الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
القسم الثالث: استدراك عقلي بالتمثيل (القياس الأصولي)
(1).
قياس التمثيل، وهو القياس الأصولي المعروف (2)، وهو: حمل جزئي على جزئي آخر في حكمه؛ لاشتراكهما في علة الحكم (3).
مثل: النبيذ حرام قياسًا على الخمر؛ بجامع الإسكار في كل منهما (4).
• أمثلة استدراك عقلي بالتمثيل (قياس الأصولي):
• المثال الأول:
قال الجصاص في مسألة (دلالة صيغة الأمر المطلقة): "وأيضًا فإن قوله: (افعل) لا يخلو من أن يكون للإيجاب، أو الندب، أو الإباحة، فيكون مقتضيًا لجميع ذلك على الحقيقة، أو لبعضها حقيقة ولبعضها مجازًا، فإن كان حقيقة في الإيجاب مجازًا فيما سواه على ما يقوله؛ فواجب حمله على الحقيقة فلا يصرف إلى المجاز إلا بدلالة، وإن كان حقيقة في كل شيء من ذلك فقد صار حقيقة في الإيجاب وأفادنا باللفظ؛ فغير جائز صرفه عنه إلى غيره؛ لأن حكم اللفظ استعماله على الحقيقة".
(1) ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي أن قياس التمثيل الذي هو القياس الأصولي لا فرق بينه وبين القياس المنطقي في الحقيقة؛ لأنك إذا جعلت الفرع فيه حدًّا أصغرَ، والأصل حدًّا أكبرَ، والعلة حدًّا أوسطَ؛ كان قياسًا اقترانيًا، فلو قلت مثلاً: الذرة يحرم فيها الربا قياسًا على البر بجامع الكيل؛ فهذا قياس تمثيل، وهو القياس الأصولي، فإن جعلت الذرة في هذا القياس حدَّا أصغرَ، والبُرَّ حدَّا أكبر، والكيل حدًّا أوسط؛ كان قياسًا اقترانيًا، وكيفية نظمه أن تقول: الذرة مكيلة، وكل مكيل يحرم فيه الربا، النتيجة: الذرة يحرم فيها الربا. وبه تعلم أن تفريق المنطقيين بين قياس التمثيل وقياس الاقتران زاعمين أن الأول لا يفيد القطع، والثاني يفيده غلط منهم؛ لأن مرجعهم في الحقيقة إلى واحد، وكون النتيجة قطعية أو غير قطعية راجع في كل منهما إلى المقدمات التي يتركب منها الدليل. يُنظر: آداب البحث والمناظرة -بتصرف- (2/ 291 - 292).
(2)
يُنظر: ضوابط المعرفة (ص: 289 - 290)؛ تيسير المقدمة المنطقية (ص: 52).
(3)
يُنظر: المرجعان السابقان.
(4)
يُنظر: المرجعان السابقان.
فاستدرك عليه الخصم بقوله: "فإن قيل: ما أنكرت أن يكون حقيقة في كل واحد من ذلك، وأن الواجب إذا كان كذلك جاز حمله على الندب والإباحة حتى تقوم دلالة الإيجاب؛ لأن ما صلح للإيجاب ولغيره لم يجز أن يجعله واجبًا إلا بدلالة غير اللفظ، أو نقف فيه حتى تقوم دلالة المراد؛ إذ لم يجز أن يتناول جميع هذه الوجوه في حال واحدة لتضادها".
فاستدرك الجصاص على الخصم باستخدام التمثيل فقال: "قيل له: حقيقة الأمر أنه للإيجاب بما قد دللنا عليه في الباب الذي قبله، ولو سلمنا لك ما ادعيته من الحقيقة في كل واحد من هذه الوجوه لكان حمله على الإيجاب أولى؛ وذلك لأن المباح: ما لا يستحق بفعله الثواب، ولا بتركه العقاب، والندب: ما يستحق بفعله الثواب، ولا يستحق بتركه العقاب، ففيه زيادة معنى على المباح، والواجب: ما يستحق بفعله الثواب، وبتركه العقاب، ففيه زيادة حكم على الندب.
فلو سلم لك أن اللفظ حقيقة في جميع هذه الوجوه كان الأولى حمله على الوجوب؛ لأنه أكثر ما يتناوله ويقتضيه، وهو يفيد هذه المعاني فيه حقيقة. كما أن لفظ العموم وإن كان حقيقة في الثلاثة فما فوقها؛ نحو قوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]؛ كان الواجب حمله على أكثر ما يتضمنه ويقتضيه، ولم يجز الاقتصار به على الأقل إلا بقيام الدلالة. كذلك لفظ الأمر إذا كان يفيد الإيجاب حقيقة فقد تضمن وروده استيعاب جميع ما تعلق به من الحكم فلا جائز الاقتصار به على البعض
…
" (1).
• بيان الاستدراك:
استدرك الجصاص على دعوى الخصم بأن صيغة (افعل) للإيجاب والندب والإباحة على الحقيقة بقياس التمثيل، فقاس لفظ الأمر على لفظ العموم، بجامع
(1) يُنظر: الفصول في الأصول (2/ 91 - 92).
أن كلاًّ منهما لفظ يحمل على أكثر معانيه، فكما أنه يجب حمل العموم على أكثر ما يقتضيه اللفظ، ولا يجوز قصره على الأقل إلا بدليل يدل على القصر؛ فكذلك لفظ الأمر إن كان يفيد الإباحة والندب والإيجاب فيحمل على الإيجاب؛ لأن الإيجاب فيه معنى زائد على معنى الإباحة والندب.
• المثال الثاني:
قال الشيرازي في مسألة (خبر الواحد فيما تعم به البَلْوى): "ويجب العمل به فيما تعمُّ به البَلْوى، وفيما لا تعمُّ. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يجوز العمل به فيما تعمُّ به البَلْوى (1).
والدليل على فساد ذلك: أنه حكم شرعي يُسَوَّغُ فيه الاجتهادُ؛ فجازَ إثباتُه بخبر الواحد قياسًا على ما لا تعمُّ به البَلْوى" (2).
• بيان الاستدراك:
استدرك الشيرازي على قول الحنفية بدليل يدل على فساد قولهم، وهذا الدليل من القياس، وهو قياس الحكم الذي تعم به البلوى على الحكم الذي لا تعم به البلوى بجامع أن كليهما حكم شرعي يسوغ فيه الاجتهاد.
• المثال الثالث:
قال السمعاني في مسألة (استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز): "فإن قيل: فعلى ما قلتم تكون الكلمة الواحدة مجازًا وحقيقة وهذا يستحيل.
قلنا: هذا لا يأباه؛ لكن المجاز متعلق فيها بغير ما تعلق به الحقيقة؛ وهذا كالأمر الذي هو نهي عندنا عن جميع أضداد ما تناوله الأمر، فهو إذًا أمر ونهى؛ لكن اجتماعهما
(1) يُنظر: أصول السرخسي (1/ 368)؛ تيسير التحرير (3/ 112)؛ فواتح الرحموت (2/ 128).
(2)
اللمع (ص: 157).
في جهتين مختلفتين" (1).
• بيان الاستدراك:
استدرك السمعاني على المانعين لاستعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز بالقياس على الأمر؛ فإنه أمر من جهة، ونهي عن أضداده من جهة أخرى، وكذلك حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز، فهو حقيقة من جهة، ومجاز من جهة أخرى.
• المثال الرابع:
قال الغزالي في مسألة (دلالة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم): "
…
وأما مالم يقترن به بيان في نفي ولا إثبات؛ فالصحيح عندنا: أنه لادلالة له؛ بل هو متردد بين الإباحة، والندب، والوجوب، وبين أن يكون مخصوصًا به، وبين أن يشاركه غيره فيه، ولا يتعين واحد من هذه الأقسام إلا بدليل زائد،
…
وقال قوم: على الوجوب إن كان في العبادات، وإن كان في العادات فعلى الندب، ويستحب التأسي به. وهذه تحكمات؛ لأن الفعل لا صيغة له، وهذه الاحتمالات متعارضة، ونحن نفرد كل واحد بالإبطال" (2).
ثم استدرك على شبه القائلين بحمل أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوجوب؛ ومنها قوله: "الخامسة: - وهي أظهرها - تمسكهم بفعل الصحابة
…
"، وذكر على ذلك بعض الأمثلة ثم قال: "الجواب من وجوه: الأول: أن هذه أخبار آحاد، وكما لا يثبت القياس وخبر الواحد إلا بدليل قاطع؛ فكذلك هذا؛ لأنه أصل من الأصول" (3).
• بيان الاستدراك:
استدرك الغزالي على استدلال القائلين بحمل أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوجوب بفعل الصحابة، واستخدم في استدراكه التمثيل فقال: القياس وخبر الواحد من الأصول
(1) القواطع (2/ 106).
(2)
يُنظر: المستصفى (3/ 455 - 456).
(3)
يُنظر: المرجع السابق (3/ 462 - 463).
لا يثبت حجيتهما إلا بدليل قاطع (وهذا الأصل المقيس عليه).
ومسألتنا - دلالة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أصل من الأصول (وهذا الفرع المقيس).
والعلة الجامعة: أصل من الأصول.
الحكم: دلالة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لا يثبت حجيتها إلا بدليل قاطع.
• المثال الخامس:
قال الآمدي في مسألة (الفاسق المتأول الذي لا يعلم فسق نفسه): "الفاسق المتأول الذي لا يعلم فسق نفسه لا يخلو إما أن يكون فسقه مظنونًا، أو مقطوعًا به
…
وإن كان فسقه مقطوعًا به؛ فإما أن يكون ممن يرى الكذب ويتدين به، أو لا يكون كذلك.
فإن كان الأول فلا نعرف خلافًا في امتناع قبول شهادته كالخطابية من الرافضة (1)؛ لأنهم يرون شهادة الزور لموافقهم في المذهب.
وإن كان الثاني -كفسق الخوارج الذين استباحوا الدار، وقتلوا الأطفال والنسوان - فهو موضع الخلاف؛ فمذهب الشافعي وأتباعه وأكثر الفقهاء: أن روايته وشهادته مقبولة. وهو اختيار الغزالي (2) وأبي الحسين البصري (3) وكثير من الأصوليين.
(1) الخطابية: فرقة من الروافض ينسبون إلى أبي خطاب بن أبي زينب الأسدي، كان بالكوفة، زعم أن جعفر بن محمد الصادق إِلاه، فلعنه جعفر وطرده، فادعى في نفسه أنه إِلاه، فزعم أتباعه أن جعفرًا إِلاه، وأبو الخطاب أعظم منه، وأفضل من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهم خمس فرق، كلهم يزعمون أن الأئمة أنبياء محدثون ورسل الله وحجته على خلقه، وطاعتهم مفترضة على جميع الخلق، يعلمون ما كان وما هو كائن. يُنظر: فرق الشيعة (ص: 69 - 71)؛ مقالات الإسلاميين (ص: 10)؛ الفَرْق بين الفِرَق (ص: 215)؛ الملل والنحل (ص: 276).
(2)
يُنظر: المستصفى (2/ 240 - 246).
(3)
يُنظر: المعتمد (2/ 134 - 135).
وذهب القاضي أبو بكر (1) والجبائي وأبو هاشم (2) وجماعة من الأصوليين إلى امتناع قبول شهادته وروايته، وهو المختار. " ثم ذكر دليل هذا القول من النص والمعقول، فقال في دليل المعقول: "وأما المعقول فهو أن القول بقبول خبره يستدعي دليلاً، والأصل عدمه.
فإن قيل: بيان وجود الدليل النص، والإجماع، والقياس،
…
وأما القياس فهو أن الظن بصدقه موجود، فكان واجب القبول مبالغة في تحصيل مقصوده قياسًا على العدل والمظنون فسقه". ثم ذكر الجواب عن هذا القياس المستدرَك به بقوله:"وعن القياس بالفرق في الأصول المستشهد بها. أما في العدل فلظهور عدالته واستحقاقه لمنصب الشهادة والرواية، وذلك يناسب قبوله إعظامًا له وإجلالاً، بخلاف الفاسق. وأما في مظنون الفسق فلأن حاله في استحقاق منصب الشهادة والرواية أقرب من حال من كان فسقه مقطوعًا به، فلا يلزم من القبول ثم القبول هاهنا"(3).
• بيان الاستدراك:
استدل الآمدي للقائلين بمنع قبول شهادة ورواية المتأول فسقه: بأن قبول خبره يستدعي دليلاً، والأصل عدمه.
ثم قدر استدراكًا من الخصم ببيان وجود دليل على قبول خبر المتأول فسقه، وهذا الدليل من النص والإجماع والقياس.
ودليل القياس: بجعل العدل والمظنون فسقه أصلاً، يقاس عليه الفرع؛ وهو المتأول فسقه، بجامع وجود الظن بصدق خبره، وهذا القياس من باب التمثيل،
(1) لم أقف على قوله في مختصر التقريب. ويُنظر: التلخيص (2/ 351).
(2)
يُنظر قول أبي علي وأبي هاشم الجبائي في المعتمد (2/ 134).
(3)
يُنظر: الإحكام للآمدي (2/ 102 - 104).
وهو قياس جزء على جزء لعلة بينهما.
ثم استدرك الآمدي على هذا القياس: بأنه قياس مع وجود فارق.
• تنبيه:
قد يجتمع الاستدراك النقلي والعقلي؛ ومن أمثلة ذلك:
• المثال الأول:
ذكر الرازي اعتراضًا من الخصم المقدر (1) في مسألة (حجية الإجماع): "سلمنا دلالة هذه الآية (2) على أن الإجماع حجة؛ لكنها معارضة بالكتاب، والسنة، والمعقول.
أما الكتاب فكل ما فيه منع لكل الأمة من القول الباطل والفعل الباطل؛ كقوله عز وجل: {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169/الأعراف: 33]، {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، والنهي عن الشيء لا يجوز إلا إذا كان المنهي عنه متصورًا.
وأما السنة فكثيرة:
أحدها: قصة معاذ (3) وأنه لم يجر فيها ذكر الإجماع، ولو كان ذلك مدركًا شرعيًّا لما جاز الإخلال بذكره عند اشتداد الحاجة إليه؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وثانيها: قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تقُومُ السّاعَةُ إلا على شِرارِ الناس» (4)
…
(1) وقد أشار في أول المسألة أن المخالف: النظام، والشيعة، والخوارج.
(2)
وهي قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
(3)
سبق تخريجه (ص: 369).
(4)
أخرجه الإمام مسلم بلفظ (شرار الناس). يُنظر: صحيح مسلم، ك: الفتن، ب: قُرب الساعة، (4/ 2268/ح: 2949).
وهذه الأحاديث -بأسرها- تدل على خلو الزمان عمن يقوم بالواجبات.
وأما المعقول فمن وجهين:
الأول: أن كل واحد من الأمة جاز الخطأ عليه؛ فوجب جوازه على الكل، كما أنه لو كان كل واحد من الزنج أسود؛ كان الكل سودًا.
الثاني: أن ذلك الإجماع إما أن يكون لدلالة، أو لأمارة (1)، أو لا لدلالة ولا لأمارة.
فإن كان لدلالة فالواقعة التي أجمع عليها كل علماء العلم تكون واقعة عظيمة، ومثل هذه الواقعة مما تتوفر الدواعي على نقل الدليل القاطع الذي لأجله أجمعوا؛ فكان ينبغي اشتهار تلك الدلالة.
وحينئذٍ لا تبقى للتمسك بالإجماع فائدة.
وإن كان لأمارة فهو محال؛ لأن الأمارات يختلف حال الناس فيها؛ فيستحيل اتفاق الخلق على مقتضاها.
ولأن في الأمة من لم يقل بكون الأمارة حجة؛ فلا يمكن اتفاقهم لأجل الأمارة على حكم.
وإن كان لا لدلالة ولا لأمارة كان ذلك خطأ فادحًا في الإجماع، ولو اتفقوا عليه لكانوا متفقين على الباطل، وذلك قادح في الإجماع" (2).
• بيان الاستدراك:
استدرك الخصم القائل بعدم حجية الإجماع على استدلال القائلين بالحجية بقوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
(1) سبق أن ذكرنا الفرق بين الدليل والأمارة يُنظر: هامش (ص: 278).
(2)
يُنظر: المحصول (4/ 50 - 53).
مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] بأنها معارضة بأدلة من الكتاب، والسنة، والمعقول.
والاستدراك بأدلة الكتاب والسنة واضح.
وأما المعقول فاستدل بدليلين:
الأول: التمثيل: جاز الخطأ على كل واحدٍ، فيجوز على الكل؛ كالزنجي لما كان كل واحد أسود كان الكل أسود.
الجامع: الحكم بالكلية على الكل (1)
- الحكم بالآحاد على المجموعة -.
الثاني: القياس الاستثنائي المنفصل: أن ذلك الإجماع إما أن يكون لدلالة، أو لأمارة، أو لا لدلالة ولا لأمارة.
فإن كان الأول - مستند الإجماع الدليل القاطع- فهذه الواقعة عظيمة تتوفر الدواعي لنقل الدليل الذي بسببه أجمعوا، وحينئذ يكون حكم الواقعة الدليل القاطع وليس الإجماع، فلا يكون للإجماع فائدة.
وإن كان الثاني - مستند الإجماع أَمَارة - فتصور وقوع هذا الإجماع محال؛ لأن الأمارات يختلف حال الناس فيها؛ فيستحيل اتفاقهم عليها. إضافة إلى أن من الأمة من لم يقل بحجية الأمارة، فلا ينعقد الإجماع بدونهم؛ لأن الإجماع اتفاق جميع الأمة.
وإن كان الثالث - الإجماع بلا دلالة ولا أمارة- فإن ذلك خطأ عظيم في الإجماع؛ فإن الإجماع لابد له من مستند؛ إما دليل أو أمارة، فلو اتفقوا على إجماع
(1) الفرق بين الكلية والكل:
- الكلية: الحكم على كل فرد؛ كقولك: كل إنسان حيوان.
- الكل: المجموع المحكوم عليه؛ كقولك: أهل الأزهر علماء، إذ فيهم من ليس بعالم.
يُنظر: شرح الأخضري (27 - 28)؛ إيضاح المبهم (ص: 8)؛ آداب البحث والمناظرة (1/ 33 - 35).
خالٍ منهما؛ كانوا متفقين على الباطل، والاتفاق على باطل قادح في الإجماع؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة.
• المثال الثاني:
قال الآمدي في مسألة (تقليد المجتهد لغيره فيما لم يجتهد فيه): "المكلف إذا كان قد حصلت له أهلية الاجتهاد بتمامها في مسألة من المسائل؛ فإن اجتهد فيها وأداه اجتهاده إلى حكم فيها؛ فقد اتفق الكل على أنه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين في خلاف ما أوجبه ظنه وترك ظنه.
وإن لم يكن قد اجتهد فيها فقد اختلفوا فيه
…
والمعتمد في المسألة: أن يقال: القول بجواز التقليد حكم شرعي، ولا بد له من دليل، والأصل عدم ذلك الدليل، فمن ادعاه يحتاج إلى بيانه، ولا يلزم من جواز ذلك في حق العامي العاجز عن التوصل إلى تحصيل مطلوبه من الحكم جواز ذلك في حق من له أهلية التوصل إلى الحكم وهو قادر عليه، ووثوقه به أتم مما هو مقلد فيه؛ لما سبق.
فإن قيل: دليل جواز التقليد في حق من لم يجتهد وإن كانت له أهلية الاجتهاد: الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، أمر بالسؤال، وأدنى درجاته: جواز اتباع المسؤول واعتقاد قوله، وليس المراد به من لم يعلم شيئًا أصلاً؛ بل من لم يعلم تلك المسألة، ومن لم يجتهد في المسألة، وإن كانت له أهلية الاجتهاد فيها غير عالم بها؛ فكان داخلاً تحت عموم الآية.
وأيضًا قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] والمراد (بأولي الأمر): العلماء، أمر غير العالم بطاعة العالم، وأدنى درجاته جواز اتباعه فيما هو مذهبه.
وأما السنة فقوله عليه السلام: «أصحابي كالنجوم؛ بأيهم اقتديتم اهتديتم» (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم:«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِن بَعِدي» (2)، وقوله عليه السلام:«اقتَدُوا بِاللَّذَينِ من بعدي: أبي بَكرٍ وعُمَرُ» (3).
وأما الإجماع فهو أن عمر رجع إلى قول علي رضي الله عنه وإلى قول معاذ (4)، وبايع
(1) ذكره ابن عبدالبر بسنده من طرق عن ابن عمر وجابر، وضعَّف طرقه، وقال:"وهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ". يُنظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 90).
وذكر الزركشي وابن الملقن وابن حجر طرق هذا الحديث وضعفوه. يُنظر: المعتبر (ص: 80 - 85)؛ البدر المنير (9/ 584 - 588).
(2)
أخرجه الإمام أحمد والدرامي وابن ماجة وأبو داود والترمذي والبزار وابن حبان والطبراني والحاكم من حديث عرْبَاضِ ابن سَاريَةَ. يُنظر: مسند أحمد (4/ 126/ح: 17182)؛ سنن ابن ماجة، ب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين (1/ 15 - 16/ح: 42 - 43)؛ سنن الدارمي، ب: اتباع السنة، (1/ 57/ح: 95)؛ سنن أبي داود، ك: السُّنة، ب: لزوم السُّنة، (4/ 200/ح: 4607)؛ سنن الترمذي، ك: العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ب: ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، (5/ 44/ح: 2676)؛ مسند البزار (10/ 137/ ح: 4201)؛ صحيح ابن حبان، ذكر وصف الفرقة الناجية
…
، (1/ 178 - 180/ح: 5)؛ المعجم الكبير (18/ 245 - 249/ح: 617 - 624)(18/ 257/ح: 642)؛ المستدرك على الصحيحين، كتاب العلم، (1/ 174 - 176/ح: 330 - 332). وقال الحاكم: "هذا إسناد صحيح على شرطهما جميعًا ولا أعرف له علة".
(3)
أخرجه الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن حذيفة بن اليمان، يُنظر: مسند أحمد (5/ 328/ح: 23293)؛ سنن الترمذي، ك: المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ب: مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (5/ 609/ح: 3662)؛ مستدرك على الصحيحين (3/ 79 - 80/ح: 4451 - 4455).
قال الترمذي: "هذا حديث حسن". يُنظر: سنن الترمذي (5/ 609)، وقال الحاكم: "
…
فثبت بما ذكرنا صحة هذا الحديث وإن لم يخرجاه، وقد وجدنا له شاهدًا بإسناد صحيح عن عبدالله بن مسعود". يُنظر: المستدرك على الصحيحين (3/ 80).
وأخرجه الترمذي من حديث ابن مسعود، ك: المناقب، ب:، (5/ 672/ح: 3805) وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". ويُنظر: التلخيص الحبير (4/ 190).
(4)
قال ابن أبي شَيبَةَ: "حدثنا عبدالأَعْلَى عن محمد بن إِسحاق عن يزيد بن حبيب عن مَعمَرِ بن أبي حبِيبَةَ - مولى =
عبدالرحمن بن عوف عثمان على اتباع سنة الشيخين أبي بكر وعمر (1)، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة، مع أن المقلد كان أهلاً للاجتهاد، فصار ذلك إجماعًا.
وأما المعقول فهو أنه لا يقدر باجتهاده على غير الظن، واتباع المجتهد فيما ذهب إليه مفيد للظن، والظن معمول به في الشرعيات -على ما سبق تقريره-، فكان اتباعه فيه جائزًا" (2).
• بيان الاستدراك:
استدرك الخصم على المانعين التقليد للمجتهد في المسائل التي لم يجتهد فيها في قولهم: القول بجواز التقليد حكم شرعي، والحكم الشرعي لابد له من دليل، والدليل لم يوجد: بأن الدليل قد وجد من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، ودليل الكتاب والسنة والإجماع واضح.
= بنت صَفوَانَ- عن عبيد بن رِفاعَةَ عن أبيه رِفاعَةَ بن رافِعٍ قال: بينما أنا عند عُمرَ بن الخَطَّابِ رضي الله عنه إذ دخل عليه رجُلٌ فقال: يا أمير المؤمنين، هذا زيد بن ثابت يُفتِي الناس في المسجد بِرَأيِهِ في الغُسْلِ من الجَنَابَةِ. فقال عُمرُ: علَيَّ بهِ. فجاء زَيدٌ، فلما رآهُ عُمرُ قال: أيْ عدُوَّ نَفسِهِ، قد بَلَغتَ أنْ تُفتِيَ الناس بِرَأيِك! فقال: يا أمِيرَ المؤمنين، واَللَّهِ ما فعَلْت؛ ولَكِنْ سمِعْت من أعْمَامِي حدِيثًا فحَدَّثْت بهِ من أبي أيُّوبَ ومِنْ أُبيِّ بن كعْبٍ ومِنْ رِفاعَةَ. فقال عُمرُ: علَيَّ بِرِفاعَةِ بن رافِعٍ. فقال: قد كنتم تفعلون ذلك إذا أصَابَ أحدكم الْمرْأَةَ فأَكْسَلَ أنْ يغْتَسِلَ؟ قال: قد كنا نفعلُ ذلك على عهْدِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم لم يأْتِنَا فيه عن الله تحْرِيمٌ، ولم يكُنْ فيه عن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم شيْءٌ. فقال عُمرُ: ورَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعلَمُ ذلك؟ قال: ما أَدْري. فأَمر عمَرُ بجمعِ المهاجرين والأَنصارِ، فَجمِعُوا فشاورهم، فشَارَ الناس أنْ لا غسْلَ إلّا ما كان من معَاذٍ وعلي؛ فَإِنَّهمَا قالَا: إذا جاوزَ الْختَانُ الْختَانَ وجَبَ الْغسْلُ. فقال عمَرُ: هذا وَأَنْتمْ أَصحَابُ بَدرٍ قد اخْتَلَفْتمْ، فمن بعدكم أشَدُّ اختلافًا. فقال عَليٌّ: يا أَميرَ الْمؤْمِنِينَ، إنّهُ ليس أحدٌ أعلمُ بهذا من شَأنِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم من أزواجهِ، فأرسلَ إلى حَفصَةَ. فقالت: لا علمَ لي. فأرسلَ إلى عَائشَةَ، فقالت: إذا جاوزَ الْختَانُ الْختَانَ فقد وجَبَ الْغسْلُ .. فقال: لا أسمعُ بِرَجلٍ فعلَ ذلك إلّا أوجعتهُ ضَربًا". مصنف ابن أبي شيبة، ك: الطهارات، من قال: إذا التَقَى الخِتَانَانِ فقد وجَبَ الغُسْلُ، (1/ 85/ح: 947).
(1)
سبق تخريجه.
(2)
يُنظر: الإحكام للآمدي (4/ 247 - 251).
وأما دليل المعقول، فهو من قبيل الاستدراك العقلي مادته القياس الاقتراني:
اتباع المجتهد لمجتهد غيره مفيد للظن، وهذه المقدمة الأولى.
والظن معمول به في الشرعيات، وهذه المقدمة الثانية.
النتيجة: اتباع المجتهد لمجتهد غيره معمول به في الشرعيات.
وبعد معرفة أقسام الاستدراك الأصولي صار من المناسب عقدُ فصل يتحدث عن نشأته وتطوره في المصنفات الأصولية ومنهجه؛ وهو موضوع الفصل القادم.
الفصل الرابع