الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المطلب الأول
شروط الاستدراك الأصولي
(1)
1 -
أن يكون الاستدراك في العبارة الأصولية.
وغالبًا ما تكون العبارة الأصولية واردة في كتب الأصول، فلو استدرك على عبارة أصولية في غير كتب الأصول؛ فإنها تسمى "استدراكًا أصوليًّا".
أما إذا ورد قول المستدرَك عليه في كتب غير أصولية، ولم تكن المسألة أصولية؛ فلا يسمى الاستدراك استدراكًا أصوليًّا؛ بل ينسب إلى العلم الذي تم به الاستدراك.
وهذا الشرط إفادة تقيد الاستدراك بـ (الأصولي)، ويُعلم منه دخول الاستدراكات في الشأن غير الأصولي الواردة في الكتب الأصولية؛ كاستدراك شيخ الإسلام ابن تيمية (2) على الرازي في المحصول في مباحث كلامية؛ حيث درست هذه المباحث في الكتب المستدرك عليها بأنها من مسائل الأصول.
2 -
تعدي فعل الاستدراك: فلا يطلق الاستدراك الأصولي على فعل الاستدراك اللازم؛ بل لابد فيه من التعدي إلى المفعول؛ حتى تتحقق أركان الاستدراك الأربعة.
(1) استفدت هذه الشروط من الاستدراك الفقهي (ص: 129)، وزدت الشرط الثاني وغيرت في صياغة الشروط.
(2)
هو: أبو العباس، أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله تَيْميَّة الحراني، ثم الدمشقي، تقي الدين، الإمام الفقيه، المجتهد، المحدث، الحافظ المفسر، الأصولي الزاهد، شيخ الإسلام، كثير المحاسن، كان موصوفًا بفرط الشجاعة والكرم، وشهرته تغني عن الإطناب. له مصنفات كثيرة؛ منها:"العقيدة الوسطية"، و"درء تعارض العقل والنقل"، و"الإيمان"، (ت: 728 هـ) بدمشق محبوسًا في قلعتها، واجتمع في جنازته خلق كثير.
تُنظر ترجمته في: الذيل على طبقات الحنابلة (4/ 492)؛ طبقات الحفاظ (1/ 520)؛ شذرات الذهب (6/ 80).
فيقال مثلاً: استدرك الجويني على الشافعي قوله كذا بكذا.
3 -
تأخر المستدرك به عن المستدرك فيه: فالاستدراك لا يكون إلا على محل سابق، فلا يتصور تقدمه على المستدرَك فيه؛ سواء كان المستدرَك فيه واقعًا أو مقدرًا، فالواقع تأخيره ظاهر، وأما المقدر فلأن المستدل يقدره سابقًا على المستدرك به، فيكون تقدمه تقديرًا.
4 -
المخالفة بين المستدرك فيه -العمل الأول- والمستدرك به -العمل اللاحق-، فلا يتصور إطلاق الاستدراك الأصولي على العمل اللاحق إذا كان موافقًا للعمل الأول.
5 -
اتحاد متعلق المستدرك به بالمستدرك فيه: فمورد الاستدراك يكون على محل واحد، ولا يتصور تغاير المحل، فإذا تغير المحل فلا يسمى استدراكًا؛ وإنما زيادة.
6 -
اتحاد مادة الاستدراك (1) بين المستدرك فيه والمستدرك به: فلا يتصور التعقيب على المستدرك فيه لُغويًّا بأصل عقدي.
وهناك شرط خاص باستدراك نقد إضعاف دليل الخصم:
فإن استخدم المُستدرِك في إضعاف دليل خصمه الإلزام (2)؛ فيشترط له أن يكون الدليل الملزم به مُسلمًا عند الخصم، فإن لم يكن كذلك لم يفد الإتيان به.
يقول الشاطبي: "ومقصود المناظرة: رد الخصم إلى الصواب بطريق يعرفه؛
(1) يُنظر معايير الاستدراك من هذا البحث (ص: 552 - 656)
(2)
الإلزام في اللغة: من لزم الشيء يلزم لزومًا: ثبت ودام، ويتعدى بالهمزة فيقال: ألزمته: أي أثبته وأدمته، ولزمه المال: وجب عليه. يُنظر: المصباح المنير (2/ 552)؛ المعجم الوسيط (ص: 823) مادة (لزم).
وفي الاصطلاح: انتهاءُ دليلِ المستدل إلى مقدمات ضرورية أو يقينية مشهورة يلزمُ المعترضَ الاعتراف بها، ولا يمكنه الجحدُ، فينقطع بذلك. يُنظر: شرح الكوكب المنير (4/ 356 - 357). وقيل أيضًا: إبطال قول المخالف بناء على ما هو أصله. يُنظر: الإلزام دراسة نظرية وتطبيقية (ص: 130).
لأن رده بغير ما يعرفه من باب تكليف ما لا يطاق، فلا بد من رجوعهما إلى دليل يعرفه الخصمُ السائلُ معرفة الخصمِ المستدِلِّ، وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الآية؛ لأن الكتاب والسنة لا خلاف فيهما عند أهل الإسلام، وهما الدليل والأصل المرجوع إليه في مسائل التنازع، وبهذا وقع الاحتجاج على الكفار؛ فإنَّ الله تعالى قال:{قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى قوله: {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89]، فقرَّرَهم بما به أقرُّوا، واحتج بما عرفوا؛ حتى قيل لهم:{فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي فكيف تخدعون عن الحق بعد ما أقررتم به، فادعيتم مع الله إلهًا غيره
…
" (1).
وأقرر ذلك بالأمثلة التالية:
• المثال الأول:
ما ذكره الجَصَّاص في (باب القول في تخصيص العموم بالقياس): "كل ما لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد لا يجوز تخصيصه بالقياس؛ وذلك لأن خبر الواحد مقدم على القياس، فما لا يجوز تخصيصه فبالقياس أحرى ألا يخص، وهذا مذهب أصحابنا"(2).
ثم ذكر استدراكًا مقدرًا من الخصم فقال: "فإن قال: لما اتفقنا على جواز تخصيص العموم بالقياس العقلي (3)؛ وجب أن يكون كذلك حكمه في القياس الشرعي".
(1) الموافقات (5/ 415).
(2)
الفصول في الأصول (1/ 211).
(3)
يطلق القياس العقلي على معنيين:
أ - قياس المنطقي- نتيجة المقدمتين العقليتين-؛ كقولنا: النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، فالقياس: النبيذ حرام، وهو المراد هنا.
ب - قياس القضايا في أصول الدين ومسائل العقيدة إلى مقتضى العقل دون النظر في النصوص.
يُنظر: قواطع الأدلة (4/ 1)؛ الواضح في أصول الفقه (1/ 439)؛ شرح الكوكب المنير (4/ 12، 536).
فقدر أن الخصم يلزمه بدليل هو مسلم به؛ وهو جواز تخصيص العموم بالقياس العقلي.
فأجاب عن هذا بقوله: "قيل له: هذا صحيح على ما أصلنا؛ لأن القياس العقلي لما كان مفضيا بنا إلى العلم بصحة ما أدانا إليه، ولم يكن يجوز فيه التخصيص، وكان الحكم بموجب العموم من طريق يوجب العلم إذا أطلق؛ كان القياس العقلي قاضيًا على العموم؛ لأنه يفضي إلى العلم بموجباته في سائر الأحوال، والعموم لا يوجب العلم بموجباته في سائر الأحوال؛ إذ جائز إطلاق لفظ العموم والمراد الخصوص (1).
وأما القياس الشرعي فإنما هو اجتهاد وغالب ظن لا يفضي إلى العلم بحقيقة الحكم (2)، وقد يوجب عندنا أيضًا فيه التخصيص، وكان الحكم بالعموم الموجب للعلم أولى من تركه بقياس لا يوجب العلم، وهذا صحيح على ما قدمنا من أصول أصحابنا في هذا الباب مستمرًا عليها" (3).
• المثال الثاني:
قال القاضي أبو يعلى في مسألة (تعلق الأمر بالمعدوم): "الأمر يتعلق بالمعدوم، وأوامر الشرع قد تناولت جميع المعدومين إلى قيام الساعة ....
(1) العام المراد به الخصوص: أن يطلق اللفظ العام ويراد به بعض ما يتناوله، فلم يرد عمومه لا من جهة تناول اللفظ ولا من جهة الحكم؛ بل كلي استعمل في جزئي. يُنظر: البحر المحيط (3/ 249 - 251)؛ تشنيف المسامع (2/ 721)؛ شرح الكوكب المنير (3/ 166 - 167)؛ إرشاد الفحول (1/ 503 - 505). ومثاله: قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] والقائل واحد: نعيم بن مسعود. يُنظر: البحر المحيط (3/ 247)، وللاستزادة في الأمثلة يُنظر: الإتقان في علوم القرآن (4/ 1416 - 1417).
(2)
ليس هذا على الإطلاق، فالقياس قد يكون قطعيًا؛ كالقياس الجلي في معنى الأصل.
(3)
الفصول في الأصول (1/ 221).
وذهب المعتزلة (1) وجماعة من أصحاب أبي حنيفة (2) فيما ذكره أبو عبدالله الجرجاني (3) في أصوله إلى أن الأمر لا يتعلق بالمعدوم، وأن أوامر الشرع الواردة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم تختص بالموجودين في وقته، فأما من بعدهم فإنه دخل في ذلك بدليل" (4).
ثم ذكر إلزامًا مقدرًا من الخصم بأصول الحنابلة فقال: "فإن قيل: كيف تصح هذه المسألة على أصولكم وعندكم أن المعدوم ليس بشيء، وتدللون عليه بقوله:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]، وقوله:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1]؟ !
قيل: يصح على أصلنا من الوجه الذي بيَّنا، وهو أنه أمر بشرط وجوده على صفة من يصح تكليفه، وعلى أصل المخالف فهو لازم؛ لأن عندهم المعدوم شيء (5) " (6).
• المثال الثالث:
ما ذكره الآمدي في مسألة (تعليل الحكم الواحد في صورة واحدة بعلتين
(1) يُنظر: المعتمد (1/ 140).
(2)
يُنظر: مذهب الحنفية في: تيسير التحرير (2/ 131)؛ فواتح الرحموت (1/ 146)؛ حاشية المطيعي (1/ 304).
(3)
هو: أبو عبدالله، محمد بن يحيى بن مهدي الجرجاني، تفقه على أبي بكر الرازي، وتفقه عليه أبو الحسين القدوري، كان يدرس بمسجد " قطيعة الربيع " ببغداد. من مصنفاته:"ترجيح مذهب أبي حنيفة"، و"القول المنصور في زيارة القبور"، (ت: 397 هـ) ودفن إلى جانب قبر أبي حنيفة.
تُنظر ترجمته في: الجواهر المضِيَّة (3/ 397)؛ الفوائد البهية (ص: 202)؛ الأعلام (8/ 5).
(4)
يُنظر: العدة في أصول الفقه (2/ 386 - 387).
(5)
يذهب المعتزلة إلى أن (الشيء) يعم الموجودات والمعدومات. يُنظر: المعتمد (1/ 192).
(6)
يُنظر: العدة في أصول الفقه (2/ 391 - 392).
معًا (1))، بعد أن ذكر الأقوال في المسألة، واختار منع التعليل مطلقًا، فقال: "وذلك لأنه لو كان معللاً بعلتين لم يخل: إما أن تستقل كل واحدة بالتعليل، أو أن المستقل بالتعليل إحداهما دون الأخرى، أو أنه لا استقلال لواحدة منهما؛ بل التعليل لا يتم إلا باجتماعهما.
لا جائز أن يقال بالأول؛ لأن معنى كون الوصف مستقلاً بالتعليل أنه علة الحكم دون غيره، ويلزم من استقلال كل واحدة منهما بهذا التفسير امتناع استقلال كل واحدة منهما، وهو محال.
وإن كان الثاني أو الثالث فالعلة ليست إلا واحدة، وعلى هذا فلا فرق بين أن تكون العلة في محل التعليل بمعنى الباعث أو بمعنى الأمارة (2) ".
(1) تعليل الحكم الواحد بعلتين كما لو أن شخصًا قَتَلَ وارتد - والعياذ بالله- هل يعلل الحكم بالعلتين؟
وكما لو أحدث شخص أحداثًا مختلفة - كبول وريح -، ثم نوى حالة الوضوء رفع بعضها، هل ترفع مجموع الأحداث؟ يُنظر: التمهيد للإسنوي (ص: 390).
(2)
للعلة أسامٍ في الاصطلاح؛ وهي: السبب، والأمارة، والداعي، والمستدعي، والباعث، والحامل، والمناط، والدليل، والمقتضي، والموجب، والمؤثر.
أما تسميتها سببًا فلأنها طريق إلى معرفة الحكم، وهو يثبت عند وجودها؛ لأنها إنما المثبت لها الشارع.
وأما تسميتها أمارة فظاهر؛ لأن الأمارة - بفتح الهمزة - العلامة، والعلة الشرعية علامة على ثبوت الحكم.
وأما تسميتها الباعث فلأنه الباعث للشارع لوضع الحكم عند وجودها.
والفرق بين الباعث والأمارة المحضة: هو أن الباعث يكون مناسبًا لحكمه، ومقتضيًا له على وجه يحصل من اقتضائه إياه مصلحة ; بحيث يصح في عرف العقلاء أن يقال: إنما فعل كذا لكذا؛ كقولنا: إنما قتل المرتد لتبديله الدين، أو تقليل عدد المسلمين، أو إعانة الكافرين. وإنما وجب الحد بشرب الخمر لإفساده العقل. بخلاف الأمارة المحضة؛ كزوال الشمس وطلوع الهلال؛ إذ لا يناسب أن يقال: وجبت الصلاة لأن الشمس زالت، والصوم لأن الهلال ظهر، وإن صح ذلك في التخاطب العرفي؛ لكنه من جهة الاستدلال؛ لا من حيث التعليل، أي: زوال الشمس وطلوع الهلال دليل على وجوب الصلاة والصوم؛ لا علة لهما. وكذلك الأسباب الموجبة للتعبدات؛ كأسباب الحدث للوضوء هي أمارات لا بواعث؛ لعدم المناسبة. يُنظر: شرح مختصر الروضة (3/ 315 - 317).
فقدر استدراكًا إلزاميًا من الخصم بدليل مُسَلَّم به بينهما؛ وهو: جواز تعليل الحكم الواحد بعلل في كل صورة بعلة، فقال: "فإن قيل: نحن لا نفسر استقلال العلة بأن الحكم ثبت بها لا غير ليلزمنا ما قيل؛ بل معنى استقلالها أنها لو انفردت لكان الحكم ثابتًا لها ولا أثر لانتفاء غيرها، ولا يخفى وجه الفرق بينه وبين القسمين الآخرين.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع تعليل الحكم بعلتين على وجه تكون كل واحدة مستقلة بالحكم؛ لكنه معارض بما يدل على جوازه بالنظر إلى ما هو الواقع من أحكام الشرع؛ وذلك أنا قد اتفقنا على ثبوت الحكم الواحد عقيب علل مختلفة، كل واحدة قد ثبت استقلالها بالتعليل في صورة، وعند ذلك فإما أن يقال: العلة منها واحدة، أو الكل علة واحدة ذات أوصاف، أو أن كل واحدة علة مستقلة، لا جائز أن يقال بالأول، ؛ وإلا فهي معينة أو مبهمة، والقول بالتعيين ممتنع؛ لعدم الأولوية، ولما فيه من خروج الباقي عن التعليل مع استقلال كل واحدة به، وبهذا يبطل الإبهام، والقسم الثاني أيضًا؛ فلم يبق سوى القسم الثالث؛ وهو الاستقلال، ودليل ثبوت مثل هذه الأحكام الإجماع على إباحة قتل من قتل مسلمًا قتلاً عمدًا عدوانًا وارتد عن الإسلام، وزنى محصنًا وقطع الطريق معًا
…
" (1).
فأجاب الآمدي عن هذا: بأن الكلام مفروض في حالة الاجتماع لا في حالة الانفراد، والتقسيم في حالة الاجتماع فعلى ما سبق، وأما الأحكام التي ذكرتموها فالعلل وإن كانت متعددة؛ فالحكم أيضًا متعدد شخصًا وإن اتحد نوعًا. (2)
فإن لم يكن الدليل الملزم به مُسلمًا عند الخصم، كان الاستدراك ساقطًا؛ وأمثلة ذلك:
(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (3/ 296 - 297).
(2)
يُنظر: المرجع السابق (3/ 297).
• المثال الأول:
قال الجصاص في (باب القول في الوجوه التي يعلم بها النسخ): "قال أبو بكر: وأما طرق الاستدلال على الحكم الناسخ منهما من جهة الأصول فعلى وجوه كثيرة يتعذر وصف جميعها؛ ولكنا نذكر منها جملاً يعتبر بها نظائرها، وتدل على أمثالها، فنقول - وبالله التوفيق-: إن مما يجب اعتباره في حكم الخبرين المتضادين إذا لم يعلم تاريخهما وجاز على أحدهما أن يكون منسوخًا بالآخر: أن ما كان من ذلك مباح الأصل ثم ورد فيه خبران أحدهما يوجب الإباحة، والآخر الحظر؛ فحكم الحظر أولى، ويصير خبر الحظر رافعًا للإباحة"(1).
ثم ذكر إلزامًا من الخصم للحنفية بقوله: "فإن قال قائل: يلزمك على هذا الأصل أن تقضي بخبر إيجاب الوضوء من مس الذكر (2) على الخبر النافي له (3)؛
(1) الفصول في الأصول (2/ 296).
(2)
المراد به خبر بُسْرَة ابنَةِ صَفوَانَ: «من مس ذكره فليتوضأ» . يُنظر: سنن أبي داود، ك: الطهارة، ب: الوضوء من مس الذكر، (1/ 46/ح: 181)؛ سنن الترمذي، ك: أبواب الطهارة، ب: الوضوء من مس الذكر، (1/ 126/ح: 82)؛ سنن النسائي المجتبى، ك: الطهارة، ب: الوضوء من مس الذكر، (1/ 216/ح: 447)؛ صحيح ابن حبان، ك: الطهارة، ب: نواقض الوضوء، (3/ 400/ح: 1116)؛ المستدرك على الصحيحين، ك: الطهارة، (1/ 231/ح: 474 - 475)؛ قال الترمذي عنه: (هذا حديث حسن صحِيح). يُنظر: سنن الترمذي (1/ 127). وقال الألباني: صحيح. يُنظر: إرواء الغليل (1/ 150). ويُنظر طرق تخريجه في: نصب الراية (1/ 54 - 55).
(3)
المراد به خبر قيس بن طلق بن علي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يمس ذكره في الصلاة فقال: «هل هو إلا بضعة منك؟ ! » . أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 22 - 23/ح: 16329، 16338)؛ سنن أبي داود، ك: الطهارة، ب: الرخصة في ذلك، (1/ 46/ح: 182)؛ سنن ابن ماجة، ك: الطهارة وسننها، ب: الرخصة في ذلك، (1/ 163/ح: 483)؛ سنن الترمذي، ك: أبواب الطهارة، ب: ما جاء في ترك الوضوء من مسِّ الذكر، (1/ 131 - 132/ح: 85)؛ صحيح ابن حبان، ذكر البيان بأن حكم المتعمد والناسي في هذا سواء، (3/ 403/ح: 1120)؛ سنن النسائي (المجتبى)، ك: الطهارة، ب: ترك الوضوء من ذلك، (1/ 101/ح: 165). وقال الترمذي عنه: (وهذا الْحديث أحسن شيء روي في هذا البابِ). سنن الترمذي (1/ 132).
لأن خبر النفي وارد على الأصل، وخبر الإيجاب ناقل عنه، فوجب حظر الصلاة قبل إحداث الطهارة بعد المس.
قيل له: لا يلزمنا ذلك؛ لأن خبر الوضوء من مس الذكر لو انفرد عن معارضة خبر النفي لما لزمنا قبوله على أصلنا؛ لأنه مما بالناس إلى معرفته حاجة عامة (1)، فلا يقبل فيه أخبار الآحاد، وإنما ذكرنا الاعتبار الذي وصفنا في الخبرين إذا توازيا وتساويا في النقل ووجه الاستعمال، فأما إذا كانا على غير هذا الوجه فلهما حكم آخر" (2).
• المثال الثاني:
قال التاج السبكي: "وألزم إمام الحرمين مالكًا رضي الله عنه إن قال بالتمسك بكل رأي من غير قرب ومداناة بأن العاقل ذا الرأي العالم بوجوه الآيات إذا أرجع المفتين في واقعة، فأعلموه أنها ليست بمنصوصة، ولا أصل يضاهيها، بأن يسوغ له والحالة هذه أن يعمل بالصواب عنده، والأليق بطرق الاستصلاح.
قال (3): وهذا مَرْكَبٌ صعب، مساقه ردّ الأمر إلى عقول العقلاء، واحتكام الحكماء، ونحن على قطع نعلم أن الأمر بخلاف ذلك. ثم وجوه الرأي تختلف بالبقاع والأصقاع (4) والأوقات، وعقول العقلاء تتباين، فيلزم اختلاف الأحكام باختلاف
(1) يقصد بذلك: أن خبر بُسْرة بنت صفوان في إيجاب الوضوء من مس الذكر خبر واحد فيما تعم به البلوى، وهذا النوع من الأخبار عند الحنفية ليس بحجة. وأما ما ذكر من ترجيح خبر الحظر على خبر الإباحة؛ فإنما هو في الخبرين المتساويين في النقل ووجه الاستعمال.
(2)
يُنظر: الفصول في الأصول (2/ 299).
(3)
أي إمام الحرمين.
(4)
الأصقاع: جمع صُقع: الناحية من البلاد، والجهة أيضًا والمَحَلَّةُ، وهو في صُقْعِ بني فلان: أي في ناحيتهم ومحلِتهم. يُنظر: الصحاح (ص: 595)؛ المصباح المنير (2/ 345) مادة: (صقع).
كل ذلك، وهذا لا يلزم فيما له أصل وتقريب.
قال: ولو ساغ هذا لاتخذ العقلاء أيام كسْرَى أنُوشرْوَان (1) في العدل والإيالات (2) معتبرهم، وهذا يجر خبالاً الاستقلال به. (3)
وهذه الجملة التي أوردناها مجموعة من كلام إمام الحرمين في البرهان، وهذا الإلزام الذي ذكره أخيرًا لا يلزم مالكًا؛ لأنه يشترط في اتباع المصلحة أن لا يناقض أمرًا مفهومًا من الشريعة، والعامي من أين يعلم هذا؟ وما المانع من مناقضة ما يراه من الرأي لقواعد الشريعة؟ " (4).
وكذلك إن استخدم المُستدرِك في إضعاف دليل خصمه قادح النقض (5)؛ فيشترط أن لا يستدرك عليه بأصل نفسه؛ بل يستدرك عليه بأصله -أي بأصل المستدرَك عليه-.
جاء في المسودة: "مسألة: لا يقبل على الخصم أن ينقض علل المستدل بأصل نفسه، ذكره أصحابنا والشافعية
…
" (6).
(1) هو: كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز، اعتلى العرش بعد أبيه قباذ الأول، من ملوك فارس، كانت الإمبراطورية الساسانية في قمة مجدها إبان حكمه، فوضع الأسس لمدن وقصور وبناء العديد من الجسور والسدود، وازدهرت الفنون والعلوم، وكان فيلسوفًا وله شعبية في الثقافة الإيرانية، (ت: 579 م) - قبل الهجرة بـ 54 سنة -. تُنظر ترجمته في: الكامل في التاريخ (1/ 336)؛ ويُنظر ترجمة له وافية على ويكيبيديا الموسوعة الحرة على الرابط التالي: http://ar.m.wikipedia.org/wiki
(2)
الإيالات: جمع إيالة، وهي السياسة. يُنظر: لسان العرب (1/ 194 - 195)؛ القاموس المحيط (ص: 963) مادة: (أول).
(3)
البرهان (2/ 1120 - 1121).
(4)
الإبهاج (6/ 2652 - 2653).
(5)
سيأتي تعريف قادح النقض في الفصل الخامس: معايير الاستدراك الأصولي (ص: 571).
(6)
(ص: 288). ويُنظر كذلك: إحكام الفصول (2/ 665)؛ التمهيد لأبي الخطاب (4/ 158)؛ البحر المحيط (5/ 268).
ومثال ذلك: ما ذكره الشيرزي في مسألة (أن الأمر بالشيء هو نهي عن ضده من طريق المعنى) فقال: "الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق المعنى على سبيل التبع للأمر فيكون معتبرًا به، فإن كان الأمر على الوجوب اقتضى النهي عن ضده على سبيل التحريم، وإن كان على الاستحباب اقتضى النهي عن ضده على سبيل الكراهة والتبرئة.
وقال المعتزلة: لا يقتضي النهي عن ضده (1)، وهو قول بعض أصحابنا".
إلى أن قال: "فإن قيل: هذا يبطل بالنوافل؛ فإن الأمر بها يقتضي إرادتها وحُسنها، ثم لا يقتضي ذلك قُبح ضدها وكراهته.
فالجواب: أن هذا الشيء ألزمناهم على أصلهم، فلا يلزمنا الاعتذار عن النقض المتوجه عليه. وعلى أصلنا يقتضي استدعاء الفعل في النوافل على سبيل الاستحباب، فلا جرم أن يكون مقتضيًا للنهي عن ضده على سبيل الكراهة" (2).
(1) يُنظر: المعتمد (1/ 97).
(2)
شرح اللمع للشيرازي (1/ 262)؛ ويُنظر كذلك التبصرة (ص: 48).