الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولهذا إذا دبغ الإهاب وهو جزء من الميتة طهر، لما في الدباغ من قطع للدماء والرطوبات النجسة، وما لا نفس له سائلة ليس له دم مسفوح حتى يتنجس بالموت.
دليل من قال بنجاسة ميتة ما لا نفس له سائلة:
الدليل الأول:
من القرآن قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)[المائدة: 3]، وهذا ميتة.
وقال تعالى: (قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً)[الأنعام: 145].
وهذا عام يشمل كل ميتة، سواءً كان له نفس سائلة أم لا.
وأجيب:
بأنكم لا تأخذون بعموم هذا اللفظ، فهذا شعر الميتة إذا جز حال الحياة لا تقولون بنجاسته، وهو جزء من الميتة، وهذا جلد الميتة يطهره الدباغ، وهو جزء من الميتة، فكونه يخرج من هذا العموم الذباب ونحوه مما لا دم له ليس بمستنكر، فيكون قد خص من هذا العموم ما لا دم له، كما خص غيره من الجلود إذا دبغت ونحوها.
الدليل الثاني:
(1087 - 58) من السنة، ما رواه البخاري من طريق الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة،
أنه سمع ابن عباس يحدثه عن ميمونة، أن فأرة وقعت في سمن فماتت فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: ألقوها وما حولها وكلوه
(1)
.
وجه الاستدلال:
أنه تنجس ما حول الفأرة حين ماتت، وهذا دليل على نجاسة الميتة، وهو عام في
(1)
صحيح البخاري (5538).
كل ميتة، ولا يخرج منه شيء إلا بدليل.
قال ابن حزم: «العجب من تفريق أبي حنيفة ومالك بين ما لا دم له يموت في الماء وفي المائعات، وبين ما له دم يموت فيها، وهذا فرق لم يأت به قط قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا قول صاحب، ولا قياس ولا معقول، والعجب من تحديدهم ذلك بما له دم، وبالعيان ندري أن البرغوث له دم والذباب له دم.
فإن قالوا: أردنا ما له دم سائل، قيل: وهذا زائد في العجب ومن أين لكم هذا التقسيم بين الدماء في الميتات؟ وأنتم مجمعون معنا ومع جميع أهل الإسلام على أن كل ميتة فهي حرام، وبذلك جاء القرآن، والبرغوث الميت والذباب الميت والعقرب الميت والخنفساء الميت حرام بلا خلاف من أحد، فمن أين وقع لكم هذا التفريق بين أصناف الميتات المحرمات؟ فقال بعضهم: قد أجمع المسلمون على أكل الباقلاء المطبوخ وفيه الدقش الميت، وعلى أكل العسل وفيه النحل الميت وعلى أكل الخل وفيه الدود الميت، وعلى أكل الجبن والتين كذلك، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقل الذباب في الطعام. قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: إن كان الإجماع صح بذلك كما ادعيتم، وكان في الحديث المذكور دليل على جواز أكل الطعام يموت فيه الذباب كما زعمتم، فإن وجه العمل في ذلك أحد وجهين: إما أن تقتصروا على ما صح به الإجماع من ذلك وجاء به الخبر خاصة. ويكون ما عدا ذلك بخلافه، إذ أصلكم أن ما لاقى الطاهرات من الأنجاس فإنه ينجسها، وما خرج عن أصله عندكم فإنكم لا ترون القياس عليه سائغا أو تقيسوا على الذباب كل طائر، وعلى الدقش كل حيوان ذي أرجل، وعلى الدود كل منساب. ومن أين وقع لكم أن تقيسوا على ذلك ما لا دم له؟ فأخطأتم مرتين:
إحداهما: أن الذباب له دم، والثانية: اقتصاركم بالقياس على ما لا دم له، دون أن تقيسوا على الذباب كل ذي جناحين أو كل ذي روح. فإن قالوا: قسنا ما عدا
ذلك على حديث الفأر في السمن. قيل لهم: ومن أين لكم عموم القياس على ذلك الخبر؟ فهلا قستم على الفأر كل ذي ذنب طويل، أو كل حشرة من غير السباع وهذا ما لا انفصال لهم منه أصلًا، والعجب كله من حكمهم: أن ما كان له دم سائل فهو النجس، فيقال لهم: فأي فرق بين تحريم الله تعالى الميتة وبين تحريم الله تعالى الدم؟ فمن أين جعلتم النجاسة للدم دون الميتة؟ وأغرب ذلك أن الميتة لا دم لها بعد الموت فظهر فساد قولهم بكل وجه»
(1)
.
• والجواب على ما أثاره ابن حزم، أن يقال:
أولًا: ليس كل دم حرام، وإنما النص جاء في الدم المسفوح، فقال تعالى:(أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً).
ثانيًا: (1088 - 59) لا شك أن تحريم الميتة كان من أسبابها انحباس الدم، ولذلك روى البخاري في صحيحه من طريق سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة،
عن جده أنه قال: يا رسول الله ليس لنا مدى فقال ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل ليس الظفر والسن أما الظفر فمدى الحبشة وأما السن فعظم
(2)
.
فقوله: ما أنهر الدم، دليل على أن انحباس الدم وعدم إنهاره مؤثر في حل الذبيحة.
ثالثًا: جاء في حديث ابن عباس في مسلم: إذا دبغ الإهاب فقد طهر
(3)
.
فالإهاب لما كان متصلًا برطوبة النجاسة ودمها كان نجسًا، فإذا دبغ قطعت عنه هذه النجاسات، فأصبح طاهرًا، فما بالك بالحيوان الذي ليس فيه دم أصلًا.
وقد ذكر ابن تيمية أن علة نجاسة الميتة، إنما هو لاحتباس الدم فيها، فما لا نفس له سائلة، ليس فيه دم سائل، فإذا مات لم يكن فيه دم يحتبس فيه، فلا ينجس والذي
(1)
المحلى (1/ 152) وما بعدها.
(2)
صحيح البخاري (2488)، ومسلم (1968).
(3)
مسلم (366).