبين أنه ليس المراد به المجاز بدليل آخر، بمنزلة النص في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن بقاء الحكم الثابت بالنص يكون ظاهرًا لا مقطوعًا به؛ لاحتمال النسخ وإن لم يظهر الناسخ بعد.
قلنا: هذا فاسد؛ لأن مراد المتكلم بالكلام ما هو موضوع له حقيقة، هذا معلوم، وإرادة المجاز موهوم، والموهوم لا يعارض المعلوم، ولا يؤثر في حكمه، وكذلك
(1) العدة في أصول الفقه (1/ 304).
(2)
المرجع السابق.
(3)
يُنظر: المرجع السابق (1/ 304 - 306).
(4)
أصول السرخسي (1/ 132).