الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المطلب الخامس
مرحلة الاستدراك المقصدي
ربط المقاصد بمسائل أصول الفقه يُعد -في ذاته- استدراكًا لما سبق من التصنيف في أصول الفقه، فعلم المقاصد مر بمراحل أخذ بعضُها برقاب بعض؛ حتى أتى أبو إسحاق الشاطبي (ت: 790 هـ) ففتح من هذا العلم مغلقَه، وحلَّ مُشكِله، وفصل مُجمله، وبسط مسائله، وشرح قواعده، ورتب أبوابه، وأضاف له إضافات حسنة. (1)
فنجد الإمام الشاطبي في كتابه الموفق الموسوم بالموافقات في أصول الشريعة يستدرك على الرازي في عدم تعليله لأحكام الشريعة (2)، وينقد إدراج مسائل لا علاقة لها بعلم الأصول (3)، وغير ذلك من استدراكات تضمنها كتاب الموافقات.
وبعد الإمام الشاطبي لم يُبحث علم المقاصد بحثًا مستقلًّا؛ حتى جاء محمد الطاهر ابن عاشور (ت: 1393 هـ) فألف كتابه: مقاصد الشريعة الإسلامية (4)، فاستدرك على الشاطبي عدة استدراكات؛ أذكر منها ما تيسر لي الوقوف عليه في الأمثلة التالية:
• المثال الأول:
استدرك على الشاطبي قوله بقطعية أصول الفقه، ثم ذكر سبب الخلاف في المسألة وما اختاره فقال: "وقد حاول أبو إسحاق الشاطبي في المقدمة الأولى من
(1) يُنظر: مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية لليوبي (ص: 69).
(2)
وسبق ذكر هذا الاستدراك في (ص: 542).
(3)
وسبق ذكر هذا الاستدراك في (ص: 219).
(4)
يُنظر: مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية لليوبي (ص: 71).
كتاب الموافقات الاستدلال على كون أصول الفقه قطعية (1)، فلم يأتِ بطائل.
وأنا أرى أن سبب اختلاف الأصوليين في تقييد الأدلة بالقواطع: هو الحيرة بين ما ألِفُوه من أدلة الأحكام، وما راموا أن يصلوا إليه من جعل أصول الفقه قطعية كأصول الدين السمعية؛ فهم قد أقدموا على جعلها قطعية، فلما دوَّنوها وجمعوها ألفَوْا القطعي فيها نادرًا ندرةً كادت تذهب باعتباره في عداد مسائل علم الأصول، كيف وفي معظم أصول الفقه اختلاف بين علمائه؟ ! فنحن إذا أردنا أن ندون أصولاً قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نُعِيدَ ذوبها في بوتقة التدوين، ونعيرها بمعيار النظر والنقد؛ فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت (2) بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه (علم مقاصد الشريعة)، ونترك علم أصول الفقه على حاله تُستمَدُّ منه طرق تركيب الأدلة الفقهية، ونعمد إلى ما هو من مسائل أصول الفقه منزو تحت سُرَادِق مقصدنا هذا من تدوين مقاصد الشريعة، فنجعل منه مبادئ لهذا العلم الجليل: علم مقاصد الشريعة" (3).
وقال في موضع آخر من كتابه في نفس الموضوع: "وأبو إسحاق الشاطبي حاول في المقدمة من كتابه عنوان التعريف (4) طريقة أخرى لإثبات كون أصول الفقه قطعية، وهي طريقة لا يوصل منها إلا قوله: (الدليل على ذلك: أنها راجعة إلى كليات
(1) يُنظر كلام الشاطبي واحتجاجه لكون أصول الفقه قطعية في: الموافقات (1/ 17 - 24).
(2)
الغلث: الخلط، غَلَثْتُ الشيء بغيره غلثًا: خلطته به. يُنظر: الصحاح (ص: 781)؛ المصباح المنير (2/ 450) مادة: (غلث).
(3)
مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور (ص: 172).
(4)
المراد به: كتاب الموافقات؛ فإن الشاطبي لأجل ما أودعَ فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنفية رغب في تسميته بـ (عنوان التعريف بأسرار التكليف)، ثم عدل عن هذه التسمية إلى (الموافقات) لرؤيا بعض أصدقائه. يُنظر: الموافقات (1/ 10 - 11).
الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي) (1). أي: لو تحققنا رجوع شيء معين إلى تلك الكليات- وأعني بالكليات: الضروريات والحاجيات. ثم ذهب يستدل على ذلك بمقدمات خطابية وسفسطائية أكثرها مدخول ومخلوط غير منخول" (2).
• المثال الثاني:
قال ابن عاشور: "
…
ولحِق بأولئك أفذاذ أحسب أن نفوسهم جاشت بمحاولة هذا الصنيع؛ مثل: عز الدين عبدالعزيز بن عبدالسلام المصري الشافعي في قواعده (3)، وشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المصري المالكي في كتابه الفروق (4)؛ فلقد حاولا غير مرةٍ تأسيس المقاصد الشرعية.
والرجلُ الفذُّ الذي أفرد هذا الفنَّ بالتدوين هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المالكي؛ إذ عُنِي بإبرازه في القسم الثاني من كتابه المسمى: عنوان
(1) يُنظر: الموفقات (1/ 17 - 18).
(2)
يُنظر: مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور (ص: 234).
(3)
قال حاجي خليفة: "القواعد الكبرى في فروع الشافعية، للشيخ عز الدين عبدالعزيز بن عبدالسلام الشافعي (ت: 660 هـ)، وليس لأحد مثله، وكثير منها مأخوذ من شعب الإيمان للحليمى، وله القواعد الصغرى
…
". يُنظر: كشف الظنون (2/ 1359).
قلت: وله أيضًا قواعد الأحكام في مصالح الأنام، اشتمل على مجموعة من قواعد المقاصد.
(4)
قال حاجي خليفة: "أنوار البروق في أنواء الفروق، للشيخ شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المالكي، (ت: 682 هـ)، وهو مجلد كبير، أوله: (الحمد لله فالق الإصباح)، جمع فيه 540 قاعدة من القواعد الفقهية". كشف الظنون (1/ 186).
وفي اكتفاء القنوع: "
…
ويعرف بالأنوار والقواعد السنية في الأسرار الفقهية، ويعرف على الإطلاق بالفروق، وعلى هوامش الأجزاء الأربعة كتاب إدرار الشروق على أنواء الفروق لابن الشاط (ت: 723 هـ)، ينتقد فيه ابن الشاط على القرافي انتقادًا شديدًا، وكلاهما في الفروق في الفقه على مذهب مالك بن أنس". يُنظر: اكتفاء القنوع (ص: 139).
التعريف [بأصول](1) التكليف في أصول الفقه، وعنوان ذلك القسم بكتاب المقاصد؛ لكنه تطوَّحَ في مسائله إلى تطويل وخلط، وغفل عن مهمات من المقاصد؛ بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود، على أنه أفاد جدَّ الإفادة، فأنا أقتفي آثاره، ولا أهمل مهماته؛ ولكن لا أقصد نقله ولا اختصاره" (2).
• المثال الثالث:
قال ابن عاشور: "مثال المقاصد الظنية القريبة من القطعي: ما قال الشاطبي في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة: (الدليل الظني إما أن يرجع إلى أصل قطعي؛ مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرَرَ ولَا ضِرارَ» (3)؛ فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى؛ فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات، وقواعد كليات؛ كقوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233].
(1) في النسخة المطبوعة (عنوان التعريف بأسرار التكليف)، وسبق أنه هو نفسه كتاب الموافقات.
(2)
يُنظر: مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور (ص: 174).
(3)
هذا الحديث ورد بعدة روايات؛ منها:
رواية الإمام أحمد وابن ماجه والطبراني في الكبير من طريق ابن عباس، يُنظر: مسند الإمام أحمد (1/ 313/ح: 2867)، سنن ابن ماجة، ك: الأحكام، ب: من بَنَى في حقّه ما يَضُرُّ بجاره، (2/ 784/ح: 2341)؛ المعجم الكبير (11/ 228/ح: 11576)، (11/ 302/ح: 11806).
ورواه الدارقطني والحاكم من طريق أبي سعيد الخدري، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه. يُنظر: سنن الدراقطني، ك: البيوع، (3/ 77/ح: 288)؛ المستدرك على الصحيحين، ك: البيوع، (2/ 66/ح: 2345).
يُنظر: تذكرة المحتاج (1/ 78). وقال الألباني: صحيح. وذكر طرقه، فلتراجع في إرواء الغليل (3/ 408 - 414).
ومنها: النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأغراض، وعن الغصب والظلم، وكل ما هو في المعنى إضرار وضرار. ويدخل تحته الجناية على النفس، أو العقل، أو النسل، أو المال، فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك).
فإن الأدلة المذكورة في كلام الشاطبي وإن كانت كثيرة؛ إلا أنها أدلة جزئية، والدليل العام منها وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا ضرَرَ ولا ضِرارَ» ، خبر آحاد؛ وليس بقطعي النقل عن الشارع؛ لأن السنة غير المتواترة ليست قطعية المتن" (1).
• المثال الرابع:
قال ابن عاشور في بيان المصلحة: "ويظهر لي أن نعرِّفها بأنها: وصف للفعل يحصل به الصلاح. أي: النفع منه دائمًا أو غالبًا، للجمهور أو للآحاد.
فقولي: (دائمًا) يُشير إلى المصلحة الخالصة والمطردة.
وقولي: (أو غالبًا) يشير إلى المصلحة الراجحة في غالب الأحوال.
وقولي: (للجمهور أو للآحاد) إشارة إلى أنها قسمان كما سيأتي
…
وعرفها الشاطبي في مواضع من كتابه عنوان التعريف بما يتحصل منه بعد تهذيبه: أنها ما يؤثر صلاحًا أو منفعة للناس عمومية أو خصوصية، وملاءمة قارة في النفوس في قيام الحياة (2). وهو أقرب التعاريف السابقة على تعريفنا؛ ولكنه غير منضبط" (3).
• بيان الاستدراك:
استدرك ابن عاشور على الشاطبي في تعريفه للمصلحة من جهتين:
(1) ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور (ص: 237).
(2)
يُنظر كلام الشاطبي في معنى المصلحة وأصنافها في: الموافقات (2/ 44 وما بعدها).
(3)
يُنظر: مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور (ص: 279).
الجهة الأولى: تهذيبه لتعريف الشاطبي.
الجهة الثانية: بأن تعريفه غير منضبط.
كما أن ابن عاشور استدرك على إمام الحرمين والقرافي في مسألة (قواعد الأصول هل هي قطعية أو ظنية؟ (1))، واستدرك على إمام الحرمين (2) والغزالي (3) في المصلحة المرسلة (4).
(1) يُنظر: مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور (ص: 168، 171، 234).
(2)
يُنظر: كلام إمام الحرمين في المصلحة المرسلة في البرهان (2/ 1130 - 1135).
(3)
يُنظر كلام الغزالي في المصلحة المرسلة في: المستصفى (2/ 487 - 506).
(4)
يُنظر: مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور (ص: 309).