الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي هذه الدلالة نظر؛ لأنّا نسلم أنَّ كلَّ سبب يعقبه الحكم؛ لكن لا نسلم أنَّ كلَّ ما يعقبه الحكم سبب؛ فإن القضية الكلية لا تنعكس كنفسها (1)، فلا بد من دلالة منفصلة على ذلك" (2).
• بيان الاستدراك:
كالمثال السابق بأن القضية الكلية الموجبة تنعكس قضية جزئية موجبة، فكلُّ سبب يعقبه الحكم قضية كلية موجبة.
تنعكس قضية جزئية موجبة: بعض ما يعقبه الحكم سبب.
لذلك قال الهندي: لا نسلم أنَّ كلَّ ما يعقبه الحكم سبب. فاستدرك انعكاسها قضية كلية.
•
القسم الثاني: الاستدراك العقلي غير المباشر:
وهو ثلاثة أقسام: استدراك عقلي مادته القياس المنطقي، واستدراك عقلي مادته الاستقراء، واستدراك عقلي مادته التمثيل. ونأتي على كل نوع بالتفصيل:
•
القسم الأول: استدراك عقلي مادته القياس المنطقي
.
القياس في الاصطلاح المنطقي (3): لفظ مؤلف من قضيتين فأكثر يلزم عنهما لذاتهما قول آخر (4).
(1) القضية الكلية الموجبة تنعكس قضية جزئية موجبة، وأما الكلية السالبة فتنعكس سالبة كلية. يُنظر: معيار العلم (ص: 84)؛ مختصر ابن الحاجب (1/ 212)؛ إيضاح المبهم (ص: 11).
(2)
نهاية الوصول (8/ 3270).
(3)
وأما في اللغة فقد سبق في هامش (ص: 121).
(4)
يُنظر: تحرير القواعد المنطقية (ص: 138)؛ شرح السلم للأخضري (ص: 32)؛ إيضاح المبهم (ص: 12)؛ آداب البحث والمناظرة (1/ 103).
وهو ينقسم إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول: القياس الاقتراني (1). ويسمى أيضًا القياس الحملي (2)، وقياس الشمول (3)، ويكون في القضايا الحملية (4)، والشرطيات المتصلة (5).
القسم الثاني: القياس الاستثنائي، ويسمى أيضًا القياس الشرطي (6)، ولا يكون إلا في القضايا الشرطية (7).
فالقياس الاقتراني: هو القياس الذي يدل على النتيجة بمعناها؛ لا بصورتها.
مثاله: العالم متغير، وكل متغير حادث؛ فينتج: العالم حادث.
القياس الاستثنائي: هو القياس الذي يدل على النتيجة بصورتها ومادتها،
(1) سمي اقترانيًا لا قتران حدوده الثلاثة -الحد الأكبر والأوسط والأصغر- من غير أن يتخللها حرف استثناء. يُنظر: حاشية الصبان على السلم (ص: 121)؛ آداب البحث والمناظرة (1/ 105)، ضوابط المعرفة (ص: 233).
(2)
سمي حمليًا لأن الحمليات تختص به. يُنظر: شرح الأخضري على السلم (ص: 33)؛ آداب البحث والمناظرة (1/ 105).
(3)
سمي شموليًا لأن الحد الأصغر إذا اندرج في الحد الأوسط، واندرج الحد الأوسط في الحد الأكبر؛ لزم اندماج الأصغر في الأكبر، وشموله له. يُنظر: آداب البحث والمناظرة (1/ 105).
(4)
القضية الحملية: ما كان طرفاها مفردين أو في قوة المفردين. والمراد بالمفرد هنا ما يقابل الجملة؛ مثالها: زيد قائم؛ فإنه ينحل طرفاه إلى مفردين. يُنظر: آداب البحث والمناظرة (1/ 65).
(5)
القضية الشرطية المتصلة: ما تركب من جزأين، ربط أحدهما بالآخر بأداة شرط. مثل: إن كانت الشمس طالعة؛ فالنهار موجود. يُنظر: السلم المنورق (ص: 10)؛ آداب البحث والمناظرة (1/ 66).
(6)
سمي شرطيًا، لأنه مركب من قضايا شرطية. يُنظر: شرح الأخضري على السلم (ص: 36).
(7)
القضية الشرطية: ما تركبت من جزأين ربط أحدهما بالآخر بأداة شرط أو عناد، فالأولى تسمى شرطية متصلة - إذا كان الرابط أداة شرط-، والثانية تسمى شرطية منفصلة - إذا كان الرابط أداة عناد-. يُنظر: السلم المنورق (ص: 10)؛ آداب البحث والمناظرة (1/ 66).
أو يدل على نقيضها (1).
وهذا القسم ينقسم إلى قسمين:
- قياس استثنائي متصل: وهو ما كانت مقدمته الكبرى شرطية متصلة.
- قياس استثنائي منفصل: وهو ما كانت مقدمته الكبرى شرطية منفصلة. (2)
وسيأتي الحديث عنهما، وضرب مثال لهما.
أقسام الاستدراك العقلي بالقياس المنطقي:
ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
• أولاً: استدراك عقلي بالقياس الاقتراني.
هذا القياس يتكون من ثلاثة حدود: الحد الأصغر، الحد الأوسط، الحد الأكبر (3).
- الحد الأصغر: الكلمة التي تختص بها المقدمة الصغرى التي تذكر أولاً.
- الحد الأكبر: الكلمة التي تختص بها المقدمة الكبرى التي تذكر ثانيًا.
- الحد الأوسط: الكلمة المتكررة التي هي جزء كل واحد من المقدمتين.
طريقة تركيب هذا القياس (النتيجة):
بجعل الحد الأصغر موضوعًا للنتيجة، والأكبر محمولاً لها، ويحذف الحد
(1) يُنظر: تحرير القواعد المنطقية (ص: 140)؛ شرح الأخضري على السلم (ص: 32)؛ إيضاح المبهم (ص: 12)؛ آداب البحث والمناظرة (1/ 105)؛ ضوابط المعرفة (ص: 228).
(2)
يُنظر: ضوابط المعرفة (ص: 271).
(3)
سميت حدودًا لأنها أطراف القياس ومنتهاه، وحد كل شيء: طرفه ومنتهاه. يُنظر: حاشية الصبان على السلم (ص: 121)؛ آداب البحث والمناظرة (1/ 180).
الأوسط (1).
مثاله: كل جسم مؤلف، وكل مؤلف حادث؛ فينتج: كل جسم حادث (2).
أمثلة استدراك عقلي بالقياس الاقتراني
• المثال الأول:
قال الرازي في مسألة (تعريف الحكم الشرعي): "قال أصحابنا: إنه الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير
…
" (3).
ثم ذكر استدراكًا من الخصم: "فإن قيل: هذا التعريف فاسد من أربعة أوجه:
أحدها: أنَّ حكم الله تعالى على هذا التقدير: خطابه، وخطاب الله تعالى كلامه، وكلامه - عندكم- قديم؛ فيلزم أن يكون حكم الله تعالى بالحل والحرمة قديمًا، وهذا باطل
…
" (4).
• بيان الاستدراك:
ذكر الرازي استدراكًا من الخصم المقدر على تعريف الحكم الشرعي، وكانت مادة الاستدراك: القياس الاقتراني. وتوضيحه:
- المقدمة الأولى: أن حكم الله تعالى على هذا التعريف: خطابه.
- المقدمة الثانية: وخطاب الله تعالى كلامه.
(1) يُنظر: معيار العلم (ص: 87)؛ إيضاح المبهم (ص: 12 - 13)؛ آداب البحث والمناظرة (1/ 106 - 107)؛ ضوابط المعرفة (ص: 230).
(2)
يُنظر: المستصفى (1/ 116)؛ معيار العلم (ص: 87)؛ ضوابط المعرفة (ص: 230).
(3)
يُنظر: المحصول (1/ 89).
(4)
يُنظر: المحصول (1/ 89 - 90). وهذه بناء على اعتقاد الأشاعرة بأن كلام الله تعالى قديم، وقد نبهنا على ذلك سابقًا. يُنظر هامش:(ص: 144، 300) من البحث.
- المقدمة الثالثة: وكلام الله تعالى - عندكم - قديم.
النتيجة: حكم الله تعالى قديم.
وهذه النتيجة باطلة لثلاثة أوجه ذكرها الخصم.
• المثال الثاني:
قال الرازي في مسألة (الشيء الواحد هل يجوز أن يكون مأمورًا به منهيًّا عنه معا؟ ): "الشيء الواحد لا يجوز أن يكون مأمورًا به منهيًّا عنه معًا. والفقهاء قالوا: يجوز ذلك إذا كان للشيء وجهان
…
فإن قلت: هما شيئان يجوز انفكاك كل واحد منهما عن الآخر في الجملة؛ إلا أنهما في هذه الصورة الخاصة صارا متلازمين.
قلت: ففي هذه الصورة الخاصة المنهي عنه يكون من لوازم المأمور به، وما يكون من لوازم المأمور به يكون مأمورا به؛ فيلزم أن يصير المنهي عنه في هذه الصورة مأمورًا به، وذلك محال، فهذا برهان قاطع على فساد قولهم على سبيل الإجمال" (1).
• بيان الاستدراك:
استدل المخالف القائل بجواز كون الشيء الواحد من وجهين مأمورًا به منهيًا عنه معًا: بأن الأمر والنهي شيئان يجوز انفكاكهما عن بعض في الجملة؛ إلا أنهما في صورة الشيء الواحد من وجهين صارا متلازمين.
فاستدرك عليهم الرازي بالقياس الاقتراني؛ وهو: أنه في صورة الشيء الواحد من وجهين المنهي عنه يكون من لوازم المأمور به (وهذه المقدمة الصغرى).
وما يكون من لوازم المأمور به يكون مأمورًا به (وهذه المقدمة الكبرى).
النتيجة بحذف الحد الأوسط - يكون من لوازم المأمور به، وما يكون من لوازم المأمور به- في صورة الشيء الواحد من وجهين المنهي عنه يكون مأمورًا به.
(1) يُنظر: المحصول (2/ 287 - 288).
وهذه النتيجة محالة، وما ترتب على المحال محال، فدل على فساد قول الخصم بأن الشيء الواحد من وجهين مأمورٌ به منهيٌ عنه.
• ثانيًا: استدراك عقلي بالقياس الاستثنائي المتصل.
القياس الاستثنائي المتصل عند المنطقيين، ويسميه الفقهاء (التلازم)(1).
ويتألف هذا القياس من مقدمتين:
- الأولى: شرطية متصلة. وهي المقدمة الكبرى، وتتألف من مقدم وتالٍ، ويسمى المقدم بالملزوم، والتالي باللازم.
- الثانية: حملية استثنائية مقرونة بـ (لكن) ونحوها، وهي المقدمة الصغرى.
والنتيجة في هذا القياس أو نقيضها موجودة بالفعل (أي موجودة فيه بمادتها (2) وصورتها (3)).
والضربان المنتجان في القياس الشرطي المتصل هما:
الأول: استثناء عين المقدم. مثاله: إن كان هذا إنسانًا فهو حيوان؛ لكنه إنسان، فالنتيجة: هو حيوان. وهي موجودة بالفعل في المقدمة الكبرى؛ لأنها عين التالي، فيلزم من وجود المشروط وجود الشرط. ولم أقف على استدراك استخدم فيه استثناء عين المقدم.
الثاني: استثناء نقيض التالي. مثاله: إن كان هذا إنسانًا فهو حيوان؛ لكنه ليس بحيوان، فالنتيجة: ليس بإنسان. فوجد نقيضها في المقدمة الكبرى؛ إذ هي نقيض
(1) يُنظر: المستصفى (1/ 125)؛ تقريب الوصول (ص: 124).
(2)
أي: حروفها.
(3)
أي: بصيغتها وهيئتها التركبية.
المقدم، فيلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط. وهذا النوع يسمى بقياس الخُلْف (1)، ويكثر استخدامه في الاستدراك على الخصوم.
قال الغزالي في طريقة تركيب قياس الخُلْف وسبب تسميته: "فطريق هذا القياس: أن تأخذ مذهب الخصم وتجعله مقدمة، وتضيف إليها مقدمة أخرى ظاهرة الصدق، فينتج من القياس نتيجة ظاهرة الكذب، فتبين أن ذلك لوجود كاذبة في المقدمات، ويجوز أن يسمى هذا (قياس الخلف)؛ لأنك ترجع من النتيجة إلى الخلف، فتأخذ مطلوبك من المقدمة التي خلفتها كأنها مسلمة. ويجوز أن يسمى قياس الخلف لأن الخلف هو الكذب المناقض للصدق، وقد أدرجت في المقدمات كاذبة في معرض الصدق"(2).
وقياس الخُلْف يسمى عند الأصوليين (بقياس العكس)، وفي هذا يقول الغزالي:"وإلى هذا البرهان يرجع ما لقبه فريق: بقياس العكس"(3).
• أمثلة استدراك عقلي مادته قياس الخُلْف:
• المثال الأول:
قال الشيرازي في مسألة (هل النص على العلة يوجب إثبات الحكم في كل موضع وجدت فيه؟ ): "إذا حكم صاحب الشرع بحكم في عين، ونص على علته؛ وجب إثبات الحكم في كل موضع وجدت فيه العلة، وهو قول النظام والقاشاني والنهرواني، وغيره من نفاة القياس، وهو مذهب الكرخي (4).
(1) يُنظر: مختصر ابن الحاجب (1/ 217)؛ شرح الأخضري على السلم (ص: 35 - 36)؛ آداب البحث والمناظرة (ص: 129 - 132)؛ ضوابط المعرفة (ص: 272).
(2)
معيار العلم (ص: 102).
(3)
شفاء الغليل (ص: 452 - 453).
(4)
لم أجد في كتاب الفصول للجصاص نقلاً عن شيخه الكرخي في هذه المسألة، وكذلك لم أجد قوله في المعتمد. يُنظر: الفصول (4/ 156 - 158)؛ المعتمد (2/ 235 - 239). وذكر النقل عن الكرخي القاضي أبو يعلى، والآمدي. يُنظر: العدة (4/ 1374)؛ الأحكام للآمدي (4/ 68).
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز إجراء العلة في كل موضع وجدت حتى يدل الدليل على ذلك، وهو قول البصري (1) من أصحاب أبي حنيفة
…
واحتجوا: بأن الأحكام إنما شرعت لمصلحة المكلفين، فيجوز أن تكون حلاوة السكر تدعو الإنسان إلى تناوله، وحلاوة غيره لا تدعو إلى تناوله؛ لأن الداعي إذا دعا إلى شيء لا يجب أن يدعو إلى كل ما شاركه في ذلك المعنى؛ ولهذا يجوز أن تدعوه الشهوة إلى أكل السكر، ولا تدعوه إلى أكل العسل، وإن اشتركا في الحلاوة، فإذا كان ذلك كذلك جاز أن يعلل تحريم السكر في الحلاوة لما في تحريمه من المصلحة؛ إلا أنه جعله أمارة على التحريم حيث وجدت، فلا يجوز قياس غيره عليه إلا بدليل.
قلنا: لو كان القصد به ما ذكرتم لاقتصر على بيان الحكم، ولما ذكر الحكم وعلته دل على أنه قصد إجراءها حيث وجدت.
قالوا: لو كان ذكر التعليل في شيء يقتضي الطرد والجريان؛ لوجب إذا قال الرجل: أعتقت عبدي فلانًا لأنه أسود: أن يعتق عليه كل عبد أسود، ولما بطل أن يقال هذا؛ دل على أن ذكر العلة لا يقتضي الطرد والجريان.
ولأنه لو لم يقصد إثبات الحكم في كل موضع وجدت فيه العلة، لم يفد ذكر التعديل شيئًا، وصار لغوًا.
قلنا: إنما لم يلزم من ذلك في حق الواحد منا؛ لأنه تجوز عليه المناقضة في أقواله
(1) هو: هلال بن يحي بن مسلم البصري، لقب بالرأي؛ لسعة علمه وكثرة فقهه، وكان عالماً بالشروط، أخذ عن أبي يوسف وزفر. من مصنفاته:"أحكام الوقف"، و" الشروط"، (ت: 245 هـ).
تُنظر ترجمته في: الأنساب (3/ 35)؛ الجواهر المضِيَّة (3/ 572)؛ تاج التراجم (ص: 312).
ولم أقف على ناقل لقوله.
وأفعاله، فأما صاحب الشرع فلأنه لا تجوز عليه المناقضة في أقواله وأفعاله، فإذا علل بعلة وجب طردها.
قالوا: ولكن ما جعل علة في الحكم غير موجب للحكم بنفسه؛ لأنه قد كان موجودًا قبل ذلك ولم يوجد الحكم.
وأيضًا: صار موجبًا بجعل جاعل، فيجب أن لا يكون علة إلا حيث جعلها علة.
قلنا: لو كان هذا صحيحًا لوجب أن لا يكون علة إلا في الزمان الذي جعله فيه علة؛ لأنه صار علة بجعله، فيجب أن يكون مقصورًا على الزمان الذي جعله فيه علة، ولما لم يصح أن يقال هذا في الزمان؛ لم يصح أن يقال ذلك في الأعيان" (1).
• بيان الاستدراك:
استدرك الشيرازي على الخصم القائل: لا يجوز إجراء العلة في احتجاجه: بأن الأحكام إنما شرعت لمصلحة المكلفين، فيجوز أن تكون حلاوة السكر تدعو الإنسان إلى تناوله، وحلاوة غيره لا تدعو إلى تناوله
…
بقياس الخلف؛ وهو أن لو كان القصد به ما ذكرتم لاقتصر على بيان الحكم؛ ولكن لما لم يقتصر على ذلك؛ بل ذكر الحكم وعلته؛ فالنتيجة: ليس القصد ما ذكرتم؛ بل قصد إجراء الحكم حيث وجدت العلة، فاستثناء نقيض تاليه يستلزم نقيض مقدمه؛ وذلك لأن نفي اللازم نفي الملزوم.
ثم ذكر استدراك الخصم عليه بقياس الخُلْف أيضًا فقال: قالوا: لو كان ذكر التعليل في شيء يقتضي الطرد والجريان؛ لوجب إذا قال الرجل: أعتقت عبدي فلانًا لأنه أسود أن يعتق عليه كل عبد أسود؛ ولكن لا يقال هذا، فالنتيجة: ذكر العلة لا يقتضي الطرد والجريان، فاستثناء نقيض تاليه يستلزم نقيض مقدمه؛ وذلك لأن نفي اللازم نفي الملزوم.
ثم ذكر دليل الخصم: بأن ما جعل علة في الحكم غير موجب للحكم بنفسه؛
(1) التبصرة (ص: 274 - 275).
لأنه قد كان موجودًا قبل ذلك ولم يوجد الحكم، ولأنه صار موجبًا بجعل جاعل، فيجب أن لا يكون علة إلا حيث جعلها علة.
واستدرك على دليلهم هذا بقياس الخُلْف فقال: لو كان قولكم هذا صحيحًا؛ لوجب أن لا يكون علة إلا في الزمان الذي جعله فيه علة؛ ولكن لم يصح هذا في الزمان، فالنتيجة: لم يصح قولكم في الأعيان، فاستثناء نقيض تاليه يستلزم نقيض مقدمه؛ وذلك لأن نفي اللازم نفي الملزوم.
• المثال الثاني:
وقال -أي الشيرازي- في موضع آخر في مسألة (القياس في الحدود والكفارات والمقدرات): "يجوز إثبات الحدود والكفارات والمقدرات بالقياس. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يجوز (1)
…
واحتجوا: بأن الحد شرع للزجر والردع عن المعاصي، والكفارة وضعت لتكفير المأثم، وما يقع به الردع والزجر من المعاصي، ويتعلق به التكفير عن المأثم لا يعلمه إلا الله تعالى، فكذلك اختصاص الحكم بقدر دون قدر لا يعلمه إلا الله تعالى، ولا يجوز إثبات شيء من ذلك بالقياس.
الجواب: هو أن هذا لو كان طريقًا في نفي القياس في هذه الأحكام؛ لوجب أن يجعل مثل ذلك طريقًا في نفي القياس في سائر الأحكام؛ كما فعله نفاة القياس فقالوا: إن الأحكام شرعت لمصلحة المكلفين، والمصلحة لا يعلمها إلا الله تعالى، فيجب أن لا يعمل فيها بالقياس، ولما بطل هذا في نفي القياس في سائر الأحكام؛ بطل في نفي القياس في هذه الأحكام" (2).
(1) يُنظر: الفصول في الأصول (4/ 105 - 124)؛ أصول السرخسي (2/ 164)؛ فواتح الرحموت (2/ 317 - 319).
(2)
التبصرة (ص: 276 - 277).
• بيان الاستدراك:
لو كان ما ذكرتموه طريقًا في نفي القياس في هذه الأحكام - الحدود والكفارات-؛ لوجب أن يجعل كذلك طريقًا في نفي القياس في سائر الأحكام؛ ولكنه لم يبطل القياس في سائر الأحكام، فالنتيجة: لم يبطل القياس في هذه الأحكام _الحدود والكفارات_.
قياس الخُلْف: استثناء نقيض تاليه يستلزم نقيض مقدمه؛ وذلك لأن نفي اللازم نفي الملزوم.
• المثال الثالث:
وقال في شرح اللمع (1) في مسألة (التعبد بأخبار الآحاد): "فإن قيل: يجوز أن يكون قد بعثهم إلى قوم في أحكام علموها بالتواتر قبل بعث الرسل إليهم، كما أن عندكم بعثهم إلى قوم علموا قبل البعث أن العمل بخبر الواحد واجب.
والجواب: أنه لو كان في تلك الأحكام تواتر لنقل إلينا وعلمناه كما علمنا سائر ما كان فيه تواتر، ولما لم ينقل إلينا ولم نعلمه؛ دلّ على أنه لم تكن تلك الأحكام تواترًا
…
".
• بيان الاستدراك:
استدرك الشيرازي على المنكرين للتعبد بأخبار الآحاد في دعواهم بأنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث آحاد الرسل إلى أقوام في أحكام قد علموها بالتواتر قبل إرساله للرسل فقال: لو كان في تلك الأحكام تواتر لنقل إلينا وعلمناه، ولما لم ينقل إلينا ولم نعلمه؛ دل على أنه لم تكن تلك الأحكام تواترًا، فاستخدم قياس الخلف، فاستثناء نقيض التالي يستلزم نقيض المقدم؛ وذلك لأن نفي اللازم نفي الملزوم.
(1)(2/ 589).
• المثال الرابع:
ذكر الرازي في مسألة (الأصل عدم الاشتراك) اعتراضًا مقدرًا من الخصم بقوله: "فإن قلت: لا نسلِّم أن الكلمات - في الأكثر - مفردة؛ لأن الكلمة إما حرف، أو فعل، أو اسم.
أما الحرف فكتب النحو شاهدة بأنه مشترك. وأما الفعل فهو إما الماضي، أو المستقبل، أو الأمر. أما الماضي والمستقبل فهما مشتركان؛ لأنهما تارة يستعملان في الخبر، وأخرى في الدعاء؛ ولأن صيغة المضارع مشتركة بين الحال والاستقبال، وأما صيغة (افعل) فالقول بأنها مشتركة بين الوجوب والندب مشهور. وأما الأسماء ففيها اشتراك كثير، فإذا ضممنا إليها الأفعال والحروف كانت الغلبة للاشتراك.
قلت: الأصل في الألفاظ الأسماء، والاشتراك نادر فيها؛ بدليل أنَّه لو كان الاشتراك أغلب لما حصل فهم غرض المتكلم في الأكثر، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الغالب عدم الاشتراك" (1).
• بيان الاستدراك:
استدرك الرازي على اعتراض الخصم في قوله: إن الأصل الاشتراك بأنه لو كان الاشتراك أغلب لما حصل فهم غرض المتكلم؛ ولكنه حصل فهم غرض المتكلم، النتيجة: الغالب عدم الاشتراك.
قياس الخُلْف: استثناء نقيض تاليه يستلزم نقيض مقدمه؛ وذلك لأن نفي اللازم نفي الملزوم.
(1) المحصول (1/ 275 - 276).
• المثال الخامس:
قال الآمدي في مسألة (هل يجوز أن يقال للمجتهد: احكم؛ فإنك لا تحكم إلا بالصواب؟ ): "
…
والمختار: جوازه دون وقوعه
…
" (1).
ثم ذكر استدراكًا من الخصم القائل بالمنع: "فإن قيل: يمتنع على الشارع قول ذلك؛ لاستحالة استمرار المكلف على اختيار الصلاح دون الفساد. كما لا يجوز اتفاق الأفعال الكثيرة المحكمة من غير علم، ثم لو جاز ذلك في حق المجتهد لجاز مثله في حق العامي وليس كذلك"(2).
• بيان الاستدراك
لو جاز في حق المجتهد لجاز مثله في حق العامي؛ ولكن لم يجز في حق العامي، النتيجة: لم يجز في حق المجتهد.
قياس الخُلْف: استثناء نقيض تاليه يستلزم نقيض مقدمه؛ وذلك لأن نفي اللازم نفي الملزوم.
• ثالثًا: استدراك عقلي مادته القياس الاستثنائي المنفصل:
القياس الاستثنائي المنفصل عند المنطقيين، ويسميه الفقهاء (السَّبْر والتقسيم)(3).
ويتركب هذا القياس من مقدمتين ربطت إحداهما بالأخرى بأداة عناد.
سمي هذا القياس بالمنفصل للانفصال بين جزئي المقدمتين.
وهو ثلاثة أقسام:
1 -
مانعة جمع: وهي القضية التي تمنع اجتماع المقدم والتالي، ولا تمنع انعدامهما.
(1) يُنظر: الإحكام للآمدي (4/ 253 - 254).
(2)
المرجع السابق (4/ 253 - 259).
(3)
يُنظر: المستصفى (1/ 130)؛ تقريب الوصول (ص: 126)؛ البحر المحيط (5/ 222).
مثل: (هذه السبورة إما سوداء أو خضراء)، فلا يجوز اجتماع اللون الأسود والأخضر، ويجوز خلوهما بأن تكون السبورة صفراء مثلاً.
2 -
مانعة خلو: وهي القضية التي تمنع الخلو عن مقدمها وتاليها، ولا تمنع اجتماعهما. مثل:(مثل الجليس الصالح كحامل المسك: إما أن يُحذِيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيباً)(1).
فحامل المسك الذي تجالسه قد يمنحك من مسكه، وتبتاع منه، وتجد منه ريحًا طيبة، كل هذه الثلاثة قد تجتمع، ولا يخلو عن واحد من هذه الثلاثة.
3 -
ومانعة جمع وخلو: وهي القضية التي تمنع اجتماع جزأيها المقدم والتالي، وتمنع الخلو عنهما. مثل:(هذا الشيء إما متحرك أو ساكن)، فيمتنع اجتماع الحركة والسكون في الشيء الواحد، ويمتنع خلوه عنهما.
وبالجملة كل نقيضين ينتج من إثبات أحدهما نفي الآخر، ونفيه إثبات الآخر، ولا يشترط انحصار القضية في قسمين؛ لكن من شرطها استيفاء أقسامه. (2)
فإن لم يستوفِ الأقسام فسبره ليس بصحيح؛ ولذلك استدرك الرازي على سبر إمام الحرمين في استدلاله بحجية الإجماع فقال: "المسلك الخامس: دليل العقل، وهو الذي عوَّل عليه إمام الحرمين رحمه الله فقال: (إجماع الخلق العظيم على الحكم الواحد
(1) مقتبسًا من الحديث «إنما مثَلُ الْجَليسِ الصَّالحِ وَالْجَليسِ السَّوءِ كحاملِ الْمسْكِ وَنافخِ الكيرِ؛ فحاملُ الْمسْكِ إمَّا أن يُحذيّك، وأما أن تبتاع منه، وإما أن تَجدَ منه ريحًا طيبةً. وَنافخُ الكير إما أن يُحرقَ ثيابك، أو تَجدَ ريحًا خَبيثَةً» . والحديث في الصحيحين، واللفظ لمسلم. يُنظر: صحيح البخاري، ك: البيوع، ب: في العطار وبيع المسك، (2/ 741/ح: 1995)، ك: الذبائح والصيد، ب: المسك، (5/ 2104/ح: 5214)؛ صحيح مسلم، ك: البر والصلة والآداب، ب: استحباب مُجالَسَةِ الصالحين ومُجَانَبَةِ قُرنَاءِ السّوءِ، (4/ 2026/ح: 2628).
(2)
يُنظر: شرح الأخضري على السلم المنورق (ص: 36)؛ المستصفى (1/ 130 - 133)؛ محك النظر (ص: 226 - 229)؛ معيار العلم (ص: 100)؛ شرح التفتازاني على شمسية المنطق (ص: 253)؛ ضوابط المعرفة (ص: 97 - 100).
يستحيل أن يكون إلا لدلالةٍ أو أمارةٍ.
فإن كان لدلالة فقد كشف الإجماع عن وجود تلك الدلالةِ؛ فيكون خلاف الإجماع خلافًا لتلك الدلالة.
وإن كان لأمارةٍ فقد رأينا التابعين قاطعين بالمنع عن مخالفة هذا الإجماع، فلولا اطلاعهم على دلالة قاطعةٍ مانعةٍ من مخالفة هذا الإجماع؛ وإلا استحال اتفاقهم على المنع من مخالفته) (1).
وهذه الدلالة ضعيفة جدًّا؛ لاحتمال أن يقال: إنهم قد اتفقوا على الحكم لا لدلالة ولا لأمارة؛ بل لشبهة. وكم من المبطلين - مع كثرتهم وتفرقهم - في الشرق والغرب قد اتَّفقت كلمتهم لأجل الشبهة!
سلمنا الحصر، فَلِمَ لا يجوز أن يكون لأمارة تفيد الظن؟ " (2).
• بيان الاستدراك:
ضعف الرازي استدلال إمام الحرمين بإثبات حجية الإجماع بدليل العقل الذي استدل به من وجهين:
الأول: أن سبره ليس حاصرًا، ويشترط في السبر استيفاء جميع أقسامه.
الثاني: في حالة تسليم حصر إمام الحرمين لجميع الأقسام استدرك عليه بسؤال لِمَ لا يكون ثبوت الإجماع بأمارة تفيد الظن؟ .
• أمثلة استدراك عقلي مادته القياس الاستثنائي المنفصل:
• المثال الأول:
ذكر الآمدي في (الحكم على الوصف بكونه سببًا) اعتراضًا مقدرًا من الخصم:
(1) يُنظر: البرهان (1/ 676 - 682).
(2)
المحصول (4/ 100 - 101).
"فإن قيل: لو كانت السببية (1) حكمًا شرعيًا؛ لافتقرت في معرفتها إلى سبب آخر يعرِّفها، ويلزم من ذلك إما الدور إن افتقر كل واحد من السببين إلى الآخر، وإما التَّسَلْسُل (2) وهو محال.
وأيضًا فإن الوصف المعرِّفَ للحكم إما أن يعرفه بنفسه أو بصفةٍ زائدة.
فإن كان الأول لزم أن يكون معرفًا له قبل ورود الشرع، وهو محال.
(1) قال العضد الإيجي: الحكم على الوصف بالسببية هو: جعل الوصف ظاهرًا منضبطًا مناطًا لوجود حكم. فلله تعالى في الزنا حكمان: الأول: وجوب الجلد. والثاني: سببية الزنا له. يُنظر: شرح مختصر المنتهى الأصولي للعضد (2/ 225).
(2)
التسلسل: هو ترتيب أمور غير متناهية. يُنظر: التعريفات (ص: 80)؛ التعاريف (ص: 175).
وسمي بذلك أخذًا من السلسلة، فهي قابلة لزيادة الحِلَق إلى ما لانهاية، فالمناسبة بينهما: عدم التناهي بين طرفيهما؛ ففي السلسلة مبدؤها ومنتهاها، وأما التسلسل فطرفاه الزمن الماضي والمستقبل. يُنظر: مصطلحات في كتب العقائد (ص: 71 - 72).
وقد تحدث شيخ الإسلام عن التسلسل في مواضع كثيرة مختلفة من كتابه "درء التعارض"؛ ومن ذلك قوله: "ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات؛ وهو أن يكون للحادث فاعل، وللفاعل فاعل، وهذا باطل بصريح العقل، واتفاق العقلاء .. التسلسل في تمام الفعل والتأثير، وهو نوعان: تسلسل في جنس الفعل، وتسلسل في الفعل المعين. فالأول مثل أن يقال: لا يفعل الفاعل شيئًا أصلاً حتى يفعل شيئًا معينًا، أولا يحدث شيئًا حتى يحدث شيئًا، أو لا يصدر عنه شيء حتى يصدر عنه شيء، فهذا أيضًا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء
…
وأما الثاني فيجوز أن يكون كل ما يعتبر في حدوث المعين كالفلك وغيره حادثًا ولا يلزم من حدوث شرط الحادث المعين هذا التسلسل؛ بل يلزم منه التسلسل المتعاقب في الآثار؛ وهو أن يكون قبل ذلك الحادث حادث، وقبل ذلك الحادث حادث، وهذا جائز عندهم وعند أئمة المسلمين. يُنظر: درء التعارض (1/ 363 - 365).
والخلاصة: أن التسلسل في الآثار -التي هي الأفعال- جائز، وأما التسلسل في المؤثرين -الذين هم الفاعلون والعلل الفاعلة ونحوه- فهذا ممتنع. وبهذا يتضح أن القول بأن التسلسل ممتنع على الإطلاق ليس بصحيح.
وذكر ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية تقسيم التسلسل إلى: محال، وواجب، وممكن، فليُنظر: شرح العقيدة الطحاوية (2/ 106 - 109).
وإن كان بصفة زائدة عليه؛ فالكلام في تلك الصفة، كالكلام في الأول، وهو تسلسل ممتنع.
وأيضًا فإن الطريق إلى معرفة كون الوصف سببًا للحكم إنما هو ما يستلزمه من الحِكْمة (1) المستدعية للحُكم من جلب مصلحة أو دفع مفسدة، وذلك ممتنع لوجهين:
الأول: أنه لو كانت الحكمة مُعرِّفة لحكم السببية؛ لأمكن تعريف الحكم المسبب بها من غير حاجة إلى توسط الوصف، وليس كذلك بالإجماع.
الثاني: أن الحكمة إما أن تكون قديمة أو حادثة.
فإن كان الأول لزم من قِدَمها قِدَمُ موجبها، وهو معرفة السببية.
(1) الحكمة في الاصطلاح: ما يترتب على التشريع من جلب مصلحة أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو تقليلها. يُنظر: حاشية البناني (2/ 237)؛ معجم مصطلحات أصول الفقه (ص: 184).
من قال بتعليل الأحكام اتفق على تعليل الحكم بالوصف الظاهر المنضبط المشتمل على الحكمة؛ وذلك مثل: تعليل قصر الصلاة للمسافر وإباحة الفطر بالسفر، أو تعليل إيجاب حد الزنا بالزنا. واختلفوا في تعليل الحكم بالحكمة نفسها، كتعليل قصر الصلاة وإباحة الفطر بدفع المشقة، أو تعليل إيجاب حد الزنا بمنع اختلاط الأنساب، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجوز تعليل الحكم بالحكمة مطلقًا - سواء كانت ظاهرة أو خفية، منضبطة أو غير منضبطة-؛ لأنها المقصود في التعليل. وذهب إلى ذلك بعض الأصوليين؛ منهم: الغزالي، والرازي، وبعض الحنابلة. يُنظر: شفاء الغليل (ص: 614)؛ المحصول (5/ 287)؛ التحبير (7/ 3195).
القول الثاني: المنع من التعليل بها مطلقًا؛ لخفائها وعدم انضباطها، وهو مذهب جمهور الأصوليين. ذكره الآمدي (3/ 254).
القول الثالث: التفصيل، فيجوز التعليل بالحكمة إذا كانت ظاهرة منضبطة بنفسها، ولا يجوز التعليل بها إذا كانت خفية مضطربة، وهو مذهب الحنفية والمالكية وبعض الحنابلة، واختيار الآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي. يُنظر: الإحكام (3/ 254)؛ مختصر ابن الحاجب (2/ 1040)؛ نهاية الوصول (8/ 3495)؛ التحبير (7/ 3195)؛ فواتح الرحموت (2/ 333).
وإن كان الثاني فلا بد لها من معرِّفٍ آخر؛ لخفائها، والتقسيم في ذلك المعرف عائد بعينه" (1).
• بيان الاستدراك:
استدرك الخصم على جعل السبب قسمًا من أقسام الحكم الشرعي، واستخدم في استدراكه القياس الاستثنائي المنفصل، فقال: لو كانت السببية حكمًا شرعيًّا؛ لاحتاجت في معرفتها إلى سبب آخر يعرفها؛ كسائر الأحكام الشرعية التي تحتاج في معرفتها إلى سبب يعرفها، ويلزم من افتقار السببية إلى السبب الآخر المعرف بها إما الدور أو التسلسل.
فالدور: نتيجة افتقار كل واحد من السببين إلى الآخر.
والتسلسل في الأسباب: يلزم أمور غير متناهية، وهذا بديهي الاستحالة.
فثبت فساد الاحتمالين، ومنه فساد قولكم بأن السبب من الحكم الشرعي.
وقول الخصم: (يلزم من ذلك إما الدور إن افتقر كل واحد من السببين إلى الآخر، وإما التسلسل وهو محال) قياس استثائي منفصل.
ثم استدرك الخصم باستدراك آخر؛ وهو أن الوصف المعرف للحكم إما أن يعرفه بنفسه، أو بصفة زائدة.
فإن كان الوصف معرفًا للحكم بنفسه؛ لزم أن يكون هذا الوصف معرفًا للحكم قبل ورود الشرع، وهو محال.
وإن كان الوصف معرفًا للحكم بصفة زائدة على الحكم؛ فإنه يلزم التسلسل، والتسلسل محال.
(1) يُنظر: الإحكام للآمدي (1/ 171 - 172).
وقول الخصم: (وأيضًا فإن الوصف المعرف للحكم إما أن يعرفه بنفسه أو بصفة زائدة) قياس استثنائي منفصل.
وقال الخصم: الطريق إلى معرفة كون الوصف سببًا للحكم هو ما يستلزمه الوصف من الحكمة المستدعية للحكم؛ من جلب مصلحة، أو دفع مفسدة، وهذا ممتنع لوجهين:
الأول: أنه لو كانت الحكمة هي المُعرِّفة لحكم السببية؛ لأمكن تعريف الحكم المسبب بالحكمة دون الوصف، وهذا خلاف الإجماع؛ إذ الإجماع تعريف الحكم المسبب بالوصف؛ لا بالحكمة.
الثاني: أن الحكمة إما أن تكون قديمة أو حادثة.
فإن كان الأول - الحكمة قديمة - لزم من قِدَمها قِدَمُ موجبها، وهو معرفة السببية، والسبب معرف للحكم لا مؤثر فيه، والأوصاف التي جعلت أسبابًا حادثة لا قديمة (1).
وإن كان الثاني - الحكمة حادثة- فلا بد من معرِّفٍ بها؛ وذلك لخفائها، والتقسيم في ذلك المعرِّف هو عينه تقسيم الحكمة إلى قديمة أو حادثة.
وقوله: (إن الحكمة إما أن تكون قديمة أو حادثة) قياس استثنائي منفصل.
• المثال الثاني:
ذكر الطوفي في مسألة (الواجب الموسع) استدراكًا من المانعين لاشتراط العزم في الواجب الموسع: "السؤال الثاني: أن العزم إمَّا أن يكون بدلاً عن أصل الفعل، أو عن تعجيله؛ فإن كان بدلاً عن الفعل؛ لزم سقوطه بالكلية وأن لا يجب فعله آخر الوقت؛ لئلا يجتمع البدل والمبدل، وإن كان بدلاً عن تعجيل الفعل؛
(1) يُنظر: بيان المختصر (1/ 405).
فقد صار مخيرًا بين تعجيله وتأخيره مع العزم على فعله آخر الوقت، فاستحالت المسألة، وانتقلت إلى مسألة الواجب المخيَّر، وزال الواجب الموسع بالكلية، وصارت المسألتان واحدة" (1).
• بيان الاستدراك:
استدرك المانعون من اشتراط العزم في الواجب الموسع على القائلين باشتراطه: بأن العزم إمَّا أن يكون بدلاً عن أصل الفعل الواجب، أو بدلاً عن تعجيله.
فإن كان الأول - العزم بدل عن أصل الفعل الواجب - لزم منه سقوط الفعل الواجب بالكلية؛ وذلك لامتناع اجتماع البدل والمبدل.
وإن كان الثاني - العزم بدل عن تعجيل الفعل - زال الواجب الموسع بالكلية، وانقلبت المسألة إلى الواجب المخير، فيخير المكلف بين تعجيل الواجب أو تأخيره.
وقول المستدرك: (إن العزم إمَّا أن يكون بدلاً عن أصل الفعل، أو عن تعجيله) قياس استثنائي منفصل.
• القسم الثاني (2): استدراك عقلي بالاستقراء.
وقد سبق تعريف الاستقراء، وبيان أقسامه، وذكر مثاله.
• تنبيه: الاستقراء عكس القياس المنطقي، فالقياس المنطقي: استدلال بكلي على جزئي. والاستقراء: الحكم على الكلي بحكم الجزئي (3).
(1) شرح روضة الناظر (1/ 318).
(2)
من الاستدراك العقلي الغير مباشر.
(3)
يُنظر: تيسير المقدمة المنطقية (ص: 51).