الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد ألزم نفسه بهذا وجعله من منهجه العلمي حيث قال: "وحقنا: أن نُحَكّم الأصول فيما نأتي ونذر، ولا نسلك بمسلك الحقائق ذبًّا عن مذهب"(1).
•
خامسًا: النظر في مآلات الاستدراك ومراعاة المصلحة
.
ووجه ذكر هذا الأدب بعد الأدب السابق: أن النظر في مآلات الاستدراك وما تقتضيه المصلحة توجب الشجاعة في نقد القول والاستدراك عليه؛ ولكن قد تقتضي المصلحة عدم التصريح باسم المستدرَك عليه، وقد تقتضي المصلحة أيضًا عدم التصريح باسم المستدرِك.
فمن مصلحة عدم التصريح باسم المستدرَك عليه: خشية ازدياد الخلاف، أو خشية رد الاستدراك، أو الوقوع في محظور شرعي.
قال ابن عقيل: "وفي الجملة والتفصيل: الأدب معيار العقول، ومعاملة الكرام، وسوء الأدب مقطعة للخير، ومدمغة للجاهل، فلا تتأخَّرُ إهانته، ولو لم يكن إلا هجرانه وحرمانه"(2).
فإنه قد يكون من الحكمة أن لا يصرح المستدرِك باسم المستدرَك عليه؛ خاصة إذا كان المستدرَك عليه له منزلة رفيعة؛ فإن تصريحه بالمخالفة له قد يكون سببًا في هجر قول المستدرِك.
ولعل هذا السبب هو الذي جعل الشافعية لا يقدمون على شرح البرهان للجويني لتصريحه المخالفة للأشعري وغيره.
جاء في الفكر الأصولي (3): "رغم الأهمية العلمية لكتاب البرهان في أصول الفقه
(1) يُنظر: البرهان (1/ 595).
(2)
يُنظر: الواضح في أصول الفقه (1/ 529).
(3)
يُنظر: (ص: 317).
فإنه لم يحظ بكتابات وتحليل الأصوليين كما ينبغي لمثل هذا الكتاب، ولعل جملة الأسباب؛ بل أهمها: ما أبداه الجويني من حرية مطلقة في الرأي والنقد لآراء السابقين من العلماء، الأمر الذي ينفر منه المتأخرون؛ لتحكم عقيدة التقليد في نفوسهم".
وكذلك المعتزلة في تركهم المعتمد لمخالفة أبي الحسين لهم، وتصريحه بمخالفة القاضي عبدالجبار الهمداني في عدة مواطن.
جاء في الفكر الأصولي (1): "لم يأسر التقليد أبا الحسين البصري؛ بل بدا في كتاب المعتمد صاحب رأي مستقل لم يئنه عن هذا أواصر الاعتزال القوية التي تربطه مع المعتزلة عمومًا، وشيخه المعجب به القاضي عبدالجبار خصوصًا فقد عارضه وعارضهم كثيرًا، وأبطل حججهم، وقدم ما يراه حقًّا، وهذا ما أثار عليه حفيظة المعتزلة، وأوغر صدورهم، فهجروا مؤلفاته".
وجاء في تحقيق المستصفى: أن الغزالي لم يهتم بنسبة الأقوال إلى أصحابها؛ بل كثيرًا ما يستعمل كلمة (قال قوم) و (قيل) ، وصنيعه هذا لا يدل على عدم معرفته بأصحابها، أو عدم اهتمامه بهم؛ ولكنه يرى أن ذكر صاحب الرأي الفاسد وتبيين غلطه ربما أدى ذلك إلى تجريحه فيقع في الغيبة، وهو أمر محرم شرعًا. (2)
وذكر الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين (3) منهجه هذا فقال عند حديثه عن بواعث الغيبة: إن ثلاثة منها تختص بأهل الدين والخاصة فقال: "
…
أولاً: تنبعث
(1) يُنظر: (ص: 235).
(2)
يُنظر: مقدمة تحقيق المستصفى (1/ 66).
(3)
إحياء علوم الدين: لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي (ت: 505 هـ)، رتبه على أقسام أربعة؛ وهي: ربع العبادات، وربع العادات، وربع المهلكات، وربع المنجيات، وهو تصوف، وقال حاجي خليفة:(وهو من أجل كتب المواعظ وأعظمها)، وعلى هذا الكتاب أعمال كثيرة؛ من اختصار له، وشروح عليه، وتخريج لأحاديثه. يُنظر: كشف الظنون (1/ 23)؛ اكتفاء القنوع (1/ 190). ويُنظر قوله في الإحياء (3/ 147).
من الدين داعية التعجب في إنكار المنكر والخطأ في الدين فيقول: ما أعجب ما رأيت من فلان! ، فإنه قد يكون به صادقًا، ويكون تعجبه من المنكر؛ ولكن كان حقه أن يتعجب ولا يذكر اسمه، فيسهل الشيطان عليه ذكر اسمه في إظهار تعجبه، فصار به مغتاباً وآثماً من حيث لا يدري
…
".
وأما عن مصلحة عدم التصريح باسم المستدرِك فقد يكون من باب التأدب مع المستدرَك عليه، فينسب الاستدراك باسم مجهول؛ كقول:(ولقائل أن يقول)، أو (قيل)، ونحو ذلك.
قال ابن عقيل: "وإن كان أعلى منه فليتحرَّ ويجتنب القول له: هذا خطأ، أو غلط، وليس كما تقول؛ بل يكون قوله له: أرأيت إن قال قائل: يلزم على ما ذكرت كذا، وإن اعترض على ما ذكرت مُعترِضٌ بكذا؛ فإن نفوس الكرام الرؤساء المُقدَّمين تأبى خشونة الكلام؛ إذ لا عادة لهم بذلك، وإذا نفرت النفوس عَمِيَتِ القلوب، وجَمَدَتِ الخواطر، وانسدَّتْ أبواب الفوائد، فحُرمَ الكلُّ الفوائد بسفه السفيه، وتقصير الجاهل في حقوق الصدورِ.
وقد أدَّبَ الله أنبياءه في خطابهم للرؤساء من أعدائه، فقال لموسى وهارون في حق فرعون:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا} [طه: 44]، سمعت بعض المشايخ المقدَّمين في علوم القرآن يقول: صيغة هذا القول اللَّيِّن في قوله سبحانه: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18)} [النازعات: 17 - 18]، وما ذلك إلا مراعاة لقلبه؛ حتى لا يَنِفَر بالقول الخشن عن فهم الخطاب، فكيف برئيس يُقَدَّمُ في العلم، تُطلَبُ فوائده، ويُرجى الخير من إيراده، وما تَسْنَحُ به خواطره؟ فأحرى بنا أن نُذلِّلَ له العبارة، ونُوطِّئ له جانبَ الجدلِ؛ لتنهال فوائده انهيالاً" (1).
ومن ذلك "الأرموي رحمه الله كان إذا ما عنَّ له تدوين ملاحظة ابتدأها بقوله:
(1) يُنظر: الواضح في أصول الفقه (1/ 528).